هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مفاوضات أوسلو
مشهد مسرحيّ
بين فينة وأخرى، تتردّد الريح فتسحب ظلال الأشجار الطويلة على الحُطام الذي يشرف عليه رجلان. تنبعث من الحطام رطوبة ضمّخته في باطن الأرض لزمن بعيد، ممّا يبعث في النفس شعورًا كذاك الذي ينتابها عندما يُغيّب أحدنا ميتًا في قبره، حيث تمتزج الدهشة بخوفٍ غير مُسبّب.
ثمة خيال بلا هيئة محددة يظهر وهْلةً ثم لا يلبث أن يختفي. لم يُلقِ الرّجلان بالًا، فالظّلال تتشابه في ليل ليس فيه من طقوس الشتاء سوى الريح.
الأول "شلوم" كان قصيرًا، لكنه ذو بنية قوية، وجبهته عريضة تكاد تغطي نصف وجهه الذي تستقر فيه عينان صغيرتان، تصاحبهما نظرة تأمل يتخلّله الرّواغ.
شفته السفلى مندفعة بعض الشيء للأمام، فيبدو كمن يَهِمّ بالكلام. كانت سحْنته ثابتة إلى حدٍّ غريب، فيُخيّل للمرء بأنها رافقته منذ الولادة لثبوتها على هيئة واحدة.
أما الآخر "ملخماة" فكان طويلًا بدينًا، وهو ذو فمٍ رقيق وحازم وصوت جَهْوَريّ. كانت ذراعاه طويلتين جدًا، تكادان تلامسان الأرض إذا دلّاهما. نظرته فاحصة مفزعة، ما يفتأ يقلبها قاطبًا في اتجاهات متفرقة.
ملخماة: إنك ماضٍ بنا إلى تيه جديد، سأتصدى لك، فأنت كواحد منهم، أمَا تدرك ذاك الشّعور الذي يدفعهم لغرسٍ كل خريف، وفي أرض نستردّها متى نشاء، ولكنهم لا يملّون.
شلوم: دعْهم يعتاشون، بينما نحن نصنع الزّمن!
ملخماة: أمَا لوّعَتَك عقدة الضّياع وذاك الرّحيل الذي ما حسبناه ينتهي، ملكنا نصف الحديد في الأصقاع، وكل الذّهب، فدارت مصانعنا، وسخّرنا كل الأجساد ورائحة العرق وأنفاس البغايا، وما تخلّصنا من ذاك الشعور الذي يتركنا معلَّقين بين السماء والأرض، ظلّ يرافقنا منذ مضى عهد الرّب.
شلوم: لكن بقي الشعب وقهر الزمن. إنّي أريد استِكْناه هذي الروح التي قهرت، لا ضير إن أقام بيننا الأغراب، دعْهم يقيمون ما شاؤوا، طالما ينتهون في زماننا.
الخيال: الشعب قد تلوّن .............. (يختفي).
يُبهَت القصير، وينتصب الطويل، ويذْرع خلال مسافة قصيرة، لا شيء سوى الظلال على الحطام، كان يقذفها الريح.
ملخماة: من البداية كان عليك أن تسحقها، تلك الأيدي التي تلوّح لموْتنا.
شلوم: دعهم يرتعشون قبل أن يموتوا، هل رأيت قتيلًا لا يرتعش قبل أن يقضي؟!
ملخماة: إنك تصنع منهم أسطورة، فهؤلاء القتلى - كما تدعوهم – تعِدُهُم بنصف الأرض التي قد وعدناها الأحفاد وانتزعناها من الخيال.
شلوم: لكن سندفعهم من ثقبٍ في التاريخ إلى جهة منسية، فلا يعودون، ولا يذكرهم أحد.
ملخماة: لتعلن أنها أرضنا إذن.
شلوم: لا، فالعالم يستعيد ضميره الآن بعد حربين كونيتين وله عيون لا تغيب.
ملخماة: إنه حقّنا.
شلوم: خيالنا وعبقريتنا، وقد مضى زمن الفوضى والحروب الذي فيه بُعِثنا من جديد.
ملخماة: لن أسمح أبدًا أن تشُقّ مجدنا. عظامهم لم تزل تحمل نكهة "البيّارات"، وذكراهم بعد طازجة، ونحن الذين تكدّس في جماجمنا غبار القرون التي انقضت في كلامنا عن أرض تجمعنا من شتات أزليّ.
شلوم: أُعطيهم نصف الأرض، وأمْنعُ دستورهم ودولتهم فأكون كمالِك الأرض يؤجّر الغرباء.
ملخماة: يفزعُني ذلك التلهّف في عيونهم، إنهم يصنعون موتنا تحت جلودهم، ربما تصبح النساء لديهم مخازن للذخيرة، إنهم يخيفونني إذ يقفون عراةً أمامي – وأنا المدجّج بالحديد – وأيديهم تلوّح مشدودة في وجهي، ونظراتهم تفيض بالحنق، لقد استحوذ على قلوبهم شيء واحد، وها أنت تهبه لهم.. الأرض والمكان.
شلوم: إني لا أهبهم إلا بعض الورق.
ملخماة: إنك تمسخ فعلتك كي تمررها.
شلوم: إني رجل قد خَبُر الزمان حتى أوشكت على صنعه، إنه حجر الخلود الذي بحث عنه الفلاسفة قديمًا، أليس الزمان هو الذي يسري في كل الأرجاء، أمّا الأمكنة فجامدة. إنْ سَطوْتُ على الزمان فلا أحد يتهمني، بل إن العالم سيُثني على نبوغي، ألا ترى تلك الغُلالة الرقيقة التي تجمع الزمان والعبقرية؟ والتاريخ وليد الزمان أيضًا فليس المكان الذي يتغير فينشأ التاريخ، ونحن قد خسرنا ما يكفي من التاريخ حتى كدنا نندثر.
ملخماة: إنك تحلّق في وهم، إنّ مدينة واحدة كافية أن يتكدسوا فيها كموج، إنهم متعطشون للقوة بعد أن استساغوا الألم. ليسوا عاجزين، لكنه المكان الذي دومًا للآخرين وأنت الآن تهبهم ما هم بحاجة إليه.
شلوم: أعطيهم المكان وأعتقل الزمان، لو ملكوا الاثنين معًا عندها فقط تبدأ حياتهم.
ملخماة: إنها مسألة وجود، حياة أو موت وأنت تعطيهم فرصة للحياة، الحديد بأيدينا ولن يرتاح أحدنا إلا باختفاء الآخر.
شلوم: لكنك لا تستطيع أن تبيد شعبًا.
ملخماة: أما استطعنا أن نصنع شعبًا.
شلوم: ليت العالم يهبنا فرصة أخرى للفوضى.
ملخماة: إنه حقنا.
شلوم: خيالنا وعبقريتنا وقد مضى زمن الفوضى الذي فيه بُعثْنا.
1993