صحافة دولية

هكذا كان القرضاوي "ملهما للثوار" ومجددا إسلاميا عالميا

القرضاوي توفي الاثنين الماضي عن عمر 96 عاما- جيتي
القرضاوي توفي الاثنين الماضي عن عمر 96 عاما- جيتي

نشر الأكاديمي محمد فاضل، أستاذ القانون في جامعة تورنتو الكندية، مقالا ينعى فيه الشيخ يوسف القرضاوي ويستذكر دوره في الثورة المصرية وكيف كان مجددا إسلاميا عالميا فريدا لا يمكن تكراره مستقبلا.

 

ونشر مقاله الذي نشره في موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، وترجمته "عربي21"، بعنوان "العالم الناشط الذي ساعد على إلهام الثوار في مصر".

 
وأشار فيه إلى أن القرضاوي ارتبط بجماعة الإخوان المسلمين منذ زمن طويل، وظل يناضل من أجل تنزيل الفقه الإسلامي بيسر في حياة الناس المعاصرة.

 

وفي ما يأتي النص الكامل للمقال كما ترجمته "عربي21":
  
بينما كان الناس يتوافدون لأداء صلاة الجمعة في ميدان التحرير بالقاهرة يوم الثامن عشر من شباط/ فبراير 2011، صعد إلى المنصة رجل مسن ليخطب في المؤمنين.
 
حينها قال القرضاوي، الذي وافته المنية في قطر يوم الاثنين، عن عمر ناهز السادسة والتسعين: "لا تسمحوا لأحد بسرقة الثورة منكم، لا سيما هؤلاء المنافقون الذين سيظهرون بوجه جديد يناسبهم".
 
وأضاف: "الثورة لم تنته بعد. فلقد بدأت لتوها من أجل بناء مصر، فاحرسوا ثورتكم".
 
وكان الرئيس المصري حسني مبارك قد استقال من منصبه الرئاسي قبل ذلك بسبعة أيام بعد انطلاق احتجاجات شعبية عارمة ضد إدارته التي ما فتئت تحكم منذ عقود.
 
وبنهاية تلك السنة، فاز حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين التي كانت محظورة من قبل، بأكبر عدد من مقاعد البرلمان في أول انتخابات حرة ونزيهة تشهدها البلاد، وانتخب مرشح حزب الحرية والعدالة محمد مرسي رئيسا للجمهورية.

 

اقرأ أيضا: ما الذي تفرّد به القَرَضاوي حتّى يكون له بحياته وموته كلّ هذا الأثر؟
 
كواحد من أبرز المفكرين المرتبطين بجماعة الإخوان المسلمين، احتل القرضاوي هو وتعاليمه موقعا مركزيا في أحداث هزت العالم. سوف يذكره الناس على نطاق واسع كأول، وربما آخر، عالم مسلم نشط على مستوى العالم.
 
وطوال عمره كمفكر جماهيري كسب ملايين الأتباع بفضل أسلوبه المميز في التعامل مع الشريعة الإسلامية –وهو الأسلوب الذي جمع من خلاله ما بين العلم والنشاط السياسي– وكذلك بفضل قدرته على بث هذه الأفكار بلغة بسيطة مفهومة.
 
نشاط معاد للاستعمار
 
ولد القرضاوي في مصر عام 1926، ونشأ فيها وهي لا تزال تحت حكم الاستعمار البريطاني. ودمج في شبابه بين التعليم الديني والنشاط المعادي للاستعمار، وهو مزيج أدى به إلى أن يعتقل مرارا وتكرارا من قبل الحكومة المصرية.
 
وبعد استقلال مصر، تعرض للاعتقال في الخمسينيات من زعيم القومية العربية الرئيس جمال عبد الناصر بسبب ارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين – والتي تأسست في مصر عندما كان القرضاوي لا يزال في الثانية من عمره.
 
وأخيرا، غادر مصر في مطلع الستينيات حينما عين عميدا لكلية الشريعة في جامعة قطر، التي كانت قد تأسست لتوها، وحصل على الجنسية القطرية.
 
وحقق شهرة واسعة كعالم عندما كان يعيش في قطر، بعد أن صدر له كتاب فقه الزكاة في عام 1973، والذي كان محاولة لشرح وإصلاح أحكام الزكاة، أحد الأركان الخمسة التي يقوم عليها الإسلام.
 
وكان طموح القرضاوي من الكتاب هو إعادة صياغة هذه الأحكام، بحيث تغدو أكثر مواءمة لتطلعات المسلمين المعاصرين، وذلك من خلال ربطها بمفاهيم مثل النزاهة الاقتصادية بدلا من أن تظل مغروسة في مقاربة شعائرية جامدة.
 
وحفزته رغبته على الإتيان بتفسيرات جديدة لأحكام الشريعة الإسلامية تكون ذات صلة مباشرة بحياة المسلمين المعاصرين على انتهاج أساليب ظرفية كان على استعداد من خلالها للأخذ بالاعتبار آراء غير تقليدية من داخل ومن خارج المذاهب الفقهية السنية الرئيسية بما في ذلك، وهو الأمر الأكثر راديكالية، من داخل الفقه الشيعي.
 
وسعى القرضاوي إلى إعادة تفسير الأحكام التاريخية في الشريعة من أجل تقليص الفروق القائمة بين المسلمين وغير المسلمين لكي يتم دمج غير المسلمين بشكل أتم في المجتمعات المسلمة المعاصرة.
 
وبناء على ذلك، فقد أضفى شرعية على الآراء التي ترى جواز إعطاء غير المسلمين من الزكاة طالما أنهم غير معادين للمسلمين، وفي نفس الوقت حرم إعطاء أموال الزكاة لمن هم مسلمون بالاسم فقط ويعتنقون عقائد معادية للإسلام، مثل الماركسية.
 
التجديد الإسلامي
 
كان القرضاوي يرى جهوده في تفسير أحكام الشريعة، ونشر الوعي العام بذلك جزءا من مشروع التجديد الإسلامي الذي تعود جذوره إلى الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر، والتي تعرف باسم الحداثة الإسلامية، وكان قد أطلقها كل من جمال الدين الأفغاني وتلميذه المصري محمد عبده.
 
وكان الإصلاح القانوني من الإجراءات التي اعتبرها الأفغاني وأتباعه في المجتمعات المسلمة ضرورية إذا ما أراد المسلمون تأمين الظروف التي تحقق لهم استقلالهم في مواجهة الإمبريالية الغربية العدوانية.
 
والحاجة إلى إصلاحات عملية للدفع قدما بالمشروع السياسي الكلي لتقرير المصير المسلم كان أهم ما شغل بال القرضاوي عبر عمر طويل قضاه في التعليم والكتابة، أثمر مئات الكتب والنشرات وآلاف الساعات من المحاضرات والخطب العامة.
 
وزعم القرضاوي أن مقاربته للإسلام كانت قائمة على الوسطية والاعتدال، وما يبدو أنه فهمه من ذلك هو إما تجنب المفاهيم المقيدة بشكل كلي في الإسلام التي من شأنها أن تحظر فعليا كل ما ليس مباحا من وجهة النظر الإسلامية، أو تجنب الأفهام الاستباحية للإسلام التي ترغب في تجاهل الأحكام النصية الجلية للقرآن من خلال استخدام حجج تتذرع بالمصلحة العامة أو بالتقدم العلمي والمادي.

 

اقرأ أيضا: الآلاف يشيّعون الشيخ القرضاوي بقطر.. وحضور لافت (شاهد)
 
وبناء على ذلك، وبينما كتب بشكل مكثف مفندا القيود التقليدية المفروضة على مشاركة المرأة في الحيز العام، وسعى إلى تقييد بعض ما ذهبت إليه المذاهب التقليدية من أجل إلزام المرأة بطاعة زوجها، إلا أنه لم يشكك في واجب الطاعة ضمن العلاقة الزوجية أو في أن الزوج يحق له في بعض الظروف اللجوء إلى التأديب البدني لتقويم سلوك زوجته الناشز.
 
وعلى المنوال ذاته، كانت مقاربته في النظر إلى التعددية الدينية تتضمن الانفتاح على غير المسلمين، ولكن بشروط إسلامية فقط، حتى إن القرضاوي عبر عن رأي يمكن أن يفهم منه أن غير المسلمين الذين لم تحفزهم كراهية غير منطقية للإسلام يمكن أن يفوزوا بالنجاة في الدار الآخرة.
 
فقه الجهاد
 
وانسجاما مع هذه الآراء، فقد خاض جدلا شديدا مع علماء السلفية الجهادية ومع غيرهم، ممن تورطوا في التكفير، أي اتهام المسلمين الآخرين بالردة، أو من الذين حرموا بشكل قطعي أي وئام أو مودة مع غير المسلمين.
 
وفي عام 2009، نشر كتابه الهام فقه الجهاد المكون من مجلدين، والذي أكد فيه على شرعية القانون الدولي والكيان المؤسسي للأمم المتحدة، معارضا بذلك مزاعم الأيديولوجية السلفية الجهادية.
 
كما أن التزامه بالنظام التعددي ضمن الإطار الإسلامي، قاده إلى تشكيل رؤية للمسلمين الذين يعيشون في البلدان الديمقراطية، وهو ما أدى إلى نشأة حقل جديد من الفقه الإسلامي التطبيقي بات يعرف باسم "فقه الأقليات".
 
وبالتعاون مع علماء آخرين يرون رؤيته، أسس القرضاوي المجلس الأوروبي للفتوى والبحوث للإشراف على تلك الجهود وتوجيهها.
 
ومع ذلك، فقد كان القرضاوي أيضا من أشد معارضي كل ما تشتم منه رائحة التلفيق، مصرا على أن المسلمين ينبغي عليهم دائما إدارة شؤونهم من خلال ما كان يعتبره أحكاما إسلامية جلية.
 
إلى جانب ذلك، فقد خلص القرضاوي إلى أن خصما ما كانت تحركه العداوة للإسلام، مثل الصهيونية أو الشيوعية، أو – فيما بعد في وقت متأخر من حياته، العداوة للسنة كما في حال الحكومة السورية - فقد كان على استعداد لأن يتبنى لغة إقصائية وفي الوقت ذاته مبررة للمقاومة المسلحة، قد تكون أحيانا غير منسجمة مع ما ورد في كتاباته الأخرى.
 
وكان دفاعه عن التفجيرات الانتحارية الفلسطينية ضد إسرائيل في الانتفاضة الثانية، على الرغم من أن ذلك لم يكن حكرا عليه، قد أكسبه سمعة سيئة في الغرب، ظلت ملازمة له، وما لبثت أن استخدمت فيما بعد من خصومه في العالم العربي، لاتهامه بأنه هو الذي مهد السبيل لتبني مثل تلك الأساليب من قبل الجماعات السلفية الجهادية مثل القاعدة، على الرغم من تنديده المستمر بتفجيراتهم، وبما كانوا يرتكبونه من فظائع.
 
ويمكن أن يفهم من خطابه المشوب بطائفية صارخة أثناء الحرب الأهلية السورية، حتى وصل به الأمر إلى أن يعتذر للمؤسسة الدينية السعودية عن دفاعه السابق عن إيران، أنه كان يرى ما يجري صراعا وجوديا بين السنة والشيعة، بدلا من أن يراه ثورة ضد ديكتاتور.
 
جمهور "الجزيرة"
 
إلا أن أهمية القرضاوي في العالم الإسلامي، وبشكل خاص في أجزاء من العالم العربي، لم تكن ناجمة فقط عن طول وطبيعة واستمرارية جهوده كعالم وكمفكر جماهيري.
 
بل لقد استفاد كثيرا من تأسيس الجزيرة، القناة الإخبارية الفضائية القطرية التي ما لبثت أن كسبت قطاعا كبيرا من الجمهور العربي، وتمتعت على مدى خمسة عشر عاما بما يشبه الاحتكار داخل سوق الأخبار التلفزيونية، على مستوى العالم العربي.
 
كان برنامجه الأسبوعي "الشريعة والحياة" مزيجا من البرنامج الحواري والمنتدى الجماهيري التفاعلي، حيث كان القرضاوي يخوض في نقاشات عامة، ويتلقى الأسئلة من المتصلين الذين كانوا يتصلون من جميع أنحاء العالم العربي وما بعده.
 
كما أن رسائل القرضاوي حتى ما قبل عام 2011 كانت موحدة، في فترة ساد فيها اتفاق عام على الحاجة الأكبر إلى تضامن عربي في مواجهة الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية من جهة، ومواجهة التيار الجهادي السلفي الذي يلهم تنظيمات مثل "القاعدة" من جهة أخرى.
 
ولكن على الرغم من أن الأيام الأولى للربيع العربي –وخطبته في ميدان التحرير- مثلت ذروة نشاطه كمفكر جماهيري، إلا أنه ثبت بعد ذلك أنها كانت لحظة عابرة.
 
في عام 2013، وصلت الثورة المضادة في مصر أوجها، حيث سجن مرسي وحل محله عبد الفتاح السيسي، الجنرال الذي تحول إلى رئيس، وتم حظر جماعة الإخوان المسلمين مرة أخرى.
 
وصدرت بحق القرضاوي مذكرة إنتربول لتوقيفه، ولكن ما لبثت المنظمة الشرطية الدولية أن ألغتها باعتبار أنها صدرت بدوافع سياسية. وفي عام 2018 أصدرت بحقه محكمة عسكرية مصرية حكما غيابيا بالسجن مدى الحياة.
 
وفي أجواء التنافس الأيديولوجي الشرس بين مختلف الدول العربية للهيمنة على الرأي العام وعلى الدين، فإنه يبدو من غير المتوقع أن يحتفظ القرضاوي بعد وفاته بما كان له من وضع متميز في حقبة ما قبل عام 2013.
 
ولا يتوقع كذلك أن يتمكن أي رمز ديني حالي أو مستقبلي من الوصول إلى تلك المكانة على مستوى العالم العربي، وذلك أن نجاح القرضاوي يعد إلى حد كبير واحدا من عواقب وجود بيئة إعلامية مغلقة نسبيا في حقبة ما قبل السوشال ميديا، وهي الحقبة التي أتيحت فيها الجزيرة كمنصة إعلامية مفتوحة نسبيا أمام المسلمين الناطقين بالعربية.
 
وكان القرضاوي يرجو أن يتمكن نمط الإسلاموية الذي كان يروج له من جمع ما يكفي من المسلمين وغير المسلمين على هدف ضمان مستقبل يخلو من الاستبداد في الدول العربية، مستقبل يتصدى للسلفية الجهادية من جهة والهيمنة الغربية والإسرائيلية من جهة أخرى.
 
ولكن بدلا من ذلك، كشف ما يقرب من عقد من الاضطراب الإقليمي عن وجود تصدعات داخل المجتمعات العربية لا سبيل إلى علاجها. فقد تبددت كل تلك الأوهام، وغدا طريق العرب نحو المستقبل أكثر حلكة مما كان عليه ما قبل 2011.  

التعليقات (1)
رحمة الله على الشيخ القرضاوى
الجمعة، 07-10-2022 07:58 ص
رحم الله الشيخ القرضاوى و اسكنه برحمته فسيح جناته