هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ليس
هناك أكثر سطحية من المحلل السياسي الذي يخرج عبر وسائل الإعلام ليقول إن الهجمة الإسرائيلية
على المسجد الأقصى سببها قرب الانتخابات الإسرائيلية الخامسة، التي تجري بعد أسابيع،
في الأول من تشرين الثاني، فيتنافس السياسيون الإسرائيليون على استرضاء المتطرفين.
هذا الكلام وإن كان صحيحا، بشكل جزئي، إلا أنه يقوم على
التوهم، أي توهم الظرف المؤقت وشروطه، وكأن الحكومات الإسرائيلية وجيش الاحتلال
ومؤسساته العسكرية تمنع اقتحامات المسجد الأقصى في الأيام العادية، لكنها تطلق
العنان لأصحابها لاستقطاب أصوات اليمين الإسرائيلي، في مواقيت الانتخابات فقط، مع
معرفتنا المسبقة بأن كل إسرائيل هي يمين أصلا.
يوم امس يعتدي الاحتلال مجددا على الأقصى، ويعتلي جنود
الاحتلال المساجد والمباني، ويرفع أسلحته في وجوه أهل القدس، ويتم حجز هويات
المقدسيين، ومنع دخول كل من هو تحت الأربعين، وهذه الإجراءات تحض المستوطنين
والمتطرفين على حمل السلاح في القدس، في وجه المقدسيين، وخلال الصلوات، بما يعني
التهديد المباشر والواضح لهم بالقتل كل يوم.
عسكرة القدس، وتهديد أهلها، واقتحام المسجد الأقصى، لم يكن
لأول مرة، لكن توقيته هذه المرة يأتي بعد أيام من خطاب رئيس حكومة إسرائيل في الأمم
المتحدة في نيويورك يائير لبيد الذي قال فيه إنه يتبنى حل الدولتين، لكنه يريد
دولة مسالمة، لا تهدد امن إسرائيل، أي دولة منزوعة السلاح، وهو هنا لا يحدد تصوره
لشكل الدولة الفلسطينية، ولا مساحتها، ولا تواصلها الجغرافي، ولا وضع القدس، ولا
ملف اللاجئين، بل يقول كلاما دعائيا عاما، دون أن يدخل في التفاصيل، في محاولة
لتحسين سمعة الاحتلال أمام العالم، تاركا الواقع بصورته الأسوأ التي تزداد سوءا.
أمام هذا المشهد يخرج الأردن ليقول على لسان وزارة
الخارجية، إن المسجد الأقصى المبارك -الحرم القدسي الشريف بكامل مساحته البالغة
144 دونماً هو مكان عبادة خالص للمسلمين، وأنّ إدارة أوقاف القدس وشؤون المسجد
الأقصى المبارك الأردنية هي الجهة القانونية صاحبة الاختصاص الحصري بإدارة كافة
شؤون الحرم وتنظيم الدخول إليه، وأن إسرائيل بصفتها القوة القائمة بالاحتلال،
عليها الكف الفوري عن جميع الممارسات والانتهاكات بحق المسجد الأقصى المبارك،
واحترام حرمته، وضرورة وقف جميع الإجراءات التي تستهدف تغيير الوضع التاريخي.
لكن إسرائيل لا تكف يدها، بل تتوغل اكثر واكثر، إلى درجة
منع أعمال الترميم داخل المسجد الأقصى، والتي يشرف عليها الأردن، وتحويل
الاقتحامات إلى عمل يومي برعاية سياسية وعسكرية وأمنية إسرائيلية، تترك الأقصى
لمصيره الخطير، أي احتمال هدمه جزئيا أو كليا.
الغرب يتفرج على ما يجري في القدس، ويهدد هويتها الإسلامية،
ويمتد أيضا إلى المقدسات المسيحية، وهذا يفسر التصريحات التي خرج بها البطريرك
ثيوفيلوس الثالث، بطريرك القدس وسائر أعمال فلسطين والأردن، والذي قال إن الاعتداءات
على الأقصى بالنسبة للمسيحيين لا تقل خطورة عن الاعتداءات على كنيسة القيامة، وأن
أي تغيير للأمر الواقع في الحرم القدسي الشريف يُهدد الأمر الواقع في كنيسة
القيامة، وما يجري في هذه الآونة يعتبر عدوانا صارخا على الحقوق الدينية ويحتّم
على كل الشرفاء، مسلمين ومسيحيين، أن يتحدوا في رفضه وهزيمته.
هكذا إذن هي القصة، الخطر يشتد كل يوم، والكل يتفرج، في العالم
العربي، وفي الغرب، فلا القضية هنا باتت ذات طابع إسلامي يخص الأقصى، ولا مسيحي
يخص كنيسة القيامة، والقدس تحت إعادة الهندسة، وسط حياد يقترب من حدود إشهار
الهزيمة، أمام تفصيلات المشهد.
لم يعد التحذير هنا كافيا، ولا بد من حل جذري، غير التحذير
والتنديد، وربما يكمن هذا الحل، في إعادة التموضع من كل قصة الاحتلال، والعودة إلى
القواعد الأصلية التي صاغت الموقف منه، تاريخيا، بدلا من حالة التوسل لإسرائيل بأن
تتوقف وهو توسل يأتي في غير موقعه، وتوقيته.
المقدسات، تعبر أيضا عن الذاكرة البشرية والإنسانية
والتاريخية، وهي ليست مجرد مبان حجرية أثرية قديمة، واستهدافها يعني السعي لشطب
هوية المكان وتاريخه، وأهله، حتى لا نبقى نظن أن القصة هي قصة أداء الصلاة أو
عدمها، وحتى لا نبقى نتحدث عن حق العبادة، فقط، بمعزل عن حق الملكية الكاملة، لكل
شيء في فلسطين، بما تعنيه لكل واحد فينا.
(الغد
الأردنية)