مقالات مختارة

سلمان رشدي وحادثة شق بحر العرب

وسام سعادة
1300x600
1300x600

شباط/فبراير 1983، تظاهرة نسوية في لاهور بالبنجاب الباكستانية، تخرج مندّدة بالقوانين المتعسّفة بحق المرأة وتُقابَلُ بالقمع الوحشي من بوليس نظام الجنرال ضياء الحق، في مرحلة زاد فيه اعتماد الأخير على الجماعات المتشددة.

في الموازاة، “قرية تزحف نحو البحر” في ولاية السند، تقودها امرأة شيعية تدعى نسيم فاطمة، أشاعت حولها أنّ الإمام الغائب، المهدي، طلب منها أن تنادي على الناس للذهاب إلى شاطئ بحر العرب، وأنّه كما شقّ الله بحر القلزم حماية لموسى وشعبه من فرعون، فإنه سيشقّ لها البحر أو يجعله بساطا سحريا آمنا حتى بلوغ البصرة، للمسير من بعدها إلى كربلاء وزيارة العتبات.

كان هذا في عزّ الحرب العراقية – الإيرانية، وفي مرحلة متسمة بازدياد الاحتقان السني الشيعي على نحو خاص في باكستان، الكيان الذي سبق إليه شيعة الهند سنته في البداية، بل أسس له محمد علي جناح وهو شيعي، قبل أن يكتشف الشيعة فيه أنه ربما كان الأفضل لهم البقاء في صيغة الهند الموحدة. مع تحول باكستان إلى فكرة استبعادية لهم شيئا بعد شيء، بعد أن كانوا من بناتها. إذ ازداد التمييز حيالهم، خصوصا في مرحلة ما بعد إعدام الزعيم السابق للبلاد، ذو الفقار علي بوتو، في نيسلن/ إبريل 1979. وعائلة بوتو شيعية في الأساس على الغالب.

تأثر سلمان رشدي بما حلّ بنسيم فاطمة ومن تبعها. فقد قوبلوا بالمشاعر المتضاربة من الناس، وهم ينطلقون من بلدتهم باتجاه كراتشي، وما كان يعتقد أحد بأنهم بالفعل مصممون على المضي إلى التهلكة، فيما سيعرف بحادثة خليج هاوكس.

وجد معظمهم بالنتيجة جثثا على الشاطئ، ومن نجا منهم ألقي خفر السواحل القبض عليه بتهمة محاولة الهجرة من البلاد بطريقة غير شرعية. ومن الناجين من أصرّ على أن رأى بالفعل صاحب الزمان. رهط هزأ بهم وآخر موّل لهم السفر جوا لزيارة العتبات. هكذا سيبدو الواقع حيال هذه الحادثة مسحورا لرشدي بما يفوق قدرات “الواقعية السحرية” في الفن والأدب على مجاراته. لكنه سيجازف ويبدّل من تلاوين وإيقاع الحكاية، ويجعل لها حيّزا أساسيا في روايته “آيات شيطانية”. سيحتار المؤلف من أن يأتي لنسيم فاطمة وإخوتها بتوصيف. غانديون جدد مثلا؟ ما من “بادي ياثرا” (الحج على الأرجل في الهندوسية) في الإسلام!” سيصرخ المعترضون على هذه المسيرة وهي تتقدّم نحو الشاطئ، لكن نسيم فاطمة الباكستانية يتحول اسمها في رواية رشدي إلى عائشة “ذات الوجه المشابه لوجه الإلهة (الهندوسية) لاكشمي”، وتندفع بتوجيه من الملاك للذهاب إلى البحر والسير على الأقدام في وسطه حتى بلوغ مكة. بعد هنيهة، تتدفق من “تحت السرد” مياه توحي بأنك أمام مسير جيش أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر لمواجهة جيش علي بن ابي طالب في موقعة الجمل، قرب البصرة. مع هذا، لا تحضر أم المؤمنين ولا أي شخصية من مرحلة ظهور الإسلام بأي مظهر دراميّ مباشر في الرواية. لا يكاد السرد يقترب من شبه بمأثور تاريخي ديني حتى يفرّ مباشرة منه. هل كان غرض سلمان رشدي الاستيحاء من دينامية “الوحي”؟

عمال المناجم الذين يقضون حياتهم وهم يحفرون طرقا في جوف الأرض، لا يتحملون رؤية امرأة تعتزم شقّ البحر بيدها! هذه من التخاريج التي يصيبك رشدي بها وهو يصف لحظة بلحظة تقدّم المسيرة العجيبة باتجاه البحر. فحجّ العرافة هو جزء من هذا “الكرنفال الذي لا ينتهي من النسبية المتبادلة في زوايا الرؤية” على حد وصف الفيلسوف السوري الراحل صادق جلال العظم لرواية “آيات شيطانية”، في كتابه “ذهنية التحريم”، أهم ما صدر في المكتبة العربية في تسعينيات القرن الماضي.

وفضل العظم في “ذهنية التحريم” أن يربط بين اعتبارين؛ الأول يتصل بالصراع السعودي الإيراني. فبحسب العظم، الأجهزة السعودية هي التي أخذت زمام المبادرة للتعبئة ضد سلمان رشدي، واتهامه بأنه من “الفرقة الغرابية” المتخيلة، لغلاة الشيعة، وأن العنصر الأساسي لروايته هو أن جبريل كان في الأساس يعدّ لتنزيل الوحي على عليّ. لاحقا، عندما اصطدم تجييش السعوديين بالموقف الغربي، سارع الإمام الخميني لالتقاط الفرصة “للمزاودة على الخصم السعودي وعلى الأصعدة كلها”، من خلال فتواه، مع أن العظم يشكك في الأساس من أن يكون إعلان الخميني هدر دم رشدي، هو في الأساس فتوى فقهية.

أما الاعتبار المتصل بالرواية بحد ذاتها وكيفية قراءتها، ففضل العظم جعلها مناسبة للمنافحة عن استقلالية المجال الأدبي – الروائي، والحق في الخيال والتركيب والتجريب، مظهرا في الوقت نفسه كيف يتخير رشدي من مصادر ميثولوجية ودينية وتاريخية مختلفة، إنما لتفكيك ما هو متعلق بالأحوال ما بعد الكولونيالية لمسلمي شبه القارة الهندية، سواء مكثوا فيها أو هاجروا منها نحو الغرب، وقد اهتم العظم بالتذكير بأن رشدي صدّر روايته بعبارة لدانيال ديفو، يظهر فيها الشيطان على أنه المهاجر الأبدي، له سلطان الهواء وليس له من محل ثابت للسكن. وما بين ديفو ورشدي، ثمة محمد إقبال اللاهوري في تحت “جناح جبريل”، وهو يبعثر القسمة بين ما للشيطان وما للإنسان. إقبال أيضا لا يمكن تنحيته كمصدر إيحائي عند قراءة عمل رشدي الذي جلب له كل هذه المتاعب، ومؤخرا محاولة النحر.

وفي لبنان تحديدا، البلد الذي يتحدر منه المعتدي على رشدي، الذي يبدو سائرا كبلد على هوى الصوت الذي سمعته نسيم فاطمة عام 1983، للذهاب حتى البحر وشقه عبورا بالأقدام حتى كربلاء، في لبنان هذا يقال للأطفال “ما تتشيطنوا” بمعنى عدم “التشاقي” باللهجة المصرية.


شيء من هذا حاضر عندما يسترجع جبريل فاريشتا في رواية رشدي ذكريات طفولته، قبل أن يصبح هو النجم البوليودي الشهير. فوالدته كانت تسميه “شيطانا”؛ لأنه عندما كان يشتغل صبيا كعامل إيصال مطبقيات الأكل للأزواج في المكاتب، وهي عادة شائعة إلى اليوم في بومباي، عند الذين يؤثرون عدم تناول طعام غير موافق لطائفتهم أو طبقتهم (الكاست) الدينية، فإنه كان يوصل ما للمسلمين من طعام إلى هندوس، وهذه في الهند ذروة “الشيطنة”! هفوة واحدة في نظام الداباوالا لإيصال طعام المنازل إلى المكاتب، يمكنها أن تجر إلى فتنة دينية! يظهر رشدي في الكثير من أعماله هشاشة هذه “العلمانية الأخوية” المرتبطة بأثر نهرو في الهند وبشعار “هندو مسلم بهاي بهاي (أخوة)”. 

هي أخوة يمكن أن تطيح بها شقاوة صبي يخلط بين الطلبيات. في الواقع، في رواياته يبدو رشدي أقرب إلى تمثيل الموقف “ما بعد العلماني” وليس داعية تنوير. ليس هناك شيء من قبيل انتصار العلموية الحداثية في “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ على التدين على طريقة الجبلاوي. محفوظ بهذا المعنى أقرب إلى الخطاطة التنويرية من رشدي.

يبقى أن النص الأخطر في رواية آيات شيطانية، وهو الدافع الأول لاستياء الخميني، هو النص الذي يتحدث فيه المؤلف عن إمام منفي يتحضر للعودة المظفرة إلى بلده بإشعال ثورة، لكنه يسحب كل الصور من جدران مسكنه في المنفى، إلا صورة عدوته الأيقونية في غرفة نومه، التي إما تكون هي وإما هو، ويختار رشدي بعد أن يشبهها هنا بآلهة يونانية، أن يسميها أيضا، باسم عائشة!

 

(القدس العربي)


0
التعليقات (0)