هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أثارت المواجهة الأخيرة التي جرت بين جيش الاحتلال وحركة الجهاد الإسلامي على أرض قطاع غزة من جديد إشكالية دور وأداء ومكانة "التنظيم الثاني" في الساحة الفلسطينية. وهذه مسألة يعاد إنتاجها في معظم مراحل النضال الفلسطيني. فقد كانت "التنافسية" الداخلية؛ وما زالت شرطا حاكما في صنع السياسة في الساحة الفلسطينية. وبلغ الأمر أحيانا حد التنافس على المقعد الثاني أو حتى الثالث. وكنا نجد في بعض الأحيان إعلانا لقائد أحد الفصائل المتنافسة هذه عن عدد شهدائه (وغالبهم سقط في حروب عربية-عربية) أو عن معتقليه ليبرهن أحقيته بالمكانة الثانية أو الثالثة.
وهنا، تخبرنا مذكرات عديدة بأن قيام ياسر عرفات بالنزول إلى الضفة الغربية في صيف 1967، إنما جاء في حمأة انفعال داخلي في لجنة فتح المركزية، ومحاولة منه لتسجيل موقف! وأخبرنا آخرون بأن ردّ فتح على مبادرة حركة القوميين العرب، في ذلك الصيف والخريف أيضًا، والتي كانت تقترح إنشاء إطار جَبهّوِيّ عشية تشكيلها للجبهة الشعبية، كان "اللقاء على أرض المعركة"، ومع أنه شعار رنّان وجاذب، غير أنه قُصد منه التفرد باحتكار المكانة الأولى. أمام ذلك، وجدنا أن أسلوب خطف الطائرات الذي اعتمدته الجبهة الشعبية بالأساس، كان ينطوي على محاولة القيام بفعل من شأنه أن يغطي تنافسيًا على الزخم والدعاية اللذين كانت تحظى بهما حركة فتح. ولذا فقد اشتهرت أدبيات تلك المرحلة، التي طالما وُصفت بالطفولية والمراهقة السياسية بالتهويل والاختلاق والكذب الصريح لتعوّض به عما يريده أصحابها من صورة ظهور.
وهنا، في هذه المرحلة، ومع تغيّر في أسماء الفاعلين المقاومين، غير أننا نجد أنفسنا أمام نفس الظاهرة، مع الأخذ بعين الاعتبار الفروقات في التجربة الراهنة وتلك السابقة عليها. ونسجل هنا الملاحظات التالية المتعلقة بساحة قطاع غزة الحالية:
أولًا: إذا كان التنافس الأسبق بين حركة فتح كتنظيم أول، وبين فرقائها التالين، مؤطرًا سياسيًّا وأيديولوجيًّا بصيغة "يسار ثوري" في مواجهة "يمين منحرف"، وكان مثل ذلك التنافس يجد تبريراته ومنطلقاته في نوع من الأيديولوجيا الجذرية المغايرة، ثم في "الموقف السياسي" الذي يراه أصحابه بأنه "الموقف الصحيح"، فإننا هنا في العلاقة بين حماس والجهاد الإسلامي نجد أنفسنا مع حركتين إسلاميتين لهما نفس المرجعية الأيديولوجية والسياسية إلى حد كبير (مؤسسو الجهاد الإسلامي منحدرون، كما هو معروف، من جماعة الإخوان المسلمين الأم). كما أن لهما نفس الجمهور (اجتماعيًّا – سكان مخيمات. وعقائديًّا – بيئة إسلامية سنية تخلو من الطوائف والمذاهب الأخرى)، وإن كان هناك من خلاف، فهو في اللغة والمفردات وليس في الرؤى والغايات. وليس الأمر كما يصوّره بعض المراقبين المغرضين أو الجهلاء، ممن يمكن أن ينتصبوا للحديث عن الفروق بين الحركتين. وعندما كنت تسمع د. رمضان عبد الله شلّح – رحمه الله – فأنت لا تفرقه عن منطق وكلام ومواقف قيادات حركة حماس الأولى.
ثانيًا: بين حين وآخر كان يتم طرح فكرة وحدة الحركتين اندماجيّا، ولكن يبدو أن الروح المحافظة ظلت تتغلب على الاحتفاظ بما قد يعتبره البعض منجزه ورأس ماله التاريخي.
ثالثًا: إذا كانت هناك من خصال تتميز بها حركة الجهاد الإسلامي فهي في الحقيقة عدم وحدة التنظيم فكريًّا ولا تنظيميًّا. فإنك تجد في نفس التنظيم الواحد أتباعًا لأقصى الرؤى الإسلامية تناقضًا، فهناك من هو مشدود لإيران إلى درجة اعتناق المذهب الشيعي الاثنا عشري، وهناك على النقيض من هو مشدود للسلفية الجهادية الممثلة بالقاعدة أو بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهناك تنويعة أخرى ما بين هذين المُيولَيْن مثل بعض الجهاديين لفتح، وميل البعض الآخر لحماس. أما تنظيميًّا فتُهَيْمن على التنظيم النزعة المناطقية المثقلة التي تشبه كثيرًا مثيلتها في حركة فتح. ومن هنا يمكن تفسير التجاذبات التنافسية الداخلية أولًا، ثم مع حركة حماس كتنظيم أول ثانيًا، وتبعًا لهذه الحالة من عدم الوحدة الفكرية ولا التنظيمية فسوف نجد اجتهادات وممارسات متضاربة، وربما هذا ما لاحظه كثير من المراقبين حيث كنا نسمع لتقديرات ولمواقف مختلفة وغير متّسقة ولا منسجمة لبعض قيادات الجهاد التي ظهرت في الإعلام.
رابعًا: إن ذهاب الجهاد الإسلامي إلى مواجهة منفردة يُعاد تكرارها للمرة الثانية، دون التشاور مع الشركاء الآخرين "الغرفة المشتركة"، يندرج في الحقيقة في هذه الحالة مختلفة المشارب والأهواء والقناعات، وربما الولاءات أيضًا! فإذا كانت مسألة البرهنة على إمكانية خوض الجهاد الإسلامي معركة بمفردها هي المقصودة، فهذا قد تحقق. ولكن هل تُخاض المعارك من أجل مثل هذا الإثبات والبرهان؟! نعتقد أن الجواب هو نعم في ساحة كالساحة الفلسطينية. فالإنجاز الوحيد الذي يمكن أن تدّعيه الجهاد بجداره هو ذهابها لخوض مواجهة منفردة.
خامسًا: وهنا يسجل لحركة حماس (التي هي سيدة البيت في قطاع غزة) والتي تعلن عن نفسها كسلطة مقاومة، سماحها لفصيل فلسطيني مصنف "كالفصيل المقاوم الثاني" بأن يأخذ قطاع غزة منفردًا، إلى مواجهة، وهذه حالة نادرة مقارنة بأشباهها مع الأسلاف السابقين، فلم يكن ياسر عرفات أيام الكفاح المسلح ليسمح بمثل ذلك أيام لبنان، والمثل الشهير هنا منعه لقوات (القيادة العامة – أحمد جبريل) من انتهاك الهدنة التي كانت سارية مع جيش الاحتلال في صيف 1981، أما وريث الفلسطينيين في مقاتلة "إسرائيل" في لبنان (حزب الله) فمعلوم أنه يحتكر مقاتلة "إسرائيل" ولا يسمح لغيره بالقيام بذلك.
سادسًا: تطور العمل الميداني المشترك في قطاع غزة في السنين الأخيرة، خاصة بعد مسيرات العودة 2018 -2019 والتي سجّلت تعاونًا وانسجامًا وتوزيعًا للأدوار. وعندما جاءت معركة سيف القدس كان تشكيل الغرفة المشتركة قد نضج، وذلك من أجل توحيد الجهد وتوحيد الراية، ولإشعار جميع القوى؛ صغيرها وكبيرها بوحدة الحال. وإذا كان من "توحيد للساحات" (وهو الشعار الذي رفعه الجهاد الإسلامي في هذه المواجهة)، فهو ما كان قد حدث بالفعل، وتمت ترجمته في معركة سيف القدس – أيار 2021. أما محاولة استنساخ هذه الصيغة بصورة انفرادية وبأثر رجعي فقد جاءت بنتائج غير طيبة، فلم نر الساحات تهُب كما هبت في العام الماضي، بل وجدنا الحيرة والغموض والتساؤلات هو سيد الموقف. صحيح أن الغرفة المشتركة أصدرت هذه المرة بياناتها، وعكست درجة من التضامن المطلوب، ولكنها لم تكن هي محور الفعل، وكانت ملتحقة وليست صانعة له، وينبغي من هذه التجربة استقاء الدروس والعبر ووضع الضوابط وقواعد السلوك لأي قرار جماعي يتعلق بقطاع غزة، لأننا هنا كراكبي نفس السفينة الواحدة التي لا تحتمل اجتهادات متناقضة أو غير متناغمة ومنسجمة.
سابعًا: قامت المقاومة في قطاع غزة منذ عام 2019 (وليس كما يعتقد البعض منذ 2021) بخوض مواجهات لها أجندة خارج الأجندات الخاصة بقطاع غزة (كسر الحصار، الميناء، المطار، الكهرباء، المعابر، المستشفيات... إلخ) وذلك عندما تم إطلاق صاروخ بعيد المدى وصل إلى منطقة "الشارون" (بالقرب من سجن هداريم – تبعد عن شمال شرق تل أبيب ب 30 كم تقريبًا) وذلك ردًّا على القمع الشديد الذي كان تعرض له أسرى حركة حماس في سجنيْ النقب وريمون، وتعرضوا فيه لاعتداءات وحشية. وكان في إثر إطلاق الصاروخ الذي تمكن من إصابة منزل، أن ابتلع الاحتلال هذه الضربة (وكان مثل ذلك سابقًا كفيلًا لوحده أن يكون سببا لحرب كبيرة ضد غزة)؛ لا بل وقام بمنح الأسرى، ولأول مرة في تاريخ الحركة الأسيرة إنجاز "الهاتف العمومي"، الذي تم تركيبه يومها في القسمين المقموعين على وجه التحديد، ثم تم تركيبه حاليًّا عند الأسرى المرضى في مستشفى الرملة، بالإضافة لقسم النساء في الدامون، على أمل تركيبه في بقية الأقسام. ثم جاء التدخل المقاوم الثاني من قطاع غزة في الرد على الهجمة الاحتلالية الشرسة في القدس (في حي الشيخ جراح، وفي باب العامود، وفي ساحات المسجد الأقصى المبارك) وذلك في سيف القدس 2021 التي أحدثت فارقًا فاصلًا لأول مرة، وقد كتب كثيرون عن مغزى هذه المعركة الجليلة.
أما اليوم فإن الجهاد الإسلامي يريد أن يحاكي شيئًا من ذلك جاعلًا من مسألة منع الاحتلال من اعتقال قيادات سياسية في الضفة الغربية انطلاقًا من مقاومة قطاع غزة، معادلة جديدة يسعى لفرضها. ولكن جميع المعطيات لا تحمل المرء للاعتقاد بنضج مثل هكذا معادلة. خاصة وأن المسألة هنا تمس أمن الاحتلال بالدرجة الأولى (الذي هو أوكسجينه الذي يتنفس به)، ثم إن هناك اعتقالات يومية تطال أحيانًا رئيس وبعض أعضاء المجلس التشريعي من رجال ونساء، عدا عن عشرات أو قل مئات المناضلين من الشخصيات كبيرة السن. هذه المعادلة ستكلف معارك يومية، وهذا ما لا يحتمله الواقع ولا الإمكانيات ولا المعطيات. بل إننا نعتقد أن أمين عام الجهاد الإسلامي قد ورّط نفسه عندما تعّهد بالإفراج عن الشيخ بسّام السعدي، عندما تعهد بالعودة إلى القتال في حال رفض الاحتلال ذلك، ورغم زَعْم النخالة بأنه "أخضع" الاحتلال للنزول إلى شروط تلك، فإننا نجد الاحتلال يقول صباح اليوم التالي للمعارك أنه لم يلتزم بشيء، وأنه وافق فقط على وقف إطلاق متبادل للنار، وينفي أن يكون قد أعطى تعهدًا للمصريين بالإفراج عن السعدي، وإذا لم يحدث الرد الذي يتوعد به النخالة، فسيكون الإحراج ثقيلًا، والأثقل من كل هذا، هل كان الأمر يستحق أن تضحي بقيادتك العسكرية كلها من أجل معادلة غير قابلة للتحقق حاليًّا.
ثامنًا: والأثقل من كل ذلك هو الحالة المعنوية السيئة التي تركتها المواجهة الأخيرة، حيث أتيح للاحتلال أن يراهن على اختلاف المواقف بين الفلسطينيين، ويستخدم أرخص الأساليب في ذلك، ويستغل حالة القرار الارتجالي عند الجهاد الإسلامي، ويستخدم أخبث وأغشم ما لديه من حيل وخدع وأساليب: ولو سألت أي فلسطيني عن مشاعره ومعنوياته بعد الانتهاء من هذه المواجهة لقال لك: كأنه أكل كفًّا ثقيلًا على وجهه. في حين أننا كنا وجماهير شعبنا وأمتنا في العام الماضي في قمة التجلي المعنوي. وهذه الحالة المعنوية السيئة بخسائرها المجانية الفادحة منحت الاحتلال تماديًا جديدًا ليقوم بجرائمه في اليوم التالي في نابلس، ثم ليكثفوا اقتحاماته النوعية والكيفية بتدنيسه المستمر واليومي للمسجد الأقصى المبارك، الذي بلغ أحد ذراه أثناء المواجهة الأخيرة. وها هي شهيته تنتفخ أكثر فأكثر، وتدخل تصريحات زعمائه وقادته الذين لم يكن يعتد كثيرًا بمآثرهم القيادية أو العسكرية، كرئيس وزرائهم المدفوع بالضعف في هذه الأمور تدخل ذروة عنصريّتها وفاشيّتها وتجعل أعينهم تدخل فينا أكثر وأكثر.
تاسعًا: استخدم الاحتلال حجة رخيصة طالما كنا نسمعها من ضباط الشاباك وهم يحاولون كسر معنوياتنا في التحقيق منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهي تستند إلى خبرته الاستشراقية ومعرفته بالمجتمع العربي الفلسطيني، عبر القول إن زعماءكم يجلسون في الفنادق ويعيشون حياة مرفهة، وأنتم هنا تعانون وتأكلون الضرب. والغريب الآن أن هذه الحُجة لم تعد في معرض التحقيق في الغرف المغلقة، بل على ألسنة وزرائهم وأهم ناطقيهم وعلى الملأ وفي مؤتمراتهم الصحفية. يبدو أن الاستخفاف بنا بلغ مبلغه لدرجة استعاروا فيها تلك الديباجة الرديئة والهابطة ليمرروها في ظل هذه اللحظة البائسة. طبعًا هم لا يريدون مشاهدة هذه القيادات في الخندق الأول عوض جلوسها في الفنادق. ثم إن تعريضهم بالأخ زياد النخالة؛ أمين عام الجهاد الإسلامي يأتي في معرض هذا التشنيع المفضوح، فالنخالة كان ذات يوم سجينًا في سجونهم، وهم من قاموا بإبعاده ثم إن وجوده في طهران أو غيرها ليس للنقاهة والفرفشة ولا نعتقد أن طهران تصلح لأمثاله لتكون مكانًا للنقاهة والفرفشة.. أما مسألة التواجد خارج الوطن، فهو ممّا عرفته جميع تجارب التحرر الوطني في العصر الحديث (داخل/خارج). ولعل هذه البروبوغندا السوداء تذكرنا بتشنيعات رجال أوسلو ونعيهم على المقيمين في لندن أو نيويورك أو برلين من المفكرين أو الإعلاميين أو العلماء والأكاديميين الفلسطينيين، باعتبار أنهم أقل التزامًا منهم؛ هم المتواجدون على الأرض حتى لو كان أحدهم يرأس جهازًا أمنيًّا متعاونًا وينسق يوميًّا مع مخابرات الاحتلال، وهذه تهمة سخيفة وهابطة وبائسة ومصادمة للمنطق والواقع، إذًا ماذا سنقول لقيادة منظمة التحرير والقيادات التنظيمية الفلسطينية التي كانت تناضل وتجاهد من عمان أو بيروت أو دمشق أو تتواجد في تونس وبغداد والقاهرة على مدى عقود متطاولة. أليس قادة أوسلو هم أنفسهم الذين كانوا بالأمس في تونس (في فندق سلوى وأخواته من الفنادق) وقبلها في بيروت وعمان وباقي العواصم؟! فجدارة الموقف لا يحدّده تواجد صاحبه في هذه البقعة الجغرافية أو تلك. إنما جوهر الموقف يتعلق بدرجة وطنيته وصدقه وإخلاصه وصوابيته. وإذا كان بعض القيادات يتواجد في الخارج بحكم الامتداد الطبيعي لشعبنا وبيئات اللجوء التي تفرزها، فهل في ذلك مشكلة، ثم لماذا يذهب العدو ويلاحق تلك القيادات ويسعى لاغتيالها أو لإغلاق الطرق أمامها ومحاصرتها وتطويقها؟!
عاشرًا: رغم أن العدو كان يحاول دائمًا تحميل حركة حماس مسؤولية أي نشاط يخرج من غزة، من البلالين وحتى الصواريخ والمسيرات وغير ذلك، ورغم أن هذه الجولة شهدت مثيلًا لها قبل ثلاث سنوات عندما تم اغتيال القائد في الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا، غير أننا وجدنا الاحتلال هذه المرة يلعب لعبته الخبيثة في محاولة إظهار حماس كطرف محايد ومتفرج وربما يبعث إشارات توحي بالتواطؤ، وحماس هذه التي توصف بذلك لتشويهها؛ هي من كان العدو يشيطنها صباح مساء، وهي التي قام الاحتلال مرارًا بتصفية رجالاتها وقياداتها السياسية والعسكرية ومن أجيال مختلفة، وهي التي أذاقت العدو أشد الضربات في الأمس القريب. ولكن العدو كأنه يعتمد أحيانًا على الذاكرة القصيرة المثقوبة. وقد أحسن النخالة صنعًا عندما أعاد التأكيد على محورية حماس كالحاضن الأهم للمقامة ليجُبّ ما يلوكه الذباب الالكتروني المريض. خاصة وأن رجال الجهاد الإسلامي يعرفون تمام المعرفة حدود التعاون والمساعدة المقدمة لهم من إخوانهم في حماس. ولكن لا بأس هنا من أجل جبّ جميع التقوّلات والتخرّصات بقيام حماس بالمزيد من الأعمال والمظاهر التضامنية والتشاركية – التي تقوم بها في كل الأحوال فهذا واجبها الدائم – مع رجال الجهاد وجمهوره، ثم لا بأس من إعطاء شروحات وتفسيرات للرأي العام حول الموقف وحول ما جرى، وذلك من أجل إجلاء الصورة، وفضح التخرّصات والتقولات، ثم الحرص على المصداقية وإظهار حساسيتها لصورتها أمام الجمهور الفلسطيني والرأي العام.
حادي عشر: إن قيمة القيادات الفلسطينية تكمن في قدرتها على التقدير الصائب للمواقف وللقرارات، فتجنب الدخول في معركة زائدة أو تجنب جرّها لمواجهة هي لا تريدها أو غير مستعدة لها، والعمل على تكبير إيجابياتها وتقليل سلبياتها وخسائرها.. كل ذلك يقع في صميم عمل أي قيادة حكيمة وأمينة وواعية. وإن الانضباط والصبر وبناء التقديرات والحسابات الصحيحة هو طريق الظفر والنصر، ونرجو أن تكون مثل هذه الأمور حاضرة أمام أعين من يجرون المراجعات فيما يخصّ شأن المواجهة الأخيرة؛ عند الجهاد أولًا ثم عند حماس وباقي قوى المقاومة.
ثاني عشر: يعتمد سلوك "التنظيم الثاني" وباقي التنظيمات إجمالًا على طريقة أداء وممارسة "التنظيم الأول". وهذا ما كانت برْهَنَتْهُ تجربة الجبهة الشعبية التي شكلت ذات يوم "جبهة الرفض" وأمضت فترات من عمرها السياسي مُجمَّدة مقعدها في منظمة التحرير، وهي التي طالما وصفت بالطهورية، وبالتنظيم الحديدي، وكان لها بصمتها الفكرية والسياسية الخاصة بها، ولكننا سنجد أنها سارت في نهاية المطاف في درب الخط السياسي الذي رسمته فتح، وكانت ممن صوّت على قرارات المجلس الوطني الفلسطيني الـ(19) في عام 1988، وعاد أمينها العام أبو علي مصطفى إلى مناطق السلطة الفلسطينية. ولذلك فإن سلوك التنظيم الأول هو من النوع المعدي والقابل للمحاكاة. ومن هنا فإن النموذج الذي جسّدته تجربة كتائب القسام يتميز بالمصداقية والمناقبية وإجراء الحسابات ودراسة التجارب واستخلاص الدروس والعبر والجدية العالية التي فاجأت الجميع بصدقها ومثابرتها في تجميع عناصر القوة وحشدها، ويبنى أيضًا على ذلك صبر الإسلاميين وأريحيتهم وإشراكهم ألوان الطيف الفلسطيني في القرارات وإدارة الشأن العام، الأمر الذي له الدور الحيوي الهام والملهم والموحي للآخرين، والزارع فيهم بواعث الخير والصواب.