قالت
صحيفة "
واشنطن بوست" إن غزو روسيا لأوكرانيا فتح الباب أمام الكشف عن التأثير
الروسي في النمسا. وأضافت في تقرير أعده أنتوني فايولا وسعاد مخنبت أن مداهمة قامت
بها الشرطة العام الماضي لمنزل مسؤول أمني معروف عمل في الخدمات السرية الداخلية وفي
إيطاليا وتركيا أدت إلى الكشف عن كمية من المعلومات والوثائق والبيانات على هاتفه النقال.
ويتهم
إغيستو أوت ببيع أسرار الدولة إلى روسيا وتقديم معلومات عن الأعداء المفترضين للكرملين
في الغرب، وذلك بحسب مسؤولين أوروبيين ومحققين نمساويين.
ويقول
المسؤولون إن القضية المتطورة لـ أوت هي واحدة من المشاكل الداخلية التي أدت في العام
الماضي إلى حل وكالة المخابرات الداخلية "بي في تي" وأدت بدول أوروبية لقطع
التعاون الأمني مع فيينا أو الحد من التشارك بالمعلومات المتعلقة بروسيا.
وتحول
أوت (60 عاما) إلى صورة عن الاختراق الروسي العميق للنمسا، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي
وفي مجالات السياسة والصناعة والاستخبارات أيضا.
وزاد
الغزو الروسي لأوكرانيا من وصول وقت الحساب للدولة التي وقعت تحت التأثير الروسي في
أوروبا. وخلف الأبواب المغلقة يقوم المشرعون بالتحقيق في التدخل الروسي في أجهزة الاستخبارات
وفحص العلاقات التجارية والعقود التي وقعتها شركة الغاز المملوكة للدولة (أو أم في)
مع روسيا. ويجري المشروعون فحصا لعلاقات المسؤولين البارزين والأحزاب مع الشركات التي
يملكها الكرملين.
وقالت
العضو في المعارضة النمساوية ستيفاني كريسبر: "يجب التحقيق بالتأثير الروسي في
النمسا وبشكل عميق"، وأضافت: "لقد تخلل التأثير الروسي وعلى مدى سنوات نظامنا
السياسي. وأصبح الاعتماد السياسي والاقتصادي على روسيا باديا للجميع باعتباره تهديدا
أمنيا".
وتقول
الصحيفة إن تحقيقها في التأثير الروسي في النمسا قام على وثائق من مئات الصفحات ومقابلات
مع مسؤولين غربيين على معرفة بحالة أوت، وتحدث الجميع بشرط عدم ذكر أسمائهم.
ووافق
محامي أوت على مقابلة مع الصحيفة ثم توقف عن تلقي المكالمات.
ويقول
المسؤولون الأمنيون الأوروبيون والمحققون في الوثائق إن أوت كان يخطط مع ضباط أمن آخرين
لإعادة تنظيم الخدمات الأمنية في دائرة جديدة داخل وزارة الخارجية. وفي ذلك الوقت كانت
وزيرة الخارجية كارين كيسل، الدبلوماسية والأكاديمية التي جلبها إلى الحكومة حزب الحرية
المتطرف. وكان في 2017 و2019 جزءا من ائتلاف حكومي، لكن حزب الحرية أقام علاقات دافئة
مع روسيا وأرسل في عام 2017 وفدا في رحلة إلى شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام
2014. وكان حفل زواج كيسل عام 2018 في منطقة الخمر بالنمسا رمزا للطريقة التي تبنت
فيها النخبة النمساوية روسيا. وكان من بين الحاضرين، المستشار النمساوي السابق سبيستيان
كيرتز ولكن نجم الحفل كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي أثناء الحفلة رقصت كيسل
رقصة الفالس مع بوتين والتقطت لها صورة وهي تتودد للزعيم الروسي الذي قبل يدها.
ولا
يوجد في الوثائق ما يظهر أن كيسل كانت على معرفة بخطة إعادة تنظيم المخابرات. ففي سلسلة
من الرسائل النصية للصحيفة قالت إنها "لا تعطي مقابلات" وإنها هاجرت من النمسا
بعد تلقيها "تهديدات بالقتل". وقالت إنها لم تعرف بالخطة ولم تسمع أبدا بـ أوت.
وعزل
أوت من منصبه وسجن ثلاثة أعوام وأفرج عنه العام الماضي بانتظار تحقيقات جديدة. ونفى
كل الاتهامات الموجهة إليه وقال إنه ضحية لكشفه عن إفراط المخابرات في التعامل مع مخابرات
الدول الصديقة والتي وصفها بغير القانونية. وتحدى رواية الشرطة عن مداهمة منزله في
فيينا وقال إن الشرطة لم يكشفوا عن هويتهم وأنه قاومهم لاعتقاده أنهم لصوص. وثبتت محكمة
هذا العام كلامه قائلة إن الشرطة بالغت في استخدام القوة عند اعتقاله.
وقال
أوت لموقع "زاك زاك" النمساوي: "يتهمونني بإفشاء أسرار الدولة وهذا كلام
غير صحيح"، و"يبدو أنهم شاهدوا الكثير من المسلسلات التلفزيونية".
وخلافا
لدول أوروبية مثل بولندا ودول البلطيق التي رأت في روسيا بوتين تهديدا لها، فقد تعاملت
النمسا مع روسيا كفرصة ذهبية. وبعد تقسيمها إلى مناطق بعد الحرب العالمية الثانية واحتلها
الاتحاد السوفييتي وأمريكا وبريطانيا وفرنسا، انتقلت النمسا في منتصف الخمسينيات نحو
الحياد. وبموجب هذا الحياد فإن النظام القانوني اعتبر التجسس جريمة حال استهدف النمسا، ما حول عاصمتها فيينا إلى ساحة لملاحقة الجواسيس، وبخاصة بعد استضافتها لعدد من الوكالات
الدولية مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ونظرت
النمسا إلى صعود بوتين إلى السلطة بداية القرن الحالي بطريقة براغماتية. وأصبحت روسيا
أكبر مستثمر في البلد وبحلول عام 2021 وصلت قيمة الاستثمارات الروسية في البلد إلى
25.5 مليار دولار وتحولت إلى مركز مهم في تصدير الغاز الطبيعي الروسي. وأصبحت النمسا
من أكبر المستثمرين في خط غاز نورد ستريم2 وهو المشروع الذي ألغي بعد الغزو الروسي
لأوكرانيا. وباتت الأبواب مفتوحة للمسؤولين الكبار في الحكومة النمساوية والشركات المملوكة
من الدولة الروسية.
وبعد
عامين من مغادرتها الحكومة، أصبحت كيسل عضوا في مجلس شركة روزنفط. وشاركت بمقال رأي في قناة روسيا اليوم (آر تي)، الآلة الدعائية للكرملين. وكان المستشار النمساوي السابق
كريستيان كيرن عضوا في مجلس شركة السكك الحديدية الروسية، وكان المستشار السابق ولفانغ
شوسيل عضوا في مجلس إدارة لوكويل، شركة الطاقة الروسية العملاقة. واستقال كيرن وشوسيل
من منصبيهما بعد الغزو في 24 شباط/ فبراير، واستقالت كيسل من منصبها في روزنفط في أيار/ مايو.
وتداخلت بعض شركات النمسا الكبرى مع الشركات الروسية، وبخاصة في قطاع الطاقة.
وفي
2015 استعانت شركة "أو أم في" المملوكة جزئيا من الحكومة النمساوية بخدمات رينر ستيل
وعينته مديرا، وكان قد عمل سابقا في الشركة الألمانية ويتنرشال القابضة وقبلها شغل
منصبا في الشركة الروسية غازبروم وكان من الداعمين لخط نورد ستريم.
وبدأت
شركة "أو أم في" حزيران/ يونيو تحقيقا في العقود التي تم توقيعها في أثناء فترة ستيل
وجعلت النمسا تعتمد وبشكل متزايد على الغاز الطبيعي الروسي. وكذا الدعم لنادي كرة القدم
زينت سانت بطرسبرغ، الذي يقال إنه نادي بوتين المفضل. ونفى ستيل الذي غادر منصبه العام
الماضي أي مخالفات.
وفي
15 حزيران/ يونيو وبعد أقل من أسبوعين من فتح التحقيق أعلمت شركة غازبروم الشركة النمساوية
بتخفيض تزويد الغاز للنمسا. وقال مارك غاريت، مدير شركة "أو أم في" للمساهمين: "بالنظر
إلى الخلف فقد توصلنا إلى أن الاستثمارات التي عملت بعد عام 2015 قامت على أساس الثقة بروسيا
ودورها في المجتمع الدولي".
وتقول
الصحيفة إن أوت كان على تعاون ما بين 2017 و2021 مع المسؤول السابق في الاستخبارات
مارتن ويس ويان مارسليك (42 عاما) ورجل الأعمال النمساوي المطلوب في ألمانيا ويعتقد
أنه مختبئ في روسيا. واعترف ويس بأنه مرر طلبات للبحث عن معلومات بما فيها بيانات شخصية
وأسماء ستقدم إلى أوت نيابة عن مارسليك. وكانت القائمة تشتمل على 25 اسما في كل مرة.
وقبل
فراره، عمل مارسليك كضابط في وايركارد، وهي شركة معالجة بيانات سرية. وفي عام 2019 كشفت
تحقيقات "فايننشال تايمز" عن فساد واحتياطات وهمية في الشركة التي أعلنت
إفلاسها عام 2020. ويحاول المحققون الألمان التحقق في علاقة وايركارد مع الروس وما إن
كان تم استخدامها لغسيل الأموال أو ما إن كان عملاؤها قد استخدموا خدماتها لدفع رسوم نشاطات
إباحية. ويقول محققون إن مارسليك اختفى بعدما ركب طائرة من النمسا إلى بيلاروسيا في
حزيران/ يونيو 2019، حيث إنه أقام في موسكو ومنح هوية جديدة.
ويقول
المسؤولون الأمنيون إن أوت تحت الرقابة منذ سنين قبل اعتقاله العام الماضي، لكن السلطات
لم تكن قادرة على بناء قضية ضده. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 أوقفته الشرطة في مطار
فيينا الدولي، عندما كان يحاول ركوب طائرة إلى أمستردام بعدما أخبرتها "سي آي
إيه" قبل عشرة أشهر أن أوت يقوم ببيع أسرار الدولة لروسيا. وجدد الأمريكيون تحذيراتهم
في ذلك الشهر وهددوا بالانسحاب من مؤتمر أمني في هولندا لو شارك فيه أوت.
وساعدت
"سي آي إيه" الشرطة النمساوية للحصول على إذن بتفتيش بيته في فيينا. وفشلت
المحاولة للكشف عن أدلة تدينه بحسب مسؤولين نمساويين، لكن السلطات قررت تعليق عمله لحين
الانتهاء من التحقيقات.
ورفضت
محمكة إدارية القرار حيث أعيد أوت للعمل في أكاديمية للشرطة بعيدا عن الاتصالات بمؤسسات
أمنية غربية. إلا أن المسؤولين يعتقدون أنه استخدم موقعه الجديد للبحث في البيانات
السرية. وقال زملاؤه إنه يحاول الحصول على معلومات من مؤسسات الأمن في القارة. وفي
واحد من الأمثلة، حاول أوت الحصول على معلومات من المخابرات البريطانية للتأكد من استمرار
مراقبة المخابرات الغربية لامرأة اتهمت سابقا بأنها جاسوسة روسية. كما أنه حاول الحصول
في كانون الأول/ ديسمبر 2020 على معلومات تتعلق بكريستو غروزيف، مدير الموقع الاستقصائي
بيلنيغكات الذي كشف عن هوية فاديم كراسيكوف، الذي أدين العام الماضي بقتل معارض شيشاني
في برلين عام 2019 بعد دخول كراسيكوف ألمانيا بجواز مزور. وقال المسؤولون الألمان إنه
كان يتصرف بناء على توجيهات المخابرات الروسية.
وعندما
سئل غروزيف عن ما كان على معرفة بنشاطات أوت وبحثه عن معلومات عنه بما في ذلك عنوان بيته،
أجاب بأن السلطات أخبرته وتوصل إلى أنها جاءت بطلب من الروس "قد تكون تخويفا، وقد
تكون مراقبة وملاحقة لي أو التحضير للاغتيال".
وتم
الكشف عن وثيقة من ثلاث صفحات على هاتف أوت النقال يحلل فيها مظاهر فشل العمليات الروسية
في برلين وطرق تصحيحها.
ولا
يعرف أحد ما ستفضي إليه حالة أوت وسط تشكك المراقبين في الخارج من التحقيقات البرلمانية
والأمنية النمساوية وإن كانت ستغوص في العمق.
وقالت
سونيا سوينغيف، المدير السابق لمحطة "سي آي إيه" في أوروبا: "هناك أمور
تحتاج الحكومة النمساوية للتحقيق فيها كي تصل إلى جذر الأمور، وشخصيا لا أعرف ما إن كان
النمساويون سيذهبون بعيدا" في التحقيق.. مشيرة إلى أن المواقف هي نفسها التي كانت
في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي وتجنب الكشف عن الحقائق غير المريحة.