هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
جزء مهم من الفوضى السياسية الضاربة بأطنابها في السودان، هو فوضى الخطاب السياسي الذي يتصدى له القادة السياسيون. فالارتجال والحديث العاطفي المغلف بسولفان الوعود الزائفة، سمة مميزة لذلك الخطاب المعطوب، ثم يسألونك من بعد ذلك عن سبب انفضاض الجماهير عنهم وفشل خطابهم السياسي في تحريك ركود الفشل، وسيطرت لغة الكراهية واستعداء الآخر وغليظ القول، على الخطاب فكانت تلك الممارسات بمثابة قوة طرد مركزية سالبة.
ولعل الطامة الكبرى تجسدت في انعدام البرامج السياسية التي يمكن أن يلتف الجماهير عند حدها الأدنى، ويتجاهل القادة السياسيون أو أنهم لا يعلمون أنه ليحقق الخطاب السياسي المثالي غايته يجب أن يكون إقناعيا بامتياز، ليوصل المخاطب إلى بر القبول والتسليم بالصدقية والإيمان بالشرعية، فتتعاون الوسائل اللغوية والمنطقية بجانب مكونات تعبيرية أخرى، ليؤدي وظيفته ورسالته السامية في الحض على العمل والإنتاج والإبداع في مجالات الحياة المختلفة.
وبسبب الخطاب السياسي المضطرب بدت هنالك خلافات وتباينات بين رئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، ونائبه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ولعل الأخير كان خطابه السياسي الأكثر ارباكا للساحة السياسية وأصابت شظاياه الحارقة النسيج الاجتماعي الواهن.
في آخر خطابات حميدتي قال إن الرئيس السوداني الأسبق، جعفر نميري، لو كان حيا لسلّمت إليه السلطة لأنه كان قويا ومسيطرا تماما على الأمور. واعتبرها البعض إشارة غير موفقة، إلى ضعف البرهان، بل إنها تفتقر إلى الكياسة. وإلى أبعد من ذلك اتهم حميدتي الأجهزة الأمنية بالتواطؤ مع العصابات التي تنهب وتعتدي على المواطنين.
ولعل حميدتي كان يحاول الهروب إلى الامام من جريمة تورط قواته في أحداث منطقة كرينك الدامية بدارفور، فهو كأنما يفتعل معركة مع البرهان الذي يمثل الجيش القومي المنوط به حماية المواطنين السودانيين من أي اعتداءات. وجعل حميدتي من العيد سانحة لاستعراض قواته في لقاء محتشد واصطحب معه نجليه وهما يرتديان الزي العسكري في رسالة تفيد بأن قوات الدعم السريع غير قابلة للدمج في الجيش وهي شركة عسكرية - اقتصادية خاصة بآل دقلو. وكانت ميليشيات مسلحة مدعومة من الدعم السريع قد هاجمت قبل نحو أسبوعين محلية كرينك، قبل أن تجدد هجومها عليها مرة أخرى الأحد الماضي، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 200 شخص وإصابة العشرات من السكان، إضافة إلى إحراق منازل ومركز شرطة ومستشفى وسوق.
قبل سنوات وفي عهد الرئيس السابق عمر البشير طالب والي إحدى الولايات قوات الدعم السريع بالخروج من ولايته على خلفية جريمة قتل اتهم أحد المنتمين لهذه القوات بارتكابها. وخرج حميدتي في لقاء تلفزيوني وطالب بأن يحاكم ذلك الوالي، وأن مكانه السجن وليس أن يبقى حاكما للولاية. وكانت تلك الواقعة بداية وإشارة لتعاظم نفوذ تلك القوات التي بدت موازية للجيش القومي. ويبدو أن ذلك اللقاء التلفزيوني قصد منه مواجهة انتقادات حادة من جانب الشارع السوداني لتلك القوات، حيث شكا عدد مقدر من سكان العاصمة الخرطوم من تعرضهم لمضايقات من قبل عناصر مسلحة تابعة لقوات الدعم السريع، من بينها إجبار الشباب على حلق رؤوسهم تحت التهديد. ولم يتخذ نظام البشير أي اجراء ضد الرجل لحساسية موقعه وخطورة القوات التي يقودها وصعوبة السيطرة عليها إذا ما انفلتت الأمور وسرى فيها فيروس التمرد.
لقد تحولت قوات الدعم السريع وهي في الأصل مليشيا شكلها الرئيس البشير إلى قوة ضاربة قصد منها التصدي لمواجهة الحركات المسلحة في دارفور وربما لحماية البشير نفسه من خطر الانقلاب عليه من داخل الجيش. وظلت قوات الدعم السريع محل انتقاد من جانب عسكريين مهنيين وكذلك من جانب أطراف سياسية وشعبية بسبب تجاوزات أفرادها، ونفوذها الطاغي، الذي بات يثير القلق.
وهكذا نشأت قوات الدعم السريع بشكل استثنائي لتغطية عجز ما وهذا النشوء الاستثنائي والمتسرع انعكس على قوام وماهية وكفاءة هذه القوات من الناحية المهنية. فهي لا قوات نظامية ولا هي قوات غير نظامية وتم ضمها للجيش شكليا لكنها احتفظت بطبيعتها غير النظامية. ويبدو أن هذه القوات بها إشكالات تكوينية من حيث الانتماء الجهوي لأفرادها ومن حيث التزامها العسكري وفقا لما هو متعارف عليه في الجيوش النظامية حول العالم.
وتساءل الكثيرون عن الأموال التي صرفها نظام البشير في تجهيز قوات الدعم السريع، على اعتبار أنها كانت كفيلة برفع قدرات الجيش القومي الذي اتهم بالعجز أمام الحركات المسلحة في دارفور. اليوم ينظر كثير من العسكريين إلى قوات الدعم السريع باعتبارها مسجدا ضرارا يهدد الجيش القومي الذي بلغ عمره نحو 70 عاما اطلع خلال هذه السنوات بمسؤولية كبيرة في الحفاظ على أمن البلاد. لكن لا يمكن أن يرجى خير من مؤسسة تنهار معنويات أفرادها يوما بعد يوم كأوراق الخريف بسبب العبث السياسي.
وربما كان عبث الخطاب السياسي جلبة وغطاء لفساد مالي كبير، فبحسب مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، ان الولايات المتحدة تعهدت بتقديم دعم سنوي بخس نحو 600 مليون (دولارات معدودة)، بهدف إنجاح فترة الانتقال السياسي لما بعد ابريل 2019. بيد أن هذا الدعم وفقا لكاتب المقال الخبير الأممي جاستن لينش فضلا عن حزمة مساعدات مماثلة، من دول غربية تبلغ أكثر من مليار دولار سنوياً مخصصة لمعالجة الفقر، قد ذهبت لدعم المصالح الفردية وقد اعترف مسؤولون إنسانيون في السفارات عبر الخرطوم بأنهم لا يعرفون كيفية انفاق الأموال المخصصة لهم. ويضيف لينش، أن قصة المجتمع الدولي في سودان ما بعد الثورة توضح خداع الذات والإهمال العالمي اللذين قادا السودان إلى الفشل.