سلط موقع "
ميدل إيست آي" البريطاني
الضوء على قضية الصحفي جوليان أسانج مفجر فضائح ويكيليكس، وعلى مدى التنكيل الذي
تعرض له على يد أرقى الديمقراطيات الغربية.
وفي تقرير مطول استعرض الموقع كتابا لنيلزميلزر،
أستاذ القانون والمقرر الخاص لدى الأمم المتحدة، وفيه يكشف مدى تلك الانتهاكات
المتعمدة التي تعرض لها أسانج.
وفيما يلي نص التقرير
سوف تقرر وزيرة الداخلية البريطانية بريتي
باتيل هذا الشهر ما إذا كان جوليان أسانج سيسلم إلى الولايات المتحدة حيث يواجه
حكماً بالسجن يصل إلى 175 سنة – الأغلب أن ينفذ داخل سجن خاضع لأشد الإجراءات
الأمنية صرامة وفي حبس انفرادي معزول، شبيه بالوضع التي ما لبث محتجزاً فيه منذ
ثلاث سنين داخل سجن بيل مارش ذي الإجراءات الأمنية الصارمة في لندن.
يواجه أسانج 18 تهمة في الولايات المتحدة
تتعلق بنشر ويكيليكس في عام 2010 وثائق رسمية، يثبت في كثير منها ارتكاب الولايات
المتحدة وبريطانيا عن جرائم حرب في العراق وفي أفغانستان، وهي الجرائم التي لم
يقدم للعدالة أي من المسؤولين عنها حتى الآن.
بل ذهبت الولايات المتحدة بدلاً من ذلك إلى
اعتبار العمل الصحفي الذي قام به أسانج ممارسة للتجسس – وبالتالي كرست ضمنياً حقها
في القبض على أي صحفي في العالم يتحدى الولايات المتحدة ويكشف أسراراً تتعلق بالأمن
القومي الأمريكي – الأمر الذي باركته المحاكم البريطانية عبر سلسلة من القضايا
التي رفعت أمامها لتسليم صحفيين متهمين بذلك.
جرت العادة على أن تتم الإجراءات المطولة ضد
أسانج في محاكمات مغلقة تحت إجراءات أمنية مشددة وفي ظروف يحال فيها بين الصحفيين
وبين القدرة على تغطية الحدث بشكل سليم.
على الرغم من التبعات الخطيرة على حرية
الصحافة والمحاسبة الديمقراطية، لم تثر معاناة أسانج الاهتمام إلا لدى النزر
اليسير من وسائل الإعلام الغربية.
لا يوجد أدنى شك لدى كثير من المراقبين بأن
باتيل سوف تقوم في نهاية المطاف بالتوقيع على الأمر القضائي بتسليم أسانج إلى الولايات
المتحدة، ومن هؤلاء المراقبين نيلزميلزر، أستاذ القانون والمقرر الخاص لدى الأمم
المتحدة.
من خلال دوره كخبير معتمد لدى الأمم المتحدة
في قضايا التعذيب، كرس ميلزر جهده منذ عام 2019 في التحقيق ليس فقط في الطريقة
التي عومل بها أسانج أثناء احتجازه على مدى اثني عشر عاماً – بمباركة من المحاكم
البريطانية – وإنما أيضاً في مدى الالتزام بالإجراءات القانونية السليمة أثناء
ملاحقة مؤسس موقع ويكيليكس.
ضمن ميلزر نتائج بحثه المفصل في كتاب بعنوان
"محاكمة جوليان أسانج"، مسطراً عبر صفحاته تقريراً صادماً حول الخروج
على القانون الذي تمارسه الدول الرئيسية ذات العلاقة بالأمر–بريطانيا والسويد
والولايات المتحدة والإكوادور. كما يوثق في الكتاب للحملة المعقدة التي شنت من قبل
تلك الدول للتضليل واغتيال الشخصية والتستر على الخطايا.
يخلص ميلزر إلى أن النتيجة كانت هجوماً لا
هوادة فيه ليس فقط على حقوق أسانج الأساسية وإنما عليه شخصياً، بدنياً وذهنياً،
وعلى حالته العاطفية، فيما يصنفه ميلزر ممارسة للتعذيب النفسي.
يقول مقرر الأمم المتحدة إن بريطانيا بذلت
قدراً كبيراً من المال والجهد لضمان محاكمة أسانج نيابة عن الولايات المتحدة،
وأنها سعت من خلال ذلك إلى ردع الآخرين عن السير على طريق أسانج في فضح الجرائم
الغربية، الأمر الذي يستوجب من وجهة نظرها الحيلولة دون أن يستعيد أسانج حريته.
ولذلك فقد شاركت في حبك تمثيلية قانونية واسعة
النطاق للتستر على الطبيعة السياسية لعملية احتجاز أسانج، وقامت في سبيل ذلك
بانتهاك مبدأ سيادة القانون بشكل منتظم.
يعتقد ميلزر بأن قضية أسانج بالغة الأهمية
لأنها تشكل سابقة في تجريف الحريات الأساسية التي عادة ما نفترض أنها مضمونة،
فيفتتح كتابه باقتباس من المحامي الألماني أوتوغريتسشندر الذي راقب عن كثب صعود
النازيين قائلاً: "معظم من ينامون في الديمقراطية يصحون على
الدكتاتورية."
العودة إلى الجدار
رفع ميلزر صوته لأنه يعتقد بأنه تم في حالة
أسانج الدوس على كل ما تبقى من آليات الرقابة والتوازن لضبط سلطة الدولة، وخاصة
داخل الولايات المتحدة.
ويشير إلى أنه حتى منظمة حقوق الإنسان
البارزة العفو الدولية تجنبت تصنيف أسانج باعتباره"سجين رأي" على الرغم
من توفر كل المواصفات فيه، وذلك خشية من قبل المنظمة، فيما يبدو، إثارة سخط
مموليها.
كما يشير أيضاً إلى أنه فيما عدا مجموعة
العمل التابعة للأمم المتحدة حول الاعتقال التعسفي، وهي مجموعة مشكلة من عدد من
الخبراء من أساتذة القانون، تجاهلت الأمم المتحدة نفسها إلى حد كبير ما ارتكب من
انتهاكات بحق أسانج. ويعزو السبب في ذلك، إلى حد كبير، إلى أن دولاً مثل روسيا
والصين ترددت في تحويل قضية التنكيل السياسي بأسانج إلى عصا تضرب بها الغرب– على
النقيض مما كان يتوقعه الكثيرون.
والسبب كما يلاحظ ميلزر هو أن نمط ويكيليكس
الصحفي يتطلب درجة أكبر من المحاسبة والشفافية من جميع الدول. ومع تخلي الإكوادور
في وقت لاحق عن أسانج فقد بات كما يبدوتحت رحمة القوى العظمي بشكل تام.
يقول ميلزر إن بريطانيا والولايات المتحدة
فتحتا الطريق بدلاً من ذلك أمام شيطنة أسانج والعمل بالتدريج على إخفائه قسراً عبر
التظاهر باتخاذ سلسلة من الإجراءات القانونية. وما كان لذلك أن يصبح وارداً لولا
تواطؤ المسؤولين في الادعاء والجهاز القضائي الذين سلكوا سبيل الحد الأدنى من
مقاومة الجهود المبذولة لإسكات أسانج والقضية التي يمثلها.
وذلك ما يطلق عليه ميلزر اصطلاحاً
"سياسة رسمية من التنازلات الصغيرة" –وما يرافقها من تداعيات دراماتيكية.
كتابه الذي يأتي في 330 صفحة مليء بالأمثلة
على ما يرتكب من انتهاكات تنال من نزاهة الإجراءات القضائية، لدرجة أنه يستحيل
تلخيص حتى ولو جزء بسيط منها.
ومع ذلك يرفض مقرر الأمم المتحدة اعتبار ذلك
مؤامرة– ولعل السبب في ذلك أنه لو مضى في هذا الاتجاه فإنه سيدين نفسه باعتباره
جزءاً منها. ويعترف أنه عندما تواصل معه محامو أسانج للمرة الأولى طلباً لمساعدته
في عام 2018، قالوا له إن الظروف التي يحتجز فيها أسانج ترقى إلى التعذيب، ولكنه
تجاهل مناشداتهم له.
أما الآن فهو يقر بأنه هو أيضاً وقع تحت
تأثير عملية شيطنة أسانج، وذلك بالرغم من خبرته المهنية الطويلة وتخصصه الأكاديمي
الذي يؤهله للتعرف على آليات إدارة الانطباع والتنكيل السياسي.
ويقول عن ذلك: "بالنسبة لي، ومثلي في
ذلك مثل معظم الناس حول العالم، كان مجرد مرتكب لجريمة الاغتصاب، وهاكر وجاسوس
ونرجسي".
فقط فيما بعد عندما وافق ميلزر على النظر في
الآثار بعيدة المدى لاحتجاز أسانج على صحته –وجد حينها السلطات البريطانية تسعى
جاهدة لإعاقة تحقيقه عند كل منعطف وتعمل على خداعه– الأمر الذي حفزه على الغوص
أكثر فأكثر. وعندما بدأ يجمع السرديات القانونية المحيطة بأسانج بدأت الأمور
تنجلي.
ويشير هنا إلى مخاطر الصدع بالحقيقة – وثمن
ذلك حسبما رآه بعينه – الأمر الذي جعل الآخرين يلتزمون الصمت.
وعن ذلك يقول: "بسبب موقفي الذي لا
يتزحزح، جازفت ليس فقط بمصداقيتي وإنما أيضاً بمهنتي، بل وكان من الممكن أن أجازف
حتى بسلامتي الشخصية. فالآن وجدت نفسي فجأة أقف وظهري إلى الجدار، أدافع عن حقوق
الإنسان وسيادة القانون ضد نفس الديمقراطيات التي لطالما اعتبرتها أقرب حلفائي في الكفاح
ضد التعذيب. كانت تلك تجربة حادة ومؤلمة تعلمت منها".
ويضيف بكل أسف: "لقد أصبحت لا شعورياً منشقاً
داخل المنظومة نفسها خارجاً عنها".
تقويض القانون
من ضمن القضايا التي ورط فيها مؤسس ويكيليكس
وأحاطت به خيوطها من كل جانب – وكانت ذريعة لإبقائه محتجزاً – تحقيق قديم استمر
لما يقرب من عقد من الزمن من قبل السويد في حادثة اعتداء جنسي، وقضية أخرى اتهم
فيها بمخالفة أحكام الكفالة بينما كان ممنوحاً اللجوء من قبل الإكوادور ضد إجراءات
تسليمه إلى الولايات المتحدة، وكذلك الاجتماع السري للجنة كبرى من المحلفين في
الولايات المتحدة تبعه عدد لا يحصى من جلسات المحاكمات والاستئنافات داخل بريطانيا
لتسليمه كجزء من نفس عملية التنكيل السياسي التي حذر منها.
وكان الهدف طوال ذلك، كما يقول ميلزرليس
تسريع محاكمة أسانج –لأن ذلك كان من شأنه أن يفضح انعدام وجود دليل يدينه سواء في
القضية السويدية أو القضية الأمريكية، وإنما كان الهدف هو إبقاء أسانج لأطول مدة
ممكنة رهينة لإجراءات لا تفضي إلى محاكمة، بل تبقيه مسجوناً في أوضاع بالغة القسوة
بينما يتم تحريض الرأي العام ضده.
ما بدا – على الأقل بالنسبة للناظرين من
الخارج – سعياً لإنفاذ أحكام القانون في السويد وبريطانيا والولايات المتحدة كان
في الواقع نقيض ذلك تماماً، أي أن المراد كان إعاقة إنفاذ القانون المرة تلو
الأخرى. فقد كان الإخفاق في اتباع أبسط الإجراءات القانونية، كما يقول ميلزر، متساوقاً
تماماً لدرجة أنه ما كان بالإمكان اعتباره مجرد سلسلة من الأخطاء المؤسفة.
لقد كان الهدف كما يقول هو "التنكيل
المستمر بحق مخالف سياسي غير مريح وكتم صوته، بل وحتى تدميره."
يرى ميلزر أن أسانج ليس مجرد سجين سياسي، بل
إنه شخص تتعرض حياته لمخاطر جمة بسبب ما يرتكب بحقه من انتهاكات لا هوادة فيها
ترقى إلى أن تعتبر تعذيباً نفسياً.
يعتمد مثل هذا التعذيب على ترهيب الضحية
وعزله وإذلاله وإخضاعه لقرارات تعسفية. ويوضح ميلزر أن تداعيات مثل هذا التعذيب لا
تقتصر على إعاقة آليات التحمل الذهني والعاطفي لدى الضحايا، بل يكون لها أيضاً مع
مرور الوقت عواقب بدنية ملموسة جداً.
إلا أنه في حالة أسانج "سرعان ما أضحى
هذا الشكل من سوء المعاملة هو الأمر الواقع" في بيلمارش، على الرغم من أن
أسانج "لم يكن نزيلاً عنيفاً يمثل تهديداً لأي أحد." ومع تدهور حالته
الصحية عمدت سلطات السجن إلى عزله أكثر فأكثر، متعذرة بأنها تفعل ذلك من أجل
سلامته. ويخلص ميلزر أنه نتيجة لذلك بات من الممكن إدامة الوضع الذي يعيشه فيه
أسانج من "إسكات وسوء معاملة إلى الأبد، وكل ذلك بحجة القلق على صحته."
يلاحظ المقرر الأممي أنه ما كان ليفي بمتطلبات
المهمة التي كلفته بها الأمم المتحدة فيما لو أخفق في الاحتجاج ليس فقط على ما
يتعرض له أسانج من تعذيب، بل وكذلك على حقيقة أنه يعذب من أجل حماية أولئك الذين مارسوا
التعذيب وغيره من الجرائم التي ارتكبت في العراق وأفغانستان وفضحتها السجلات التي
سربها موقع ويكيليكس. ومازال هؤلاء في مأمن من المحاكمة والعقاب بتواطؤ من قبل نفس
سلطات الدولة التي تسعى لتدمير أسانج.
يقترح ميلزر، بما لديه من تجربة طويلة في التعامل
مع قضايا التعذيب حول العالم، أن أسانج يحظى بمخزون هائل من القوة الداخلية التي
مكنته من الاستمرار على قيد الحياة، ولئن كان يزداد مع الأيام وهناً من الناحية
البدنية ومرضاً. فقد خسر أسانج قدراً كبيراً من وزنه، وبات مشوشاً وفاقداً
للتوازن، كما أصيب بسكتة دماغية بسيطة في بيلمارش.
كثيرون منا لو كنا في وضعه لتعرضنا لنوبة
قلبية أو سكتة دماغية أو لفكرنا في الانتحار.
يخلص الكتاب إلى أن تلك النتيجة هي ما يصبو
إليه في نهاية المطاف من ينكلون به، ناهيك عن أن إجراءات التسليم الحالية يمكن أن
تستمر إلى الأبد. وبينما تقدم الالتماسات إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في
ستراسبورغ يبقى أسانج معزولاً عن الناس بعيداً عن الأنظار طوال الوقت، الأمر الذي
سيزيد من تدهور حالته الصحية ويشكل في نفس الوقت رادعاً قوياً لمن تسول له نفسه
محاكاة فعله من الوشاة أو من الصحفيين الآخرين.
كما يلاحظ ميلزر بأن من ينكلون بأسانج يكسبون
في كل الأحوال. ففيما لو حصل لديه انهيار عقلي تام فإنه يمكن حينها أن يودع في مصحة
نفسية، وفيما لو مات فسيكون ذلك بمثابة حل نهائي للمشكلة الناجمة عن الاستمرار في التمثيلية
القانونية التي يحتاجونها لإسكاته وإبعاده عن الأعين لفترة طويلة من الزمن.
التمثيلية السويدية
يكرس ميلزر جل الكتاب للبحث في اتهامات
الاعتداء الجنسي التي وجهت لأسانج في السويد عام 2010. وإذ يفعل ذلك فهو لا يفعله
من أجل تكذيب المرأتين المعنيتين – بل يؤكد في حقيقة الأمر على أن النظام القانوني
السويدي خذلهما بنفس القدر الذي خذل فيها أسانج– وإنما يفعل ذلك لأن القضية مهدت
لشن الحملة التي صورت أسانج باعتباره مغتصباًونرجسياً وهارباً من العدالة.
لربما لم تتمكن الولايات المتحدة إطلاقاً من شن
حملة التنكيل السياسية ضد أسانج لولا أنه قد تم تحويله إلى شخصية مكروهة لدى
العامة بسبب القضية السويدية. كانت شيطنته مطلوبة– وكذلك اختفاؤه عن الأنظار – من
أجل تمهيد السبيل لإعادة تعريف صحافة الأمن القومي باعتبارها تجسساً.
يكشف الفحص الدقيق الذي أجراه ميلزر في
القضية –مستفيداً من إجادته للغة السويدية – عن شيء تجاهلته تغطية وسائل إعلام
التيار العام، ألا وهو أن الادعاء السويدي لم يكن لديه ولا حتى ما يشبه القضية ضد
أسانج، بل ويبدو أنه لم يكن لديهم أدنى نية للمضي قدماً بالتحقيق فيما يتجاوزأخذ
إفادات الشهود.
بالرغم من ذلك، كما يلاحظ ميلزر، أصبح ذلك "أطول
تحقيق أولي في التاريخ السويدي".
ما لبث أول مدع عام ينظر في القضية في عام
2010 أن أوقف التحقيق مباشرة قائلاً "لا يوجد شبهة جريمة".
وعندما تم أخيراً الانتهاء من القضية في عام
2019، بعد شهور عديدة من الوصول إلى المرحلة التي ينطبق عليها قانون التقادم، لاحظ
مدع عام ثالث ببساطة أنه "لا يمكن افتراض أن مزيداً من التحقيق من شأنه أن
يغير بشكل كبير الوضع المتعلق بالأدلة".
كان ذلك بمثابة إقرار، بصياغة من لغة أهل
القانون، أن التحقيق مع أسانج لن ينجم عنه توجيه أي تهم. بمعنى آخر، كانت كل
الإجراءات التي تمت خلال السنوات التسع الماضية مجرد تمثيلية مصطنعة.
إلا أنه طوال تلك الأعوام، تم الإيهام بوجود
قضية ذات مصداقية لدرجة أن الصحف الكبرى، بما في ذلك صحيفة الغارديان البريطانية،
أشارت إلى ما قالت إنه "تهم اغتصاب" موجهة ضد أسانج، على الرغم من أنه
لم يحصل أن وجهت له أي تهم على الإطلاق.
والأهم من ذلك، حسبما يشير ميلزر باستمرار،
كانت الادعاءات ضد أسانج واهية لدرجة أن السلطات السويدية لم تسع بتاتاً بشكل جدي
للتحقيق فيها. وذلك أن فتح أي تحقيق فيها كان سيكشف في الحال عن مدى تهافتها.
بدلاً من ذلك تم حصر أسانج فيما يشبه
المصيدة. فعلى مدى الأعوام السبعة التي كان يحظى خلالها باللجوء داخل سفارة
الإكوادور في لندن، رفض الادعاء السويدي اتباع الإجراءات المعتادة والتحقيق معه في
مكان تواجده، سواء شخصياً أو عبر الحاسوب، من أجل حسم الأمر. وفي نفس الوقت رفض
الادعاء إصدار بيانات تطمئنه بأنه لن يتم تسليمه للولايات المتحدة، ولو فعلوا ذلك
لما كان محتاجاً لأن يلجأ إلى سفارة الإكوادور.
وبتلك الطريقة، كما يقول ميلزر "أمكن تكريس
سردية تهمة الاغتصاب وتأبيدها بدون مثول أمام المحكمة. وأمكن بذلك، أمام العامة،
تحميل أسانج المسؤولية عن شبهة مفتعلة واتهامه بالتهرب من العدالة".
إسقاط الحيادية
في نهاية المطاف، نجاح القضية السويدية في
شيطنة أسانج يعود إلى حقيقة أن ذلك كان مدفوعاً بسردية كان يستحيل على المرء
التشكيك فيها بدون أن يعطي الانطباع بأنه يحقر من شأن النساء المعنيات.
إلا أن حكاية الاغتصاب لم تكن صادرة عن
النساء أنفسهن وإنما فرض ذلك فعلياً على القضية – وعليهن – من قبل عناصر داخل
المؤسسة الحاكمة في السويد، ورددت تلك التهم وسائل الإعلام السويدية، وهنا يقدم
ميلزر فرضيته التي يحاول من خلالها تفسير لماذا استغلت الفرصة للمضي قدماً بكل
عنفوان لنزع المصداقية عن أسانج.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أسقط زعماء
السويد الموقف التاريخي للبلاد الذي كان قائماً على تبني الحيادية وألقوا بأنفسهم
في حضن الولايات المتحدة وانضموا إلى "الحرب على الإرهاب". وسرعان ما
أدمجت ستوكهولم في مجتمع الأمن والاستخبارات الغربي.
كاد كل ذلك يتعرض للخطر بمجرد أن بدأ أسانج
يضع عينيه على السويد لتكون قاعدة جديدة لموقع ويكيليكس، والذي جذبه إليها هوالحمايات
التي يوفرها دستورها للناشرين.
في واقع الأمر كان قد تواجد في السويد من أجل
تلك الغاية بالضبط قبيل نشر موقع ويكيليكس لسجلات وقائع الأحداث في كل من العراق
وأفغانستان. لا بد أن مؤسسة الحكم في السويد أدركت بكل وضوح أن نقل المقر الرئيسي
لموقع ويكيليكس إلى هناك سوف يخاطر بوضع ستوكهولم في مواجهة مباشرة مع واشنطن.
وذلك بحسب ما يقوله ميلزر هو السياق الذي
يساعد على تفسير القرار المتسرع لدرجة تبعث على الدهشة من قبل الشرطة بإشعار
المدعي العام بأنها تحقق في تهم وجهت لأسانج بالاغتصاب بعد دقائق فقط من تحدث
امرأة لم يشر إليها إلا بحرف "إس" مع ضابط للشرطة في محطة ستوكهولم
المركزية.
وفي الحقيقة لم تكن المرأة "إس"
ولا المرأة "إيه" تنويان توجيه أي اتهامات ضد أسانج. كل ما هنالك أنهما
بعد أن جامعتا أسانج الواحدة تلو الأخرى كانتا تريدان منه إجراء فحص إتش آي في (للتأكد
من عدم حمله لفيروس الإيدز). وظنتا أنهما من خلال التوجه إلى الشرطة يمكنهما إجباره
على فعل ذلك. أما الشرطة فكانت لديها أفكار أخرى.
إن الأخطاء والتجاوزات التي ارتكبت في القضية
أكثر من أن تحصى، لدرجة أن ميلزر يخصص ما يقرب من مائة صفحة من كتابه لتوثيقها.
والملفت للنظر أن إفادات المرأتين لم يتم لا تسجيلهما صوتياً، ولا نصياً ولم تؤخذ
منهما بوجود ضابط ثان، بل كانت عبارة عن ملخصات.
ونفس الإجراء المليء بالأخطاء والتجاوزات–
التي حالت دون أن يعرف المرء ما إذا كانت الأسئلة الإيحائية هي التي أثرت على
شهادتهما أو ما إذا تم حذف جوانب مهمة من الشهادات – تم استخدامه أثناء المقابلات
التي أجريت مع شهود موالين للمرأتين. في المقابل، كانت إفادات أسانج ومواليه مسجلة
ومفرغة نصاً بالكامل كلمة بكلمة.
لم يرد في ملخصات الشرطة أي إشارة إلى السبب
الذي من أجله تقدمت المرأتان بإفادتيهما – أي الرغبة في حمل أسانج على إجراء فحص
إتش آي في.
في حالة المرأة "إس" تم فيما بعد
تغيير إفادتها دون علمها في ظروف مريبة جداً لم يقدم أحد تفسيراً لها. وتم طمس
مقاطع من النص الأصلي بحيث لم يعد ممكناً معرفة ما الذي تم تغييره.
والأغرب من ذلك أن التقرير الجنائي حول
الاغتصاب تم تسجيله ضد أسانج عبر جهاز الحاسوب التابع للشرطة في الساعة الرابعة
وأحد عشر دقيقة مساء، أي بعد 11 دقيقة من أول لقاء مع المرأة "إس" وقبل
10 دقائق من اللحظة التي بدأ فيها ضابط كبير في استجواب المرأة "إس" –
وقبل ساعتين ونصف من انتهاء ذلك الاستجواب.
وفي مؤشر آخر على السرعة الفائقة التي كانت
تجري بها الأمور، تلقى مدعي عام السويد تقريرين جنائيين ضد أسانج من قبل الشرطة في
الساعة الخامسة مساء، قبل وقت طويل من انتهاء الاستجواب الذي أجري مع المرأة
"إس". قام المدعي العام مباشرة بإصدار مذكرة اعتقال بحق أسانج قبل تحرير
ملخص الشرطة ودون الأخذ بالحسبان حقيقة أن المرأة "إس" لم توافق على
التوقيع عليه.
ثم مباشرة تقريباً، تم تسريب المعلومات إلى
وسائل الإعلام السويدية، وخلال ساعة من تلقي التقارير الجنائية تجاوز المدعي العام
ما هو متعارف عليه من إجراء حين قام بتأكيد المعلومات لوسائل الإعلام السويدية.
تعديلات سرية
من القضايا التي تناولها كتاب ميلزر الغياب
المستمر للشفافية في التعامل مع أسانج من قبل السلطات السويدية والبريطانية
والأمريكية والإكوادورية. فالأدلة في العادة غير متاحة بموجب قوانين حرية الاطلاع
على المعلومات، وحينما تكون متاحة فإنها تكون مطموسة إلى حد كبير أو لا يفصح إلا
عن جزء يسير منها – غالباً تلك الأجزاء التي لا يخشى منها تقويض الرواية الرسمية.
ظل محامو أسانج لأربعة أعوام يحال بينهم وبين
الحصول على نسخ من الرسائل النصية التي وجهتها المرأتان السويديتان– وذلك بحجة
أنها "سرية". كما حيل بين المحاكم السويدية والاطلاع على تلك الرسائل، حتى
حينما كانت تنظر في أمر طلب تمديد مذكرة الاعتقال الصادرة بحق أسانج.
لم يتم الإفصاح عن تلك الرسائل ولم تصبح
متاحة لاطلاع الجمهور إلا بعد تسعة أعوام، مع أن ميلزر يشير إلى أن أرقام الملحق
تثبت أن كثيراً من الرسائل كانت ماتزال غير متاحة. مما تجدر الإشارة إليه بشكل خاص
أن المرأة "إس" بعثت باثنتي عشرة رسالة من داخل مركز الشرطة– حينما كانت،
كما عُلم فيما بعد، غير سعيدة برواية الشرطة التي يتم فرضها عليها– وكل هذه
الرسائل مفقودة، على الرغم من أنها في الأغلب تصب في صالح الدفاع عن أسانج.
وبنفس الطريقة تم إتلاف معظم المراسلات التي
جرت في وقت لاحق بين المدعين في بريطانيا والمدعين في السويد، وهي المراسلات التي
أبقت أسانج محبوساً داخل السفارة الإكوادورية لسنوات، حتى حينما كان يفترض بأن
التحقيق الأولي من قبل السويديين مازال قائماً.
ومع ذلك فإن الرسائل النصية التي بعثت بها
المرأتان وتم فيما بعد نشرها تشير بقوة إلى أنهما شعرتا بالمحاولات الحثيثة
لحملهما على الخروج برواية للأحداث لا توافقان عليها.
ثم ما لبثتا شيئاً فشيئاً أن خضعتا تحت وطأة
الضغط الهائل الذي مورس عليهما من قبل المؤسسة الرسمية والتهديد بأنهما إذا خالفا
الرواية الرسمية فقد تتعرضان نفسيهما للمحاكمة بتهمة التقدم بإفادات باطلة.
بعد لحظات من دخول المرأة "إس" إلى
مركز الشرطة، بعثت برسالة نصية إلى صديقة تقول لها فيها "يبدو أن ضابط الشرطة
تعجبه فكرة النيل من (أسانج)".
وفي رسالة تالية، كتبت تقول إن "الشرطة
هي التي اصطنعت التهم". وعندما عينت لها الدولة محام شهير، قالت إنها فقط
ترجو أن يتمكن من تخليصها وأن يضمن لها "الخروج من هذا الوحل".
وتقول في رسالة أخرى بعد ذلك: "لم أرد
أن أكون جزءاً من ذلك (أي القضية ضد أسانج)، ولكني الآن لم يعد لدي من خيار".
على أساس من التعديلات السرية التي أدخلت على
شهادة المرأة "إس" من قبل الشرطة تم إلغاء قرار المدعي الأول بإسقاط
التهم الموجهة ضد أسانج وتم إعادة فتح التحقيق من جديد. وكما يشير ميلزر فإن الأمل
الضئيل في المضي قدماً بمحاكمة أسانج كان يعتمد بشكل أساسي على كلمة واحدة، وهي ما
إذا كانت المرأة "إس" "نائمة" أو "نصف نائمة" أو
"نعسانة" عندما وقعت المعاشرة الجنسية بينهما.
يقول ميلزر عن ذلك: "طالما سمح للسلطات
السويدية بالاختفاء وراء نقاب السرية الذي يتناسب معها، فقد لا ترى النور بتاتاً
حقيقة ما جرى في هذه القضية المريبة".
ليست أي عملية تسليم
هذه وكثيرات جداً غيرها من المخالفات فيما
وثق ميلزر وقوعه في التحقيق السويدي الأولي مهمة لفك شيفرة ما تلا ذلك من أحداث.
أو كما استنتج ميلزر فإن "السلطات لم تكن تسعى لتحقيق العدالة في هذه القضية
وإنما خدمة أجندة مختلفة تماماً ذات بعد سياسي محض".
بينما كانت تلاحقه التحقيقات، ظل أسانج يكافح
ليبني فوق زخم سجلات ما وقع في العراق وأفغانستان وليكشف ما ارتكب فيهما من جرائم
حرب على يد الولايات المتحدة وبريطانيا.
يلاحظ ميلزر قائلاً: "نجحت الحكومات
المعنية في الإمساك بالكشافات الموجهة عليها من قبل ويكيليكس، فأدارتها وسلطتها
على أسانج."
ومازالت تفعل نفس الشيء منذ ذلك الحين.
مُنح أسانج إذناً بمغادرة السويد بعد أن رفض
المحقق الجديد الذي أوكلت إليه القضية مراراً استجوابه للمرة الثانية.
ولكن بمجرد أن غادر أسانج إلى لندن صدرت بحقه
مذكرة إنتربول حمراء، فيما اعتبر تطوراً عجيباً إذا ما أخذنا بالاعتبار أن مثل هذه
المذكرات تستخدم عادة في حالة الجرائم الدولية الخطيرة، وبذلك أعد المسرح لسردية
الهارب من العدالة.
بعد ذلك مباشرة، أقرت المحاكم البريطانية
مذكرة توقيف أوروبية – ولكن، تارة أخرى، استثناء، بعد أن قلب القضاة رأساً على عقب
الرغبة الصريحة من قبل البرلمان البريطاني بأن يكون إصدار مثل هذه المذكرات فقط من
قبل "سلطة قضائية" في البلد الذي يطلب تسليم المتهم، وليس الشرطة أو
الادعاء.
صدر قانون مباشرة بعد ذلك الحكم يغلق تلك
الثغرة ويضمن ألا يعاني أحد مثلما عانى أسانج.
وبينما كان الحبل يلتف ليس فقط على رقبة
أسانج بل وعلى رقبة ويكيليكس أيضاً –ضيق على المجموعة في استخدام الخوادم وأغلقت
حساباتها البنكية، ورفضت شركات الاعتماد التعامل معها – ولم يبق أمام أسانج من
خيار سوى القبول بأن الولايات المتحدة كانت القوة التي تتحرك ضده من وراء
الكواليس.
فهرع إلى سفارة الإكوادور بعد أن منحته
دولتها اللجوء السياسي. وبذلك أوشك فصل جديد من الحكاية على البدء.
كما يظهر من رسائل الإيميل التي بقيت على قيد
الحياة، كان المسؤولون في مكتب المدعي العام البريطاني هم من يتنمرون على نظرائهم
في الادعاء السويدي لكي يستمروا في القضية المرفوعة ضده بعد أن كاد السويديون
يفقدون الحماسة لذلك. فمن وراء الكواليس، أصرت بريطانيا، رغم أنها من المفروض أن
تكون طرفاً غير معني، على أنه يجب أن يطلب من أسانج مغادرة السفارة وإنهاء لجوئه
حتى يتم استجوابه في ستوكهولم.
بل بلغ الأمر بأحد المحامين في مكتب المدعي
العام البريطاني أن يقول لنظرائه السويديين "حذار من أن تجبنوا
وتتراجعوا".
ومع اقتراب أعياد الميلاد، تحدث المدعي العام
السويدي متفكهاً عن أسانج باعتباره هدية "يمكنني أن أستغني عنها .... وفي
الواقع، سوف يكون صادماً الحصول على هذه الهدية بعينها".
وعندما ناقشت مع مكتب المدعي البريطاني ما
يساور السويديين من شكوك حول الاستمرار في القضية، اعتذرت عن "تخريب عطلة
نهاية الأسبوع".
وفي رسالة إيميل أخرى، نصح أحد محامي مكتب
المدعي العام البريطاني قائلاً "رجاء لا تظنوا أن القضية يتم التعامل معها
فقط كما لو كانت مجرد طلب تسليم آخر".
عملية التجسس على السفارة
قد يفسر ذلك لماذا جازف وزير الخارجية
البريطاني آنذاك، وليام هيغ، بإحداث أزمة دبلوماسية كبيرة من خلال التهديد بانتهاك
السيادة الإكوادورية واجتياح السفارة لإلقاء القبض على أسانج.
ولماذا كان السير ألان دنكن، الوزير في
الحكومة البريطانية، يدون يوميات في مذكراته قام فيما بعد بنشرها في كتاب حول كيف
كان يعمل بعنفوان فيما وراء الكواليس لإخراج أسانج من السفارة.
ولماذا كانت الشرطة البريطانية على استعداد
لإنفاق 16 مليون جنيه إسترليني من المال العام لفرض حصار حول السفارة على مدى سبعة
أعوام من أجل إنفاذ عملية تسليم كان الادعاء السويدي لا يبدي أي اهتمام بها.
بمجرد أن تنحى رئيس الإكوادور اليساري
رافائيل كوريا عن منصبه في 2017 حتى حولت الإكوادور، التي كانت البلد الوحيد الذي
عرض على أسانج ملاذاً في سفارتها، اتجاهها وغيرت موقفها. فقد تعرض خلفه لينين
مورينو لضغط دبلوماسي هائل من قبل واشنطن وعرضت عليه محفزات مالية كبيرة حتى يتخلى
عن أسانج.
بدا في البداية أن الغاية هي حرمان أسانج من
أي تواصل مع العالم الخارجي، بما في ذلك استخدام الإنترنيت والهاتف، وفي نفس الوقت
المضي قدماً بشن حملة من الشيطنة ضده ترسم له صورة من يسيء إلى قطته ويلطخ الجدران
ببرازه.
في نفس الوقت عملت وكالة المخابرات الأمريكية
(السي آي إيه) مع شركة أمن السفارة لتدشين عملية سرية معقدة للتجسس على أسانج
وزائريه، بما في ذلك أطباؤه ومحاموه. ونعلم الآن أن الـ(سي آي إيه) كانت تفكر كذلك
برسم خطة لخطف أسانج أو حتى اغتياله.
وأخيراً، في نيسان/ إبريل من عام 2019، وبعد
أن جردت أسانج من جنسيته ولجوئه – في انتهاك صارخ للقانون الدولي وقانون الإكوادور
– سمحت كويتو للشرطة البريطانية بالدخول وإلقاء القبض عليه.
تم جره إلى الخارج في ضوء النهار، في أول
ظهور علني له منذ شهور عديدة، فبدا في حالة رثة –كما لو كان كائناً مرعباً في
مظهره.
والحقيقة هي أن تلك الصورة لأسانج قصد أن
تكون بذلك المظهر حتى تنفر منه الناس الذين شاهدوه على ذلك الحال، وكان لموظفي
السفارة دور في ذلك إذ صادروا منه عدة الحلاقة وتمشيط الشعر والعناية بالمظهر قبل
شهور.
في هذه الأثناء تمت مصادرة مقتنيات أسانج
الشخصية، وجهاز الحاسوب الخاص به وكذلك وثائقه، وسلمت جميعها ليس لعائلته ولا حتى
للسلطات البريطانية وإنما للولايات المتحدة – المؤلف الحقيقي لهذه الدراما.
تلك الحركة، وحقيقة أن الـ(سي آي إيه) كانت
تتجسس على محادثات أسانج مع محاميه داخل السفارة، كان ينبغي أن تكون كافية لإبطال
أي إجراءات قانونية ضد أسانج وأن تضمن له استعادة حريته.
ولكن سيادة القانون كما يشير ميلزر باستمرار
لم تبد مهمة على الإطلاق في حالة أسانج.
بل ما حدث هو العكس تماماً، في الواقع. فقد
نقل أسانج مباشرة إلى مركز للشرطة البريطانية حيث صدرت بحقه مذكرة توقيف جديدة
للتمهيد لتسليمه إلى الولايات المتحدة.
في مساء نفس ذلك اليوم مثل أسانج أمام إحدى المحاكم
لمدة نصف ساعة، دون أن يتاح له إعداد مرافعة دفاعاً عن نفسه، ووجهت له تهمة انتهاك
أحكام كفالة عمرها سبعة أعوام جراء منحه اللجوء داخل السفارة.
حكم عليه بالسجن خمسين أسبوعاً – وهو تقريباً
الحد الأعلى من العقوبة المنصوص عليها – في سجن بيلمارش ذي الحراسة المشددة، حيث
مازال يقبع منذ ذلك الحين.
من الواضح أنه لم يخطر ببال المحاكم
البريطانية ولا ببال وسائل الإعلام أن السبب الذي من أجله انتهك أسانج شروط
الكفالة كان بالضبط تجنب التسليم السياسي إلى الولايات المتحدة، والذي واجهه بمجرد
أن أجبر على الخروج من السفارة.
"العيش تحت حكم الطغيان"
معظم ما تبقى من كتاب ميلزر هو عبارة عن
توثيق مفصل لدرجة تؤرق لما يطلق عليه عبارة "المحاكمة الاستعراضية الأنغلو
أمريكية" الحالية، أي الإساءات الإجرائية اللانهائية التي يواجهها أسانج منذ
ثلاثة أعوام، والتي أخفق خلالها القضاة البريطانيون في أن يحولوا دون ارتكاب ما
يسميه ميلزر سلسلة من المظالم المتعاقبة.
أقل ما يقال أن التسليم بدوافع سياسية محظور
صراحة بموجب معاهدة التسليم البريطانية مع الولايات المتحدة. ولكن، تارة أخرى لا
قيمة للقانون عندما يتعلق الأمر بأسانج.
والآن يتوقف قرار التسليم على باتيل، وزيرة
الداخلية الصقورية، التي اضطرت من قبل إلى الاستقالة من الحكومة بسبب تعاملاتها
السرية مع دولة أجنبية، هي إسرائيل، والتي تقف من وراء الخطة الصارمة للحكومة
الحالية والتي تقضي بشحن طالبي اللجوء إلى رواندا، فيما يعتبر على وجه التأكيد
انتهاكاً لمعاهدة اللاجئين الدولية.
اشتكى ميلزر مراراً لكل من بريطانيا
والولايات المتحدة والسويد والإكوادور بشأن الكثير من التجاوزات والانتهاكات التي
مورست بحق أسانج، وكذلك حول التعذيب النفسي الذي تعرض له. يشير المقرر الأممي إلى
أن الدول الأربع إما أنها تجاهلت استفساراته تماماً أو تعاملت معها بنوع من
الازدراء الصريح.
لا يوجد لدى أسانج أي أمل في أن يحظى بمحاكمة
نزيهة في الولايات المتحدة كما يشير ميلزر. وذلك أولاً لأن السياسيين من مختلف الطيف
السياسي، بما في ذلك الرئيسين الأمريكيين السابقين، نددوا علانية بأسانج معتبرين
أنه جاسوس وإرهابي أو خائن، وكثيرون من هؤلاء طالبوا بإعدامه.
وثانياً لأنه سوف يمثل أمام "محكمة
التجسس" سيئة الصيت في أليكزاندريا، بولاية فرجينيا، والتي تقع في القلب من
مؤسسات الاستخبارات والأمن في الولايات المتحدة، دون حضور من قبل الجمهور أو
الصحافة.
يستحيل أن يحظى هناك بمحلفين يتعاطفون مع ما
فعله أسانج من فضح لما يرتكبه مجتمعهم من جرائم. أو كما يلاحظ ميلزر: "سوف
يحصل أسانج على محاكمة أمن دولة سرية شبيهة جداً بما يتم من محاكمات داخل البلدان التي
تحكمها أنظمة دكتاتورية".
وما أن يصل الولايات المتحدة فلن يرى أسانج من
بعد ذلك على الأرجح، إذ سيخضع لما يسمى بالإجراءات الإدارية الخاصة، والتي تبقيه
معزولاً في حبس انفرادي على مدار الساعة. يرى ميلزر أن الإجراءات الإدارية الخاصة
ما هي سوى "مصطلح احتيالي آخر للتعذيب."
ليس كتاب ميلزر مجرد توثيق للتنكيل الذي يتعرض
له شخص معارض. بل يلاحظ فيه أيضاً أن واشنطن ما لبثت ترتكب الانتهاكات بحق جميع
المعارضين لها، بما في ذلك مشاهير الوشاة من مثل تشيلز يمانينغ وإدوارد سنودن.
يقول ميلزر إن قضية أسانج ذات أهمية بالغة،
لأنها علامة على اللحظة التي تقوم عندها الدول الغربية ليس فقط باستهداف من يعملون
داخل النظام ممن يبوحون بأسرار ينجم عنها انتهاك عقود السرية التي التزموا بها، بل
وأيضاً من هم خارجه – من مثل الصحفيين والناشرين الذين يتمثل دورهم داخل المجتمعات
الديمقراطية في ممارسة الرقابة على السلطة.
ولذلك يحذر ميلزر في كتابه من أننا سوف ننهض
من نومنا لنجد العالم قد تغير. أو كما يخلص: "عندما يتحول قول الحق إلي
جريمة، فسوف نعيش جميعنا في ظل حكم الطغيان".