قضايا وآراء

ليلة القدرِ.. آية مستمرّة وخيار صعب

خالد آغا
1300x600
1300x600
أقسم الله تعالى أنه أنزل القرآن الكريم في ليلة مباركة مما يدل على عظيم شأنها فقال: "إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةࣲ مُّبَـٰرَكَةٍۚ" (الدخان: ٣)، أي: كثيرة الخير والبركة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام(1).

متى ليلة القدر؟ اختلف العلماء في هذه المسألة.

وَهَلْ هي في جَمِيعِ السَّنَةِ، أمْ في رَمَضانَ؟ فِيهِ قَوْلانِ:

أحَدُهُما: في رَمَضانَ، قالَهُ الجُمْهُورُ.

والثّانِي: في جَمِيعِ السَّنَةِ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.

واخْتَلَفَ القائِلُونَ بِأنَّها في شَهْرِ رَمَضانَ هَلْ تَخْتَصُّ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ؟ عَلى قَوْلَيْنِ:

أحَدُهُما: أنَّها في العَشْرِ الأواخِرِ، قالَهُ الجُمْهُورُ، وأكْثَرُ الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَدُلُّ عَلَيْهِ(2).

وهذا ما تؤيده السنة الصحيحة ففي حديث عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَقُولُ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"(3). وفي حديث أبي سعيد في الصحيحين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "فَابْتَغُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَابْتَغُوهَا فِي كلِّ وِتْرٍ"(4).

والقول الثاني: أنها في جميع رمضان ، قاله الحسن البصري.

هل من علامات لليلة القدر؟

عَنْ ‌زِرٍّ قَالَ: "سَمِعْتُ ‌أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ -وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ-: مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَالَ أُبَيٌّ: وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ -يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي- وَوَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا. هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا ‌بَيْضَاءَ ‌لا ‌شُعَاعَ ‌لَهَا(5).

قال القرطبي المحدث:

"ثم هل هذه الأمارات راتبة لكل ليلة قدر تأتي، أو كان ذلك لتلك الليلة الخاصة؟ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: وأراني أسجد في صبيحتها في ماء وطين؟ قولان لأهل العلم، والأول أولى؛ لما رواه أبو عمر بن عبد البر من طريق عبادة بن الصامت مرفوعاً: إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بَلجَاء(6)، كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة لا برد فيها ولا حرّ، ولا يحلّ لكوكب أن يرمى به فيها حتى يصبح، وإن أمارة الشمس أنها تخرج صبيحتها مشرقة ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، ولا يحلّ للشيطان أن يطلع يومئذٍ معها(7). قال: وهذا حديث حسن غريب من حديث الشاميين، رواته كلهم معروفون ثقات"(8).

وإن كان العلماء قد تكلموا في صحة هذا الحديث وهذه العلامات، ولكن العلامة الظاهرة التي ثبتت بها السنة هي طلوع الشمس (بيضاء نقية). قال الإمام ابن قدامة المقدسي: "فهذا أصح علاماتها"(9).

وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر بهذه العلامة الواضحة وهي ظاهرة كونية ظاهرة للعيان (تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا ‌بَيْضَاءَ ‌لَا ‌شُعَاعَ ‌لَهَا)، فلماذا لم ينكرها كفار قريش وهم يعيشون في صحراء جرداء مترامية الأطراف، يرون الشروق والغروب بكل وضوح؟ ولماذا لا ينكرها علماء الفلك المعاصرون من غير المسلمين، مع تقدم علم الفلك، ألا ترى أنهم بين خيارات صعبة لا يُحسدون عليها:

- الإنكار لهذه الظاهرة الكونية وهذا ما يكذبه الواقع، خاصة أنها ظاهرة متكررة بخلاف انشقاق القمر، فقد كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، لسبب ما، ولن يتكرر.

- الإثبات لهذه الظاهرة وهذا دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم.

- الصمت على مضض، الذي يحمل في طياته صدق النبوة، "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى" (سورة النجم: 3- 4).
__________
(1) تفسير السعدي ص: 771.
(2) زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي 4/ 470.
(3) أخرجه البخاري رقم (1916) ومسلم رقم (726).
(4) رواه البخاري رقم: (1914) ومسلم رقم: (725).
(5) رواه مسلم رقم: (762- ط التركية).
(6) بلجة: أي مشرقة.
(7) رواه أحمد (5/324).
(8) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/391، 392).
(9) الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 453).
التعليقات (0)