مقالات مختارة

سعي الغرب إلى هزيمة روسيا في أوكرانيا مبالغة كارثية

رمزي عز الدين رمزي
1300x600
1300x600

هناك أمثلة عدة على مبالغة الدول الغربية في تحديد أهدافها، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالصراعات المسلحة. ويسري ذلك أيضاً على الحالات التي وعد الغرب فيها بأكثر مما يستطيع الوفاء به، مثلما حدث في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا، حيث جاءت النتيجة معاكسة لمصالحه، وكارثية للدول المعنية وشعوبها.
وحيث إن الأزمة في أوكرانيا محور الاهتمام الدولي في المرحلة الحالية، سأقصر كلامي في هذا المقال على ما حدث في الماضي ويحدث حالياً في أوروبا، وبالأخص الحالات التي تتعلق بروسيا.
كانت أول مبالغة من الغرب هي الإصرار على إذلال ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وهو ما دفع الشعب الألماني إلى عقد العزم على إعادة كبريائه الوطنية، الأمر الذي فتح المجال أمام ظهور النازية التي أدت بدورها إلى الحرب العالمية الثانية.
أما المبالغة الثانية فكانت الإصرار على تحقيق هزيمة ساحقة على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، والتدمير الكامل لبنيتها التحتية والصناعية، نتج عنها فراغ أدى إلى ظهور خصم أكثر قوة وجسارة وهو الاتحاد السوفياتي، وبداية الحرب الباردة التي استمرت نحو أربعين عاماً، وأدت إلى سباق تسلح كانت له عواقب غير حميدة على المستوى العالمي.
وفي الحالتين كان من الممكن تجنب إذلال ألمانيا وإلحاق هزيمة ساحقة بها.
ففي الحالة الأولى، كان من الممكن الحيلولة دون ولادة النازية، ومن ثَمّ تجنب الحرب العالمية الثانية. وفي الحالة الثانية، كان من الممكن أن تستعيد ألمانيا قوتها بشكل أسرع في وسط أوروبا لتكون حاجزاً أمام انتشار الشيوعية في دول أوروبا الشرقية، الأمر الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى تشكيل كتلة ذات ثقل، تُوازِن الاتحاد السوفياتي في أوروبا.
أما المبالغة الثالثة، فجاءت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث سعى الغرب إلى استغلال ضعف روسيا لخلق أمر واقع يفرض على موسكو قبول مرتبة ثانوية في المعادلة الدولية. ولذلك، جرى الإسراع في توسيع كل من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، من خلال استيعاب الحلفاء السابقين للاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية. ولكن، ما لم يأخذه الغرب في الاعتبار هو أن روسيا أمة فخورة، تمتلك تاريخاً زاخراً وتقاليد راسخة أعطياها شعوراً بأنها «دولة استثنائية».
هذا الشعور بالاستثنائية، مثلما هو الوضع بالنسبة إلى الولايات المتحدة، يتجلى في أنها ترى نفسها دولة ذات رسالة إصلاحية عالمية. فبينما ترى الولايات المتحدة أن واجبها تجاه البشرية هو نشر الحرية والديمقراطية، فإن روسيا ترى أن واجبها المقدس هو تقديم ونشر نموذج أخلاقي نقيّ نابع من المبادئ والمفاهيم التي ترتكز عليها الكنيسة الأرثوذكسية.
النموذج الغربي مبنيٌّ على ركائز عدة؛ أبرزها أن تكون القوة موزعة في النظام السياسي الذي يقوم على التوازن بين السلطات، بالإضافة إلى الالتزام بأسلوب العمل البراغماتي. أما روسيا، فلم تعرف سوى مركزية السلطة وتتفاخر بنقائها الأخلاقي الذي ينعكس في الالتزام الآيديولوجي، سواءً كان في شكل الشيوعية أو المسيحية الأرثوذكسية. وهذه هي معضلة روسيا مع الغرب: فمن جهة لم يستطع الغرب استيعاب روسيا، ومن جهة أخرى فإن روسيا لم تكن مرتاحة تماماً للغرب ولمنظومة القيم الخاصة به. والواقع أنه لو كانت الحضارة الغربية قد استوعبت روسيا، لكان الغرب مختلفاً تماماً عما هو عليه اليوم.
إن أي مهتم بالتاريخ الروسي لا يستطيع أن يتجاهل حقيقة أن هناك خصائص متأصلة ومستمرة في العقلية الروسية، انعكست في النظام السياسي، بغضّ النظر عن توجهاته الآيديولوجية: الإيمان بالدولة الاستثنائية، وتقبل السلطة المركزية، ووجود عقدة أمنية (Security Phobia) ناشئة عن أن روسيا تعرضت على مدى قرون للغزوات من جميع الاتجاهات.
وهذه الخصائص هي التي أدت إلى عدم استيعاب روسيا في المنظومة الغربية، وخلقت حالة من الخصومة المتقطعة بينها وبين الغرب. ومع ذلك، فليس كل الروس يعدّون الغرب خصماً لهم. فهناك من يتوق منهم إلى توطين نظام القيم الذي يشكّل الحضارة الغربية في بلدهم، ولكنْ هناك أيضاً روس يرون أنفسهم أوروبيين وفي الوقت ذاته آسيويين، وهو ما يميز القومية الروسية عن سائر القوميات الأوروبية. وربما كان أفضل مثال على هذا الشعور القومي، ولكن في شكله المتطرف، الفيلسوف ألكسندر دوجين، الذي اشتهر على المستوى العالمي من خلال كتابه «أسس الجغرافيا السياسية».
أمام هذا الشعور بالاستثنائية والوطنية العميقة للشعب الروسي، لم يكن هناك شك في أن روسيا كانت ستعمل على إعادة اعتبارها لدى الغرب بعد المهانة التي شعر بها الشعب خلال حقبة الرئيس يلتسين.
وهنا يجدر إجراء مقارنة بين الرئيسين بوتين وغورباتشوف. فكلاهما، كما هو الوضع بالنسبة لأسلافهما، هدفه تأكيد عظمة روسيا. وقد تولى غورباتشوف قيادة الاتحاد السوفياتي بعد مرحلة انتقالية وجيزة لم تتعدَّ ثلاثين شهراً، تقلد فيها كل من أندروبوف وتشرنيينكو الحكم، في وقت كان فيه النظام الشيوعي في حاجة ملحّة للإصلاح.
وفي اعتقادي أنه لو لم يقْدم غورباتشوف على عملية الإصلاح، بغضّ النظر عمّا آلت إليه، لقام بها شخص آخر من جيله.
وهنا، من الأهمية تسليط الضوء على مسألة الأجيال التي حكمت الاتحاد السوفياتي ثم روسيا. فالجيل الأول من الشيوعيين الذي حكم الاتحاد السوفياتي، والمتمثل في لينين وستالين، حصل على تكوينه السياسي قبل وفي أثناء الثورة البلشفية، وكانت مرجعيته الوضع في روسيا ما قبل الثورة، حيث كانت أغلبية الشعب تعيش في فقر مدقع. وفي تقدير القيادة السوفياتية أن الثورة نجحت، على الرغم من الحرب الأهلية والتدخلات العسكرية الأجنبية، في تحسين الظروف المعيشية. وكانت هناك ثقة مدفوعة بالرومانسية الثورية بأن النظام الشيوعي سوف يكون النظام السياسي المهيمن على العالم.
أما الجيل الثاني، الذي يمثله كل من خروشوف وبريجنيف، فقد كان تكوينه السياسي نتاج كلٍّ من الحرب العالمية الثانية والثورة البلشفية. فقد خرج الاتحاد السوفياتي منتصراً، وإن كان منهكاً مثل بقية الدول الأوروبية، أي أن الأوضاع الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي لم تكن أسوأ من مثيلتها في القارة التي شكّلت مرجعية هذا الجيل، الأمر الذي أبقى على حلم هيمنة النظام الشيوعي على العالم. وهنا، يجدر التذكير بالمقولة الشهيرة لخروشوف عندما أعلن عام 1956 أمام سفراء الدول الغربية في موسكو أن الاتحاد السوفياتي «سيُدفن» الغرب.
أما الرئيس غورباتشوف، فكان ممثلاً للجيل الثالث الذي وُلد بعد الثورة البلشفية، وكان في سن مبكرة خلال الحرب العالمية الثانية، ومن ثم لم يتأثر بشكل مباشر بهما. كما شهد هذا الجيل تحولات مهمة في العالم أصبحت مرجعية هذا الجيل، كان من شأنها صعوبة إخفاء التباين الصارخ بين مستوى معيشة الشعب السوفياتي بالمقارنة بنظيره في الغرب، ما تولد عنه تطلعات للالتحاق بالتقدم المادي في الغرب، كان يجب على الدولة السوفياتية تحقيقها.
أما مرحلة الرئيس يلتسين فلم تكن سوى مرحلة انتقالية يصعب تكرارها. فكما كان الوضع بالنسبة لغورباتشوف، كانت روسيا تتطلع إلى التغيير، ولكن في هذه الحالة استعادة احترام العالم والغرب بصفة خاصة لها كقوة كبرى، إن لم تكن عظمى. وكان ذلك هو السياق التاريخي الذي جاء فيه الرئيس بوتين إلى السلطة.
تجدر الإشارة إلى أن فلاديمير بوتين، الذي يمثل الجيل الرابع للقيادات الروسية، وُلد عام 1952، أي بعد سبع سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، فكان تكوينه السياسي في الفترة التي بدأت فيها مظاهر الضعف تظهر على الاتحاد السوفياتي.
وكما كان الوضع بالنسبة لغورباتشوف، فإذا لم يكن بوتين في مقعد الرئاسة لكان شخص آخر من جيله هو الذي سيسعى إلى إعادة الاعتبار لروسيا، ربما بأسلوب مختلف، إلا أنه كان لن يحيد عن دفع الغرب لاحترام مصالح روسيا وشواغلها الأمنية. وهذا هو السياق الذي اندلعت فيه الأزمة في أوكرانيا.
لا يعني ذلك أن كل الشعب الروسي مؤيد للحرب في أوكرانيا، فهناك من يعارضونها، غير أنهم لا يشكّلون الكتلة الحرجة التي يمكن أن تؤثر في القرارات فيما يتعلق بإدارة الأزمة.
لذا، فإن تحميل مسؤولية اندلاع الأزمة في أوكرانيا لبوتين ومستشاريه يتجاهل تطلعات روسيا التاريخية في أن يتعامل العالم، والغرب خاصة، معها كأمة استثنائية وقوة كبرى.
ومكمن الخطر هنا هو أن روسيا لن تقبل الهزيمة في أوكرانيا.
ولذلك، فإن سعي الغرب إلى هزيمة روسيا في أوكرانيا سيكون بمثابة مبالغة كارثية أخرى. والحل الوحيد هو ضرورة العودة إلى صيغة للتعايش والتعاون بين الغرب وروسيا تحترم خصوصية كل منهما.

 

الشرق الأوسط اللندنية 

0
التعليقات (0)

خبر عاجل