نشرت
صحيفة "
فاينانشال تايمز" البريطانية تقريرًا تحدثت فيه عن قرار وزيرة الخزانة
الأمريكية إعادة ربط التجارة بالقيم في سيناريو مشابه لاتفاقية "
بريتون وودز"
التي انعقدت سنة 1944 من أجل ضمان استقرار
النظام العالمي المالي وتشجيع إنماء التجارة
بعد الحرب العالمية الثانية.
وقالت
الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21" إن وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت
يلين اتخذت الأسبوع الماضي خطوة مهمة، وهي إعادة ربط التجارة بالقيم. وفي خطاب أمام
المجلس الأطلسي في واشنطن، دعت الوزيرة إلى إنشاء نظام "بريتون وودز" جديد
وتجديد مؤسسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكلاهما يستعدان لعقد اجتماعاتهما
السنوية هذا الأسبوع.
كما
أوضحت أن حرب فلاديمير بوتين في أوكرانيا ورفض الصين الانضمام إلى الولايات المتحدة
وأكثر من 30 دولة أخرى في فرض عقوبات على روسيا كانت نقطة محورية للاقتصاد العالمي.
وفي
المستقبل، لن تتضمن السياسة التجارية للولايات المتحدة مجرد ترك الأسواق لأجندتها الخاصة،
بل ستتمسك بمبادئ معينة من السيادة الوطنية
والنظام القائم على القواعد إلى الأمن وحقوق العمل.
وعلى
حد تعبيرها، يجب ألا يكون هدف الولايات المتحدة مجرد "تجارة حرة بل وآمنة في نفس
الوقت"، مؤكدة أنه "لا ينبغي السماح للبلدان باستخدام موقعها في السوق في
المواد الخام أو التقنيات أو المنتجات الرئيسية لتكون لديها القدرة على تعطيل اقتصادنا
أو ممارسة نفوذ جيوسياسي غير مرغوب فيه".
صاغت
يلين مصطلحًا جديدًا أسمته "دعم الأصدقاء" لعصر ما بعد الليبرالية الجديدة.
ويبدو أن الولايات المتحدة تفضّل الآن "دعم الأصدقاء لسلاسل التوريد لعدد كبير
من البلدان الموثوقة" التي تشترك في "مجموعة من المعايير والقيم حول كيفية
العمل في الاقتصاد العالمي". وستسعى أيضًا إلى إنشاء تحالفات قائمة على المبادئ
في مجالات مثل الخدمات الرقمية وتنظيم التكنولوجيا، على غرار صفقة الضرائب العالمية
في السنة الماضية.
ذكرت
الصحيفة أن هذه السياسة لا تشبه سياستي "أمريكا وحدها" أو حتى "أمريكا
أولاً"، لكنها تعترف بوجود اقتصاد سياسي لا يمكن أن تكون فيه التجارة الحرة حرة
بشكل فعلي إلا إذا كانت البلدان تعمل بقيم مشتركة وفي مساحة لعب متساوية. تم استخدام
مصطلح "الليبرالية الجديدة" لأول مرة في سنة 1938، في ندوة "والتر ليبمان"
في باريس، وهي تجمع للاقتصاديين وعلماء الاجتماع والصحفيين ورجال الأعمال الذين أرادوا
إيجاد طريقة لحماية
الرأسمالية العالمية من الفاشية والاشتراكية.
كانت
أوروبا قد مزّقتها الحرب العالمية الأولى، ولم يكن عقد من السياسة النقدية السهلة
قادرًا على تغطية التغييرات السياسية والاقتصادية الرئيسية التي خلقت انقسامات هائلة
في المجتمعات، وكانت أسواق العمل والهياكل الأسرية تتغير، وأدى الوباء والتضخم ثم الكساد
الاقتصادي والانكماش والحروب التجارية إلى تدمير القارة اقتصاديًا. أراد الليبراليون
الجدد إصلاح هذه المشاكل من خلال ربط الأسواق العالمية معتقدين أنه إذا تم ربط رأس
المال والتجارة عبر سلسلة من المؤسسات التي يمكن أن تتفوق على الدول القومية الفردية،
فمن غير المرجح أن ينزلق العالم إلى الفوضى.
أشارت
الصحيفة إلى أن هذه الفكرة نجحت لفترة طويلة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن التوازن بين
المصالح الوطنية والاقتصاد العالمي كان مناسبًا. حتى خلال حقبة ريغان وتاتشر في الثمانينيات،
كان لا يزال هناك شعور بأن التجارة العالمية على وجه الخصوص بحاجة إلى خدمة المصلحة
الوطنية. وباعتباره رئيسا للولايات المتحدة، ربما كان رونالد ريغان من دعاة التجارة
الحرة، لكنه استخدم التعريفات الجمركية ضد اليابان ودعم أيضًا السياسة الصناعية.
في الولايات
المتحدة، بدأ ذلك في التحول خلال إدارة كلينتون، التي دبّرت سلسلة من اتفاقيات التجارة
الحرة التي بلغت ذروتها بدخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية في سنة 2001، على أمل
أن تصبح البلاد أكثر حرية مع ازدياد ثرائها، لكن هذا لم يحدث بالطبع. والآن، يعترف
القادة في كل مكان بوجود مشكلة "عالم واحد ونظامين ماليين".
تأمل
يلين "ألا ينتهي بنا الأمر بنظام ثنائي القطب"، لا سيما بالنظر إلى مدى استفادة
الصين نفسها من النظام الليبرالي الجديد، وتعترف بأن مشاكل حقيقية ظهرت، وأن سلاسل
التوريد متعددة الجنسيات "أصبحت فعالة جدًا وممتازة في خفض تكاليف الأعمال، إلا
أنها لم تكن مرنة". كلتا القضيتين، كما تقول، يجب معالجتهما. ولا يختلف النظام
الذي قد يشكّل نقطة تحول الآن عن ذلك الذي واجه المفكرين النيوليبراليين الذين صاغوا
نظام "بريتون وودز" الأصلي.
لم يبدأ
المفكرون النيوليبراليون بفكرة عدم التدخل في الأسواق التي تعمل من أجل مصلحتهم الخاصة،
وإنما بالأحرى بمشكلة إنسانية بحتة، كيفية ترقيع عالم مزقته الحرب لجعل مجتمع أكثر
أمانًا وتماسكًا تكون فيه الحرية والرخاء أمرين مضمونين. لكن لم يكن بوسع الأسواق أن
تفعل ذلك بمفردها، وكانت هناك حاجة إلى قواعد جديدة.
تجاوزت
الرأسمالية العالمية، على مدار العشرين عامًا الماضية على وجه الخصوص، الاهتمامات المحلية
في بعض الدول القومية بشكل كبير جدًا، ولم تلتزم جميع البلدان ذات الأطر السياسية والاقتصادية
وحتى الأخلاقية شديدة الاختلاف بنفس القواعد العالمية. وفي ظل هذه الظروف، تبدأ الأسواق
العادلة والحرة في الانهيار. وقد بدأت للتو عملية صياغة اتفاقية "بريتون وودز"
جديدة.