مقالات مختارة

بوتين الذي لا يستطيع أن يخسر

غسان شربل
1300x600
1300x600

يقف العالم مذهولا أمام منعطف خطر لم يَشهد مثيلا له منذ عقود. لا مبالغة في هذا الكلام. عادت الحرب إلى القارة الأوروبية وعلى يد دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن.

 

أطلقت مشاهد الحرب الروسية في أوكرانيا سيلا من الأسئلة الصعبة. هل نحن أمام إعادة رسم بعض الخرائط؟ هل نشهد انقلابا على عالم القوة العظمى الوحيدة؟ هل نحن في الطريق إلى نظام عالمي جديد؟ نظام متعدد الأقطاب يبيح لكل قطب التفرد بمصير الدول الواقعة في مداه الحيوي؟ وأين موقع الصين في هذا العالم الجديد الذي يولد على دوي القذائف وقطع الشرايين الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية؟ هل نحن في الطريق إلى سباق تسلح محموم ينسي العالم هموم الأوبئة والاحترار المناخي وجموع الفقراء الحالمين بالهجرة من بلدانهم الكئيبة المتصدعة؟ وماذا سيحصد العالم من الحرب الأوكرانية التي وضعت على المشرحة خطوط الغاز والقمح وسلاسل التوريد؟


واضح أن رجلا اسمه فلاديمير بوتين وجّه ضربة بالغة القسوة إلى العالم الذي يحمل بصمات سلفه ميخائيل غورباتشوف، وهو العالم الذي أساءت أمريكا المنتصرة إدارته.


يمكن القول؛ إن الحرب الأوكرانية أشد خطورة من كل النزاعات التي شهدها عالم المعسكرين. أخطر من الحرب الكورية والحرب الفيتنامية والحروب التي أنهكت الشرق الأوسط. أخطر لأن عالم المعسكرين كان يمتلك على الأقل القدرة على إيقاظ صمام أمان، يشكله أي اتفاق بين واشنطن وموسكو على محاصرة الحريق أو إخماده. لا يمكن الحديث في العالم الحالي عن صمام أمان. مجلس الأمن يذكّر بشيخوخة المؤسسات حين تنزف هيبتها وفاعليتها، ولا تحتفظ إلا بالقدرة على الكلام وتوزيع المناديل والضمادات.


يذهب الزعيم إلى التاريخ حاملا معه حربه أو قرارا كبيرا عند منعطف كبير. ومن عادة التاريخ أن يعطي مقعدا في شرفته للذين يجرون جراحات قاسية للخرائط وموازين القوى، ويفوق أحيانا عدد ضحاياهم عدد مناصريهم. يستقبل كتاب الزمن من يقتحمون صفحاته ثم يحاكمهم ويعيد المحاكمات. ومن عادة التاريخ أن يُكتب بحبر المنتصرين.


لزعماء الكرملين قصة مثيرة، قدرهم أن يكونوا أقوياء. ولد الاتحاد السوفياتي من رحم الإمبراطورية الروسية، ولا تستطيع موسكو التعايش مع الضعف لأنه يعني تطاير لحم الإمبراطورية. وفي موازاة القوة التي لا بد منها، تسرب إلى الكرملين في القرن الماضي هذا الخوف من الغرب الذي زاره بطرس الأكبر متنكرا لاستكشاف أسباب قوته واستيراد خبراته. وكان الخوف من الغرب ونموذجه صحنا دائم الحضور على مائدة القياصرة الذين جلسوا تباعا على عرش لينين.


لنترك ستالين مرتاحا مع إنجازاته وارتكاباته بين سكاكين المؤرخين، ارتبطت أسماء معظم ورثته بأزمات كبرى وقرارات مدوية. كان «الفلاح الأوكراني» نيكيتا خروشوف في نادي القيادة حين لوّحت انتفاضة المجر بمغادرة النظام الصارم؛ تقدمت الدبابات السوفياتية إلى بودابست ولقنت خونة الحزب درسا لن ينسوه. وشاءت الصدفة أن يكون اسم السفير السوفياتي في وليمة بودابست يوري أندروبوف، الذي سيقود لاحقا إمبراطورية الـ«كي جي بي»، وبعدها الاتحاد السوفياتي. وكان خروشوف في موقع القيادة في أزمة الصواريخ الكوبية، التي وضعته في مبارزة مباشرة مع جون كينيدي على شفير مواجهة نووية. وفي تلك الأيام كان بوتين في العاشرة من العمر.


اسم ليونيد بريجنيف سيرتبط هو الآخر بمحطات كبرى. في 1968 ارتكب الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي بزعامة ألكسندر دوبتشيك خطيئة الدعوة إلى «اشتراكية ذات وجه إنساني». أدركت موسكو خطورة تسرب الرياح، فأمر بريجنيف بسحق «ربيع براغ» وكان له ما أراد.

 

سيرتبط اسم بريجنيف أيضا بقرار يفتقر إلى الحصافة، وهو تدخل الاتحاد السوفياتي للمرة الأولى خارج حديقة أوروبا الشرقية. تدفق «الجيش الأحمر» إلى أفغانستان ولن يخرج منها إلا مثخنا في عهد غورباتشوف.


في روسيا بوتين، زعيم سوفياتي يبحر في التسعينيات بعد أن غير ملامح العالم الذي نعيش فيه. إنه غورباتشوف. فتح النافذة فدخلت العاصفة. سيرتبط اسمه في التاريخ بمنعطفين، هما انهيار جدار برلين وانتحار الاتحاد السوفياتي. خلال مفاوضات توحيد ألمانيا لم يحاول الحصول من قادة حلف «الناتو» على ضمانات بعدم اقتراب الحلف من روسيا.

 

اكتفى بوعود شفوية ليس من عادة الأقوياء احترامها. لم يحاول الحصول على ضمانات مكتوبة لأن ذلك كان يعني، وفق تبريراته، التسليم باحتضار «حلف وارسو» الذي كان لا يزال حيا. أما اسم خليفته بوريس يلتسين، فسيرتبط بتعميق شعور روسيا بالضياع والهزيمة، خصوصا بعدما تعرضت لأوسع عملية نهب في التاريخ على يد المافيات.


من غضب المطبخ العسكري - الاستخباراتي سيولد مشروع الثأر وسيحمله بوتين إلى الكرملين. لم يتنبه حلف «الناتو» لمخاطر إذلال روسيا. حرك بيادقه في اتجاه حدودها أو على مقربة منها، وتجاهل ما يدور من تمزق على أرض أوكرانيا منذ عقدين. كازاخستان شيء وأوكرانيا شيء آخر.

 

لن يغفر بوتين لأوكرانيا السلافية احتفالها بالقفز من القطار السوفياتي ضاربة عرض الحائط بمشتركات كثيرة وتداخلات أكثر. لن يغفر لها ثورتها البرتقالية في العقد الأول من القرن الحالي، ولا قيامها في العقد التالي بطرد الرئيس المؤيد لموسكو. عاقبها على خيانتها.

 

استعاد القرم ودعم الجيوب الانفصالية. لا الغرب التقط الرسائل ولا أوكرانيا فعلت. سدد بوتين ضربته الكبرى إلى العالم الذي استعذب معاملة روسيا كقوة من الدرجة الثانية. وكانت الحرب الحالية.


أقسى ما في الحرب الحالية، أن مهندسها لا يستطيع العودة إلى الوراء. يعتقد الغرب أن خروجه منتصرا منها سيضاعف شهيته لاستعادة «الأملاك المسلوبة». أما هو، فيشبه رجلا مفرط الذكاء قامر فجأة بكل رصيده ولا يستطيع أن يخسر. لا يستطيع العودة خاسرا إلى روسيا المحاصرة حتى لو اضطر إلى اللعب على حافة توسيع الحرب. هزيمته قد تهدد بتطاير لحم الاتحاد الروسي نفسه.

 

على العالم الخائف على الغاز والحبوب والأمن والاستقرار ابتكار صيغة إنقاذ. سلوك الرئيس الصيني يوحي أن ظروف الخروج من المأزق لم تحن بعد. الحسابات الصينية شديدة التعقيد؛ التخلي عن روسيا مكلف، والانخراط الكامل في انقلابها باهظ، وسيد الكرملين لا يستطيع أن يخسر.

 

الشرق الأوسط

3
التعليقات (3)
همام الحارث
الأربعاء، 23-03-2022 02:28 م
لو افترضنا أن حرب روسيا / أوكرانيا ليست لعبة سياسية دولية متفق عليها و أنها فعلاً ملاكمة بين متنافسين من الوزن الثقيل روسيا / أمريكا . نحن العرب يتحكم بنا نواطير لا يملكون من أمرهم شيئاً و يقولون و يعملون بموجب أوامر تأتي من الخارج . هذا الخارج الاستعماري آذنا و قام بتكسيرنا فصرنا كعرب على هامش الهامش في هذه الدنيا و وزننا أخف من وزن الريشة في العلاقات الدولية . لا الروس أعمامنا و لا الأوكرانيون أخوالنا و وقوف أي مواطن عربي أو أي طرطور أعرابي مع هذه الجهة أو تلك لا يقدَم و لا يؤخر أو لا يضيف و لا يطرح . لقد كان وباء "كورونا" شماعة جرى تعليق فشل الطراطير المتحكمين عندنا - في مجالات الحياة و خاصة الاقتصادية - عليها ثم يا سبحان الله أتت مشكلة البلد الذي اسمه هو الأقرب من لفظة كورونا " أوكرانيا" ليمنح شماعة أخرى للطراطير الفاشلين المتحكمين . أجهزة الإعلام الرسمية الأعرابية لطالما رسمت صوراً زاهية كاذبة لأشخاص في قمة التفاهة في الإدارة و في التعيينات و في الفعاليات و في التصريحات لكن الوقائع الجارية "من فقر و بطالة و معيشة ضنكا و تدهور تعليم و صحة و قمع" تصرخ بتكذيب أجهزة الإعلام تلك و المطبلين فيها . بما أن مركز تنبه الطرطور الأساسي هو الكرسي الذي يجلس عليه ، فإنهم خائفون في هذه الأيام من امتداد سيناريو التهام القوي للضعيف بما يؤدي إلى اختفاء دويلات من الخريطة . ربما لن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي ستحتاج فيه كتب الجغرافيا و الأطالس إلى تحديثات واسعة !
صابر
الثلاثاء، 22-03-2022 07:01 م
انتصار بوتين يعني ان اوربا و امريكا اصبحت تساوي صفرا و اعلم ان انهزام بوتين يساوي نهايته و اعلم انه بلطجي ديكتاتور لا يهمه لو حرق روسيا و العالم و اتوقع ان وضعهما الحالي عقابا لهما على طغاينهما على الضعفاء في سوريا و مصر بتشجيع الخاين السيسي و غيرها من البلاد مثل اليمن و ليبيا و العراق و للكون رب لن يتركه ربما هم يظنون انهم الهه لذلك هم سلطوا على بعض
الكاتب المقدام
الإثنين، 21-03-2022 12:43 م
*** كاتب المقال غسان شربل الصحفي اللبناني الهابط من طوائف جبل لبنان على معترك دنيا الصحافة العربية، الذي استطاع إزاحة منافسيه والوصول إلى أعلى مناصبها، فمنذ 2004 كان رئيساً لتحرير صحيفة الحياة، ثم تلاها من 2016 بتوليته رئاسة تحرير صحيفة الشرق الأوسط، وهي أهم الصحف العربية السعودية الدولية الصادرة من لندن، وذلك تواكباً مع سيطرة محمد بن سلمان ولي العهد على كافة المنافذ الإعلامية، وفرض رجاله كشربل عليها، مع سعيه للسيطرة الشاملة على كل مصادر السلطة والمال في المملكة، وإنهائه لنظام حكم العائلة المالكة التي كان يتقاسم فيها الآلاف من الأمراء من أبناء العائلة مناصب النفوذ والمال بها، وتحويلها إلى دولة خاضعة له وتدين بالولاء الكامل والطاعة المطلقة لشخصه، وسحقه لأي أصوات معارضة، كاغتيال الشهيد جمال خاشقجي، وإزاحته لكافة منافسيه في المؤسسة الدينية والمراكز السياسية المؤثرة وتهميشهم، واستيلائه على أموال أثريائهم، بعد أن اعتقل العشرات منهم ونجح في ابتزازهم، وهو النجاح السهل الذي أثار دهشة المراقبين، باعتبار أن محمد بن سلمان كان من أقل الأمراء خبرة وأكثرهم رعونة، ولكنه كان الأعلى في اطماعه، والأقل في الوفاء بالعهد لأبناء عمومته، والأسرع في استباق خيانتهم والانقلاب عليهم. وعندما يتحدث شربل فهو بالتأكيد يتحدث بلسان بن سلمان هذا، فهو ذراعه الإعلامية المروجة لإفكه والمبررة لجرائمه، ولفهم الموقف الملتبس والانتهازي لابن سلمان، ومعه اين زايد والجنرال المنقلب السيسي، من عدم الوقوف الصريح بجانب الولايات المتحدة، وهي الدولة الراعية لهم والتي جاءت بهم، وذلك ضد غزو بوتين لاوكرانيا، فشربل لا يخفي في مقالته إعجابه وتأييده بالضربة التي وجهها بوتين لاميركا، وذلك عقاباُ لبايدن على عدم تأييده المطلق لجرائم بن سلمان وبن زايد والسيسي، وشربل لا يخفي إعجابه وتبريره لجرائم بوتين وأسلافة في الامبارطورية السوفيتية المنحلة، وعندما يقول بأن بوتين: "اكتفى بوعود ليس من عادة الأقوياء احترامها"، فإنه يتحدث بلسان عصابة الثلاثة بن سلمان العاق لأسرته وبن زايد المتصهين والسيسي الجنرال المنقلب على رئيسه الشرعي، ويظهر حقيقة الأخلاقيات التي يعتنقونها، في أن احترام الوعود هو شيمة الضعفاء وحدهم، وأن الغدر بالشركاء هو شيمة الأقوياء من أمثالهم، وذلك يوضح كيف ارتاح ضمير بن سلمان للغدر بأبناء عمومته، وبرر لنفسه اغتيال معارضيه كخاشقجي، ولكن السياسة الانتهازية التي تنتهجها عصابة الثلاثة باستغلال جميع الأطراف المتصارعة باللعب بينهم، والثقة الزائدة في مكرهم ودهائهم ومؤامراتهم التي تعميهم عن رؤية واقعهم المزري، ستنقلب عليهم وعلى داعميهم، وستكون فيها نهايتهم، وإن غداُ لناظره قريب، والله أعلم بعباده.