هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشر الصحفي البريطاني "جيرمي باوين" محرر شؤون الشرق الأوسط في "بي بي سي" تغريدة على صفحته في تويتر، يقدم فيها نصائح للمواطنين الأوكرانيين عن أماكن الضعف الروسية التي يمكن استهدافها بقنابل المولوتوف. صحفي ومذيع بريطاني آخر أطلق وصف "الطابور الخامس" على تحالف "أوقفوا الحرب" لأنه انتقد الناتو في بيان أدان أيضا الغزو الروسي لأوكرانيا.
مع تصاعد الحرب في الميدان، استعرت أيضا حرب الإعلام، فقد عاقبت معظم الدول الغربية وسائل الإعلام الروسية، ومارست الحظر أو المنع أو وسائل ضغط أخرى. في نفس الإطار، قال إيلون ماسك أغنى رجل في العالم إن شركته التي تقدم خدمات إنترنت عبر الساتلايت غير قابلة للحظر؛ تعرضت لضغوط من حكومات ومنظمات لمنع وسائل الإعلام الروسية، وأضاف أن هذا لن يتم "إلا على جثته"!
وبين الحظر والمنع والضغط، شهدت الشاشات التلفزيونية الغربية حالات متعددة من البكاء على الهواء وهو أمر غير معهود في هذه القنوات، وظهرت فلتات اللسان التي تعبر عن العنصرية والغضب وانعدام المهنية والموضوعية.
من الجيد أن نشير هنا إلى أن هذا الأمر ليس جديدا. في الحرب العالمية الثانية كتب رئيس "بي بي سي" فريدريك أوغيلفاي أنه يريد تحويل الإذاعة إلى "أداة فعالة في الحرب"، وقد أنهيت خدمات الصحفيين الذين رفضوا بوعي ممارسة هذه السياسة. وبحسب مقال في الغارديان للصحفي "روي غرينسليد" فإن الصحفيين كانوا أثناء الحرب يجبرون على ممارسة "البروباغاندا" وتغييب الحقائق، وأنهم كانوا يتعرضون للضغط لتحقيق ذلك من قبل الحكومة والجيش ومالكي الصحف على حد سواء!
يقدم هذا النموذج للتعاطي الإعلامي الغربي مع الغزو الروسي المدان لأوكرانيا وتاريخ الإعلام الغربي في الحروب عدة دلالات، يجب أن يستفيد منها الإعلامي العربي في مقاربته لدوره الإعلامي
أولى الدلالات هي أن الأزمات فقط هي ما يظهر حقيقة الأشياء. تستطيع أن "تنظّر" وتقدم دروسا في المهنية والموضوعية والحياد وكل المصطلحات الكبيرة في أوقات الرخاء، ولكن هذه القيم لا يمكن اختبارها إلا في وقت الشدة، وليس هناك من شدة أكبر من الحروب. سقطت كل هذه الأخلاقيات عند انطلاق الحرب في أوكرانيا، وتحول بعض الصحفيين الغربيين من ناقلي أخبار إلى مرشدي "مولوتوف"، وموزعي شهادات في الوطنية والخيانة، وداعمين لمنع وسائل الإعلام "المعادية".
وإذا كنت تعتقد -عزيزي القارئ- أن المقال سيدين هذه التصرفات من قبل الإعلام الغربي فأنت مخطئ! بل إن الطبيعي هو ما يحدث الآن في الإعلام الغربي، وما يحدث أيضا على صعيد المقاطعة الاقتصادية من الشركات الكبرى لروسيا. ما هو غير طبيعي أن يقف الإعلام في الأزمات (مع الخارج وليس ضد المعارضة الوطنية) على الحياد، ولذلك فإن الصحفي العربي الذي تعيش بلاده حالة من الحرب بكافة أنواعها منذ تأسيس دولة "ما بعد الاستقلال" لا يفترض به أن يصدق "هراء" الحياد الغربي، ويجب أن يدرك أن عمله هو جزء من كفاح بلاده لتحقيق أمنها القومي.
ثاني الدلالات هي أن العالم الذي خلقه تأسيس "الدولة الحديثة" جعل الأمن القومي لأي دولة مرتبطا بمحيطه الجغرافي. هذا بالضبط ما يجعل الانتفاضة الغربية سياسيا وشعبيا واقتصاديا ضد روسيا أمرا طبيعيا. لم تغز روسيا أمريكا ولا بريطانيا ولا أي دولة باستثناء أوكرانيا، ومع ذلك فإن الإعلام الغربي ككل يمارس دوره "الطبيعي" في الوقوف مع الأمن الأوروبي، لأن نجاح موسكو بتحقيق هدفها بالسيطرة على أوكرانيا سيسقط نظرية الأمن الأوروبي، وسيجعل أي دولة أوروبية -خصوصا إذا كانت غير عضو بالناتو- عرضة لغزو روسي جديد.
الإعلام الغربي ككل يمارس دوره "الطبيعي" في الوقوف مع الأمن الأوروبي، لأن نجاح موسكو بتحقيق هدفها بالسيطرة على أوكرانيا سيسقط نظرية الأمن الأوروبي، وسيجعل أي دولة أوروبية -خصوصا إذا كانت غير عضو بالناتو- عرضة لغزو روسي جديد
ما يهمنا كصحفيين عرب من دروس هذه الأزمة هو ضرورة أن نعيد اكتشاف معنى الأمن القومي العربي. لقد استطاعت دول عربية "فاشلة" وأنظمة مستبدة أن تغير طبيعة النقاش حول الأمن القومي العربي، وترويج خطاب انعزالي يفصل الأمن القومي لكل دولة عن الأخرى، وقد حان الوقت لكل إعلامي روّج -بحسن نية- لهذا الخطاب أن يأخذ الدروس من الأزمة الأوكرانية، وإعادة مفهوم الأمن القومي العربي إلى حقيقته.
تغطي أخبار الحرب في أوكرانيا كل وسائل الإعلام الغربية اليوم، وتسيطر تماما على الأجندة الإعلامية، وهو أمر طبيعي لأن أمن أوكرانيا سيوثر على كل دولة ومواطن غربي، بينما يغرق الإعلام العربي بالتسطيح والانعزالية، وتغيب عن صفحاته وشاشاته أكبر قضية تؤثر على أمنه القومي وهي احتلال فلسطين، وقد حان الوقت لكي نأخذ الدروس من الأزمة الأوكرانية ونعيد ترتيب أولوياتنا الإعلامية والسياسية والاقتصادية على حد سواء.
المقصود هو ضرورة حضور القضايا المؤثرة في الأمن القومي على رأس أولويات الأجندة الإعلامية، وأهمية أن يدرك الصحفي أنه ليس مجرد ناقل للأخبار، وإنما هو جزء من مجتمع وأمة تدافع عن أمنها وقضاياها
ويجب التأكيد هنا على أننا لا ندعو للبروباغاندا الفارغة أو نشر الأكاذيب أو تغييب الحقائق، فهذه الممارسات تضر بالحقيقة والأمن القومي في وقت واحد، بل إن المقصود هو ضرورة حضور القضايا المؤثرة في الأمن القومي على رأس أولويات الأجندة الإعلامية، وأهمية أن يدرك الصحفي أنه ليس مجرد ناقل للأخبار، وإنما هو جزء من مجتمع وأمة تدافع عن أمنها وقضاياها.
لا ينتظر من الصحفي العربي أن يركز فقط على ما يراه من تناقضات للغرب في تعاطيه مع الأزمة الأوكرانية، ولكن ما يهم أكثر هو أن يأخذ الدروس من التحولات التي تخلقها الأزمات على الأداء الإعلامي، وأن يدرك أن بلاده -كجزء من منظومة الأمن العربي- تعيش أزمة دائمة، وأنها تستحق في ظل هذه الأزمة أن يرتقي بأدائه الإعلامي إلى مستوى حربه المستمرة مع الاستعمار والفقر والاستبداد!