مرّت
الذكرى الثالثة والثلاثون لميلاد "اتحاد
المغرب العربي" هذا العام (17 شباط/ فبراير 1989-17 شباط/ فبراير 2022) بشكل خافت ودون أصداء تذكر، إذ باستثناء تونس التي أعلنت في بلاغ رسمي عن تمسكها بالاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي، لم تتفاعل الدول الأربع الأخرى الأعضاء في الاتحاد مع الذكرى، كما دأبت على ذلك في السنوات السابقة. فهل يُفهم من ذلك خروج فكرة المغرب العربي من أولويات البلاد المغاربية، وسياساتها الإقليمية؟ أم أن حالة الفتور والتوقف الذي طال مؤسسات العمل المغاربي المشترك؛ جعلت الحديث عنه حتى على سبيل الذكرى بدون جدوى وبلا معنى؟
حال الاتحاد يقول إن وضعه لا يدعو إلى القلق فحسب، بل يُحفز على الجزم دون تردد، بأنه في طريق الانتهاء، لأن موته البطيء انطلق منذ العام 1994، حيث توقفت اجتماعات أعلى هيئة تقريرية في هيكله التنظيمي، أي مجلس الرئاسة، وتداعت بقية مؤسساته ولجانه مع العام 2003، على الرغم من تجدد الدعوات إلى التمسك به، والتفكير في إعادة صياغة فلسفة تأسيسه كي يقدر على النهوض، والاستجابة للتغيرات العميقة التي طالت دوله ومجتمعاته وبلدان العالم من حوله. لذلك يتجدد سؤال ماذا بقي من "المشترك المغاربي"، إذا اتفقنا أن هناك مشتركا مغاربيا؟ وكيف يمكن تعزيز وتقوية ما تبقى منه؟
تؤكد كل المؤشرات الموضوعية أن هناك مشتركا مغاربيا، يتمتع بحضور أقوى مما هو موجود في غيره من التنظيمات الإقليمية، القريبة منه أو البعيدة عنه، وأن القارئ لتاريخ المنطقة، والمتابع لشؤونها العامة، يلمس بوضوح عناصر هذا المشترك ومقوماته، ويفهم دون صعوبة
الاختلالات البنيوية التي أعاقت استثمار هذا المشترك في ما يخدم المشروع، ويحقق اندماج بلدانه ووحدتها العضوية.
تؤكد كل المؤشرات الموضوعية أن هناك مشتركا مغاربيا، يتمتع بحضور أقوى مما هو موجود في غيره من التنظيمات الإقليمية، القريبة منه أو البعيدة عنه، وأن القارئ لتاريخ المنطقة، والمتابع لشؤونها العامة، يلمس بوضوح عناصر هذا المشترك ومقوماته، ويفهم دون صعوبة الاختلالات البنيوية التي أعاقت استثمار هذا المشترك
فمن جهة أولى، ثمة مشتركات جاذبة قلّما توفرت لتجارب اندماجية ناجحة في العالم، وفي صدارتها مقومات الدين واللغة والتاريخ، وما يتفرع عنها عناصر مكملة ومعززة لها. فمن نهر السنغال على الحدود الموريتانية وحتى منطقة السلوم الفاصلة بين ليبيا ومصر، مرورا بالمغرب والجزائر وتونس، هناك هوية جامعة، يرُصّ وحدتها الإسلام ووحدة المذهب (المالكية)، وتقويها اللغة المشتركة، ويعززها التاريخ المتجانس، الذي وإن شهد تباينات في تطور خطوطه فقد حافظ، مع ذلك، على كتلته الصلبة المشتركة التي تمّ أحياؤها مع بداية القرن العشرين، على يد "علي باش حمبة" (1920-1921)، ووظفتها حركات الاستقلال في تعبئة الروح الوطنية للمجتمعات، وإذكاء وعيها من أجل مقاومة المستعمر واسترداد السيادة الوطنية. وقد تركت النخب الوطنية رصيدا من أشكال النضال المشترك، جديرة بالدراسة، وكفيلة بالاعتماد عليها لإعادة تعزيز المشترك المغاربي.
ثم إن المشترك المغاربي يظهر، من جهة ثانية، في المؤهلات الطبيعية والبشرية التي تختزنها المنطقة، وهي في الواقع مفتوحة على التكامل أكثر من التنافس والتنافر، إن أعيد بناؤها وفق خطط جماعية، مدروسة ومتوافق حولها، ومؤسسة على المشترك الجماعي، وليس الخيارات الفردية أو القطرية. فالمنطقة المغاربية تضم سوقا من أكثر من مائة مليون نسمة، وتتوفر على موارد طبيعية ذات قيمة تكاملية استراتيجية (الفلاحة، النفط ومشتقاته، الصيد البحري، المقدرات السياسية).
ويظهر المشترك المغاربي، من جهة ثالثة، في الإمكانيات البشرية المهمة، القادرة على إنجاح الاندماج وتقوية وحدة مكوناته. فهكذا، يعكس هرم أعمار البلدان الخمسة الطابع الشاب لساكنته، ونسبة التّمدرس المرتفعة في الأسلاك الأولى، ومعدلات خريجي الجامعات الوطنية ومؤسسات التعليم العالي بشكل عام. ثم إن الكفاءات العلمية المغاربية في كافة المجالات كبيرة ولافتة للانتباه في بعض القطاعات الاستراتيجية، كما تؤكد إحصائيات تقارير هجرة الكفاءات في العالم.
نشدد مرة أخرى على أن ثمة مشتركا مغاربيا جديرا بالاهتمام والتقدير والاستثمار من أجل إعادة اندماج المنطقة، بشكل يجعل منها قوة إقليمية تُناظر مثيلاتها في العالم. أما كيف نستطيع تحويل المشترك المغاربي إلى قوة فاعلة في بناء فضاء مغاربي متجانس ومتماسك، فالأمر يحتاج إلى تفكير جديد، وإلى رؤية واضحة ومفكر فيها، ومتوافق حولها بالحوار المسؤول، ومعززة بإرادة سياسية حقيقية، أي نحتاج إلى "نظام مغاربي جديد"، يجبّ ما سبقه من التصورات والمنظورات، ويكون مؤسسا على اقتناع جميع البلدان بأن مستقبل المجتمعات المغاربية في ما يجمعها وفي ما تشترك فيه.
يحتاج النظام المغاربي الجديد إلى تجاوز وضعية النقص أو الضعف الديمقراطي الذي تعاني منه دولنا ومجتمعاتنا على حد سواء. فمسارات الدمقرطة لم تستقر في جل بلداننا وإن بدرجات متفاوتة
يقتضي "النظام المغاربي الجديد" إعادة النظر في العناصر الجاذبة المشار إليها أعلاه، عبر تقويتها ونزع الطابع الأيديولوجي عنها وعن كتابة تاريخها. فالتاريخ المشترك الذي نتحدث عنه ونعتبره جامعا لنا، كتبه الأجانب في أجزاء كثيرة منه، وكتبنا نحن بعض أجزائه بطريقة غير سليمة، يغلب عليها الطابع الاتفاقي. ثم إن هذه العوامل الجاذبة مجتمعة، لم تعد كافية اليوم لبناء التأييد حول المشروع المغاربي، بل تحتاج إلى قوة دفع أخرى، لا نتصورها خارج "المصلحة" بالمعنى الإيجابي، لأن
المصلحة المشتركة الحقيقية هي التي تلحم المشترك المغاربي وتحمي استمراره.
ويحتاج النظام المغاربي الجديد إلى تجاوز وضعية النقص أو الضعف الديمقراطي الذي تعاني منه دولنا ومجتمعاتنا على حد سواء. فمسارات الدمقرطة لم تستقر في جل بلداننا وإن بدرجات متفاوتة. ومن جهة ثالثة، يحتاج النظام المغاربي الجديد إلى مصالحة الدول مع مجتمعاتها، بتجسير الفجوات وردم الاختلالات الاجتماعية عبر تقوية منسوب العدالة الاجتماعية، والاستثمار الجيد في التعليم وبناء مجتمع المعرفة، واحترام حق الشباب، ذكورا وإناثا، في تقرير مصيرهم، من خلال فتح الفرص أمامهم في تحمل المسؤوليات في بلدانهم، والاستفادة المتكافئة من الإمكانيات المتاحة داخل بلدانهم.
لذلك، المشترك المغاربي موجود وضاغط بكل قوة، لكنه في حاجة إلى رؤية جديدة وإرادة حقيقية، وبناء تأييد وثقة الجميع حول قيمته الاستراتيجية في تحويل المنطقة المغاربية إلى فضاء جيوسياسي فاعل وفعال في محيطه الإقليمي والدولي.