هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تحتاج الظواهر الاجتماعية والسياسية إلى قراءة تتجاوز الظاهر لأجل فهمها، ومن ضمن ذلك بروز ظواهر داعمي الابتذال والاستخفاف بالقيم المجتمعية الراسخة؛ بجانب حشد من المشكّكين بثوابت الدين، ومن يستخفّون بما رسخ في وعي الناس من قضايا التاريخ والمقدسات.
ليس من الضروري التأشير على قضايا محدّدة وأسماء معيّنة، لأنها صارت من الكثرة بحيث يصعب ذكرها جميعا، وأعني خلال العقد الأخير على وجه التحديد، وعلى نحو أكثر تحديدا بعد هجمة "الثورة المضادة" على الربيع العربي، وتحقيقها النجاح الأبرز في مصر، وصولا إلى الخاتمة في تونس.
تذكّرت هذه القضية التي توقّفت عندها شخصيا في مقالات عديدة، وفي كتابي الأخير، بجانب عشرات التغريدات خلال السنوات الماضية؛ في ظل الجدل الذي ثار إثر عرض منصة "نتفليكس" لفيلم "أصحاب ولا أعز". ولا أعني هنا ما انطوى عليه الفيلم من تحدٍ للقيم الراسخة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فهو في النهاية فيلم أجنبي تم عمل نسخة عربية منه، وإن دخل ضمن الظاهرة التي نتحدث عنها، ممثّلة في تجرؤ بعض المحسوبين على الفن، على تقبّل أي أدوار مهما بلغ ابتذالها، أو تحدّيها لمشاعر الناس.
الذي استوقفني أكثر هو حجم الدعم "الفني" والإعلامي الذي حصل عليه "أبطال" الفيلم، ردّا على الهجمة الشعبية عليه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كأنما دخل الداعمون في حالة تحدٍ سافر مع المنظومة الاجتماعية برمّتها، ولم يعودوا معنيين برضاها كما كانوا من قبل.
لا شك أن المجال الفني يمثل انعكاسا للواقع الاجتماعي والسياسي، فهذه الجرأة مثلا على تقديم وقائع الشذوذ أو المثلية مثلا، وبشكل صريح في الغرب، لم تكن موجودة قبل عقود، فيما تمكّنت لوبيات هذه الظاهرة من فرضها على الواقع الفنّي كأمر عادي لا غبار عليه، ثم جعله ضمن مسلمات الحرية الشخصية، وصولا إلى إدخال هجائه ضمن بنود التمييز العنصري المجرّم بقوة القانون.
في المجال الفني العربي كانت الخمور والرقص ومشاهد غرف النوم جزءا أساسيا من الأفلام المصرية خلال الخمسينات وحتى السبعينات، بل وفي بعض المسلسلات أيضا، لكن تطوّر منظومة الصحوة الإسلامية، ما لبثت أن تركت أثرها على ذلك المجال، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد أن فرضت الصحوة الإسلامية شروطها، أو بعض شروطها في أقل تقدير على المجال السياسي الذي بدأ يستجيب لذلك، حتى ظهرت قضايا الفجور والتشجيع عليه إلى المحاكم، فيما نعلم أن القضاء لم يكن يوما سوى أداة بيد السياسة، وليس مستقلّا عن إرادتها.
وما يؤكد ما نذهب إليه مثلا هو أن غياب مشاهد الفجور عن المجال الفنّي بعد الثمانينيات وحتى الألفية الجديدة؛ لم ينسحب مثلا على حشد من الأفلام التي كانت تعالج ظاهرة العنف أو "الإرهاب" على نحو سخيف وسطحي في أكثر الأحيان، بل على نحو يسيء للدين والمتدّينين في آن، وحدث ذلك لأن المجال السياسي كان يدعمها.
الآن وفي محطات كثيرة برزت خلال السنوات الأخير، عاد نمط الابتذال ومصادمة قيم المجتمع إلى المجال الفنّي، أو لنقل بدأ يعود تباعا، ثم بدأ حشد من الممثلين والمغنّين والإعلاميين يدافعون عن ذلك دون التفات للمجتمع وقيمه، وهو أمر لم يكن ليحدث لولا شعورهم بأن المجال السياسي يدعم ذلك؛ بل يريده بتعبير أدق.
رموز هذه الظاهرة ليسوا شجعانا بحال، بل العكس هو الصحيح، لكن شعورهم بدعم المجال السياسي لهم، بل بتشجيعه، هو الذي دفعهم، ويدفعهم إلى ذلك.
ينسحب ذلك على البرامج التي تعالج قضايا الدين، والتي تستخفّ بقيمه ورموزه التاريخيين، بجانب تشكيك إعلاميين ومحسوبين على الثقافة بكل القيم التقليدية، بما في ذلك في دول كانت تدعم التشدّد الفقهي في بُعده الاجتماعي وليس السياسي.
برامج وأسماء كثيرة لم تعد ترى حرجا في التشكيك بأهمّ قيم الدين، وتسخيف أهمّ رموزه، ووصمها بأسوأ الصفات، وكل ذلك ما زال يقرّبها من المجال السياسي، ولا يبعدها.
ماذا يعني ذلك؟
إنه يعني أن الوضع السياسي الرسمي العربي (لا نعمّم) قد بات سافرا في إعلانه الحرب على "الصحوة الإسلامية"، وكل ما أنتجته من قيم ومظاهر، بل لم يعد يجد حرجا في مطاردة من يدافعون عن تلك القيم، أو يهاجمون تحدّيها المدعوم من السلطة، حتى لو لم يقُل المدافعون ذلك. وفي السجون الآن، حشود من الناس الذي يعاقَبون لهذه الأسباب، في حين يحظى الطرف الآخر بالقرب والحب والمنابر والدعم.
ولكن لماذا؟
جواب هذا السؤال ذكرناه مرارا وتكرارا، وخلاصته أن ما يجري هي حرب على ظاهرة التديّن في المجتمعات العربية، وذلك ضمن منطق يراها تمنح حاضنة لما يُسمّى الإسلام السياسي.
ماذا عن الرد؟
ما ينبغي أن يقال هنا هو أن جزءا من أسباب عدم تقدم الحرب إياها، لا يتمثّل في "الإسلام السياسي" الذي سُحقت قواه، أو تمّ تجريمها على نحو ما، بل يتمثّل في الناس العاديين الذي فعلوا ذلك من خلال حملاتهم في مواقع التواصل، وإن تكن محدودة في الدول التي تحاسب على تغريدة.
وهنا ينبغي القول إن على القوى الإسلامية، والعلماء والرموز والمشايخ أن يستعيدوا توازنهم من جديد، ويبدأوا حملة مضادة تعيد للظاهرة الإسلامية حضورها، ولن يتم ذلك من دون أن ينطوي نشاطهم على تعبير عن هموم الناس في كل مجال، بخاصة الاقتصادي الذي يتراجع على نحو واضح، لأن الدين لا ينهض من دون رموز يحملون همّ الناس، ولا يكتفون بالوعظ التقليدي وحده.