تبدو الصورة الراهنة لبلاد المغرب رمادية، مضطربة، ومفتوحة على كل القراءات والتوقعات. فمن جهة، هناك ترنح بين الإصرار على الإبقاء على الأمر الواقع، والاستمرار في الحديث عن الإصلاحات السياسية والمؤسسات دون أن تلمس المجتمعات حصول نتائج فعلية في أوضاعها العامة، بل إن هناك تراجعا عن بعض الطفرات التي تحققت خلال العشرية المنصرمة في سياق ما سُمي "الحراك العربي"، كما حصل في تونس والمغرب أساسا، وبشكل متفاوت جدا في الجزائر وليبيا وموريتانيا, وتدلّ جل المؤشرات على أن ما كان يُنتظر من الديناميات التي فتحها الحراك منذ 2011 لم يعط ثماره، بل حصل نكوص واضح بفعل المسارات التي حكمت الحراك نفسه، والمناخ المُستجد بسبب جائحة كورونا، والسياسات التي صاحبتها، ومن المتوقع أن تدوم هذه الصورة المضطربة والمتأرجحة بين رعاية الاستمرارية وفتح فرص الإصلاح من أجل التغيير لسنوات، اللهم إذا استجدت ظروف استثنائية، وهو ما لا نراه متوقعا وراجحا في المدى القريب.
تتقاسم الصورة الرمادية والمضطربة لبلاد المغرب الكثير من المشتركات، وتتنازعها العديد من الاختلافات والتباينات. فالدول الخمس (المغرب، موريتانيا، الجزائر، تونس، ليبيا) تواجه، وإن بدرجات مختلفة، نقصا ديمقراطيا، يسهل الإمساك بمظاهره، سواء في باب احترام الحقوق والحريات، أو من زاوية حكم القانون والمؤسسات، أو على صعيد عدالة توزيع الثروات والخيرات والمنافع العامة.
فمن أصل هذه الكوكبة من الأقطار، ثمة بلدان نفطيان منتجان للغاز، يعيش واحد منهما تمزقا لا تُعرف على وجه اليقين سُبل الخروج منه، أي ليبيا، بينما يدور الثاني في حلقة مفرغة، حيث يمارس قادته سياسة الهروب إلى الأمام، والاستنكاف عن النظر إلى الوجه في المرآة، ونقصد بذلك طبعا الجزائر التي رسم البنك الدولي في أحد تقاريره الأخيرة؛ صورة مقلقة عن حال اقتصادها الوطني وآفاق مستقبله. وإلى جانبهما، تعيش تونس تجاذبا سياسيا بلباس دستوري وقانوني، بين رئيس يطمح للتحكم في كل مفاتيح السلطة، وتعددية حزبية ترى مصيرها في مهب الريح، بل ينتظر الكثير من قيادييها وأعضائها مصيرا لا تبدو معالمه واضحة.
الدول الخمس (المغرب، موريتانيا، الجزائر، تونس، ليبيا) تواجه، وإن بدرجات مختلفة، نقصا ديمقراطيا، يسهل الإمساك بمظاهره، سواء في باب احترام الحقوق والحريات، أو من زاوية حكم القانون والمؤسسات، أو على صعيد عدالة توزيع الثروات والخيرات والمنافع العامة
وفي ليبيا، وعلى الرغم من الخطوات المنجزة على طريق إعادة لَمّ شمل البلاد، وفتح الطريق أمام بناء المؤسسات بأفق إقامة مصالحة وطنية، فكل المؤشرات تدل على أن الطريق طويل أمام الليبيين، ويحتاجون إلى نَفس وطني توافقي أكثر قوة وعمقا واستدامة في الزمن. ولعل الحال نفسه تعيشه موريتانيا، حيث لم تخرج بعد من إرث الرئاسة السابقة وما راكمت من ممارسات معيقة للتطور الإيجابي للبلاد.
لذلك، يبدو المغرب أكثر استقرارا داخل هذه الصورة المضطربة لبلاد المغرب، غير أنه يحتاج - هو الآخر - إلى قوة دفع جديدة، تحفظ له مكتسباته، وتُسعفه في مراكمة إنجازات نوعية أخرى في مجالي العدالة الاجتماعية، ومنظومة الحقوق والحريات.
مقابل هذه المشتركات ذات الطبيعة الصعبة والمركبة، هناك تباينات لا تساعد المنطقة المغاربية على الاستقواء ببعضها البعض من أجل التغلب على ما يخترق مجتمعاتها من نقائص وتحديات. ولعل المتابع المتبصر للعلاقات البينية المغاربية يُدرك دون عناء طبيعة التوترات الظاهرة والخفية التي تطبع المنطقة المغاربية، وتُضعف أرصدة قوتها، وتعمق انكشافها للخارج.
الحبل الرابط بين المغرب والجزائر، وهما الدولتان الأكثر قوة ووزنا من كافة النواحي، انقطع في السنتين الأخيرتين، بل هناك انطباع بأنهما على مشارف حرب
فالحبل الرابط بين المغرب والجزائر، وهما الدولتان الأكثر قوة ووزنا من كافة النواحي، انقطع في السنتين الأخيرتين، بل هناك انطباع بأنهما على مشارف حرب. وقد أقدمت الجزائر، وهي بلد شقيق، على قرارات وإجراءات أغلقت كل السبل أمام لغة الحوار والتقارب وردم الفجوات، كما أصبحت تتكون ممارسات قاتلة بطبيعتها، تتعلق بالتقاربات والتحالفات الثنائية التي تم السعي إليها على حساب الحس المغاربي المشترك. ونذكر هنا أن هذا النمط من السلوك كان مصدرا مباشرا لإخفاق المشروع المغاربي في عز حلقات بنائه، أي خلال مرحلة "مؤتمرات وزراء الاقتصاد" ما بين 1964 و1975، حيث ساد منطق العلاقات الثنائية على حساب العمل المغاربي المشترك.
يتجاور مع هذا الواقع ويتحكم في مجريات تطور أحداثه منطق آخر؛ لا يخدم ولن يخدم بلاد المغرب ومشروعها المشترك، يتعلق بالحضور المتنامي للقوى الإقليمية والدولية، وما ترسم من أجندة استراتيجية وسياسية للمنطقة.
يصعب في الواقع رسم توقعات لما ستؤول إليه أوضاع بلاد المغرب، كما يتعذر موضوعيا اقتراح مداخل لنقل الصورة الراهنة للمنطقة من الطابع الرمادي، المضطرب والمفتوح على أكثر من احتمال، إلى وضع موسوم بالوضوح، وقابل للاستقرار
وبلاد المغرب، بحكم موقعها الجيواستراتيجي، كانت على الدوام مجالا مفتوحا تتقاطع على أرضها مشاريع متباينة الفلسفات والأبعاد، إذ حتى انهيار جدار برلين (1989) ظلت المنطقة المغاربية موزعة بين الغرب والشرق، ومنقسمة حول الأيديولوجيات المتباينة في العالم العربي، علما أن نتائج التطور الحاصل في المنطقة أظهرت أن الصراع أضر بالمجتمعات المغاربية، وأن مآلات الدول الوطنية الناشئة بعد الاستقلال كانت مختلفة في الظاهر وموحدة في العمق والجوهر، وأن الاختلاف الأيديولوجي تم توظيفه لغير صالح البناء الديمقراطي والعدالة الاجتماعية.
يصعب في الواقع رسم توقعات لما ستؤول إليه أوضاع بلاد المغرب، كما يتعذر موضوعيا اقتراح مداخل لنقل الصورة الراهنة للمنطقة من الطابع الرمادي، المضطرب والمفتوح على أكثر من احتمال، إلى وضع موسوم بالوضوح، وقابل للاستقرار، ومرشح لأن يكون مفتوحا دون توترات وتجاذبات مضرة بالجميع.. بيد أن أي تطور إيجابي يحصل في أي بلد من البلدان الخمسة، ويقدر أصحابه على توفير شروط استمراره واستقراره، ستكون له قيمة مُضافة على طريق بناء المشروع المغاربي الديمقراطي، العادل، والمنصف لأبنائه.