هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عالم الفضائيات لا سيما الإخبارية، غدا عالم ضوضاء بل في نظر البعض طائر شؤم ناعق وهي تسرع جامحة لنقل كل أخبار سلبية، فكأنما هي تقرع طبول الفرح الهستيري. وفي بازار الفضائيات هذا يبدو قول الشاعر العربي ذو الرُّمَّة ماثلا حين قال:
وَأَغْضَفَ قَدْ غَادَرْتُهُ وَادَّرَعْتُهُ ** بِمُسْتَنْبَحِ الأَبْوَامِ جَمِّ الْعَوَازِفِ
فجمع بيت ذي الرُّمَّة هذا بين الليل المظلم وأصوات البوم المشبّهة استنكارا بنبيح الكلاب وعوازف الجن حيث النشاز والصخب. والبوم كما هو معلوم طائر ثرثار لا يجد حرجاً في أن يملأ الفضاء ضجيجاً خاصة إذا ما شبع من فرائسه. ويزيد من بغض البوم أن نشاطه وأفعاله لا تكون إلا ليلا. بل نجده مرتبطا في الثقافة العربية بالنحس والشؤم. فبدا هذا البيت الشعري البديع الذي قيل في عصر سحيق وفي شأن آخر، وكأنه ذمّ للفضائيات في هذا العصر المأزوم.
والإعلام في عمومه فن وسيطرة وهيمنة، فن لأنه يقتضي قدرات شخصية ومواهب فطرية، لكنه في إطاره المؤسساتي يمكن أن يكون مسيطرا عبر أجندته السياسية أو التجارية أو الاثنين معا. وكما قال الصحفي المخضرم الراحل محمد حسنين هيكل وهو بلا شك مرجعية إعلامية: "ما فيش إعلام لوجه الله". والأجندة الإعلامية تتشكل على اعتبار أنها نتاج لمجموعة من الركائز الاجتماعية والاقتصادية والسياسـية والإيديولوجية التي تحـكم نطاق الرسالة الإعلامية ونظام الدولة الحاضنة.
ومجموع ذلك يطبع مفهوم الإعلام وفلسفته وتطبيقاته وجوانبه العملية بطابع وشـكل معين. غير أن مفهوم الإعلام وفلسفته لا تبدوان أمرا ثابتا ومتفقا عليه؛ فعلى سبيل المثال فإن مفهوم الحرية والديمقراطية في النظم الإعلامية المختلفة له طابع جدلي نتيجة للتفسيرات المختلفة له، واختلاف السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعمل في إطارها. وتلكم لعمري إشكالية واقع فيها الإعلام في كل العوالم، سواء الأول أو الثاني أو الثالث. يقول المفكر الأمريكي الراحل إدوارد سعيد في مؤلفه عن "الموضوعية في الإعلام": "إنه من البديهي أن الاتهامات التي وجهت للإعلام العربي بشأن التغطية الأحادية يمكن أن توجه أيضا للإعلام الأمريكي".
وجوهر حجة إدوارد سعيد هي أنه على الرغم من العدد الضخم للصحف والمجلات والمحطات التلفزيونية والإذاعية وحرية التعبير إلا أن الإعلام الأمريكي كله يلتزم بوجهة نظر معينة عندما يحلل السياسة الخارجية الأمريكية.
ويؤكد إدوارد أنها مؤسسات تخدم وتروج لهوية الكيان الأمريكي، وهو العامل الأساسي الذي يقرر الشيء الذي يصبح خبرا وكيف يتعين تقديمه. ولو اتفقنا على أن لكل إعلام رسالة وفقا لخلفياته الفكرية والأيدلوجية؛ فإن الفرق بين الرسالة - اتفقنا حولها أو اختلفنا - إستراتيجية بعيدة ومستدامة وبين الأهداف المتغيرة، تبعا لمتغير باعتبارها تكتيكات ظرفية مضطربة، هو المقياس الذي يمنحنا حق تجريم الإعلام لا سيما الفضائي منه.
لقد ظل المجتمع الأمريكي منذ الأيام الأولى لتأسيس النظام السياسي الجمهوري للولايات المتحدة الأمريكية مجتمعا برجوازيا تسوده التقاليد الرأسمالية وتتناسب هذه التقاليد مع تغيرات الأحوال السياسية والاقتصادية.
ويعتمد الإعلام الأمريكي على أسس منهجية واحدة في مخاطبة الجمهور قائمة على اعتبار الرأي العام استهلاكياً يخدم الخطط الرأسمالية، وقوة اجتماعية محركة للتاريخ تسهم في دفع دولاب النظام الرأسـمالي، وأن هذه الأسس تنبع من التكوين الفكري والإيديولوجي للنظام الرأسمالي.
في هذا الجدل المحتدم ينظر لوسائل الإعلام الجماهيري مثل الفضائيات على أنها أداة رئيسية فيه؛ فهي المحراث الذي يُعد الأرض قبل زراعتها؛ فعلى سبيل المثال في فبراير من العام 2004م أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية قناة فضائية أسمتها "الحرة" تستهدف المنطقة العربية وقالت صحيفة نيويورك الأمريكية إن الهدف وراء إطلاق هذه القناة أن تشكّل ردا أمريكيا "عادلا ومتوازنا" على وسائل الإعلام العربية مثل قناة الجزيرة، وهذه "الحرة" تعتبر هذه القناة أكثر المشاريع الإعلامية العالمية التي ترعاها الحكومة الأمريكية طموحا منذ انطلاق بث إذاعة "صـوت أمريكا" في العام 1942م.
ظلت قناة الحرة تناقش الزاويا المعتمة من قضايا المنطقة مثل: الاعتقالات في ذلك البلد، والشعوذة وضرب الودع في ذاك البلد، والدعارة في بلد آخر وكذا حياة الليل واللقطاء والدجل والشعوذة.
وغير ذلك من الظواهر الموجودة في هذا البلد العربي أو ذاك. وتحدث بعض الخبراء متعجبا: (إن قناة الحرة تطرح ما يمكن أن يقال عنه حق أريد به باطل، فهل هذه الظواهر تخص المنطقة العربية فقط؟ وهل المنطقة العربية لا يوجد فيها إلا هذه الصورة السلبية؟ فمن يرى هذا البرنامج يجد نفسه أمام عالم عربي متخلف مشعوذ جاهل، إلى غير ذلك من السمات السلبية.
بالمقابل تلقي قناة الحرة الضوء على الجوانب الإيجابية في الولايات المتحدة. بمعنى آخر تسلط الضوء على الزوايا الأكثر إظلاما في الدول العربية وبالمقابل تسلط الضوء على الزوايا الأكثر إشراقا في الولايات المتحدة).
والوجه الآخر للحقيقة أن الإعلام العربي لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن تركيبة المجتمع العربي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلطالما كانت هذه التركيبة عليلة فهو يجد حظه من عللها غير منقوص. فلا يمكن أن ننتظر إعلاما صحيحا معافى ما دام الوسط الذي يعمل فيه مُثخن بالجراح.
وفيما تحتاج المؤسسات السّياسية إلى الخطاب الإعلامي لإنجاز وظائف أساسية خمس: التوحيد، وإضفاء الشرعية، التوجيه، حل الصراعات، وتنفيذ السياسات.
لكن الكيل بعدة مكاييل تجاه القضايا العربية سمة تلازم بعض الفضائيات العربية وهي لا يتعدى تأثيرها الوطن العربي، من خلال أهداف آنية تكتيكية شديدة الاضطراب، وتأسيسا على المركز السياسي والاقتصادي للدول المستضعفة.
النتيجة الماثلة بكل أسف، أن بعض القنوات التلفزيونية الإخبارية السياسية، غدت أبواقا هتافية وصراخا مرتعشا، فلم يعد يرجو منها خيرا في دعم لُحمة الأمة وتوافقها السياسي على الحد الأدنى خاصة قضاياها المركزية والمصيرية. وبدون شك تضيع في خضم الخطاب الهُتافي الحقيقة وتنزوي الموضوعية.
(الشرق القطرية)