هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يمكن القول إن غالبية مؤيدي التيارات الإسلامية اتخذت موقفا واضحا من "ثورة ديسمبر" 2018 ضد نظام الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير. كان الموقف هو تأييد هذه الثورة، على الرغم من أن الرئيس الذي قامت الاحتجاجات ضده يصنف ضمن تيار الإسلام السياسي، ويقود حزبا إسلاميا.
نستدرك هنا بالقول إنه لا يوجد أرقام أو دراسات تؤكد هذه الخلاصة، ولكن متابعة ما كان يكتب من أنصار التيارات الإسلامية في وسائل الإعلام التقليدية و"التواصل الاجتماعي" على حد سواء يمكننا من اعتبارها خلاصة منطقية إلى حد ما، وإن كانت لا تنطبق عليها الشروط الكلاسيكية للدراسات العلمية.
لتحليل موقف الإسلاميين، وخصوصا الشباب، تجاه "ثورة ديسمبر" السودانية، لا بد من فهم التغيير الذي دخل على منظومة الفكر الإسلامي السياسي خلال العقود الماضية، فمن جهة آمن كثير من الإسلاميين وخصوصا الشباب بفكرة التداول السلمي للسلطة والانتخابات وآليات "الديمقراطية"، ومن جهة أخرى "كفر" بعضهم بهذه الآليات نتيجة للانقلاب عليها عندما وصل رئيس ينتمي للتيار الإسلامي بانتخابات نزيهة لأول مرة في تاريخ مصر، قبل أن يسجن ويستشهد في السجن، وهو الأمر الذي شكل صدمة لدى كثير من الإسلاميين. أيد الفريق الأول من الإسلاميين الثورة السودانية بسبب إيمانه بالحرية والاختيار وآليات العمل الديمقراطي، فيما أيدها الفريق الآخر لأن رفضه لآليات الديمقراطية بعد صدمة التجربة المصرية لم يوثر كما يبدو على حماسته لفكرة الحكم المدني بمقابل الانقلابات العسكرية التي دفع الإسلاميون أنفسهم ثمن ويلاتها في مراحل تاريخية مختلفة آخرها فترة "الربيع العربي".
الإسلاميون و"صدمة" مسار الانتقال السوداني
عندما نجحت "الثورة السودانية" بإسقاط رأس النظام بعد أن تخلى عنه قادة الجيش، بدأ الإسلاميون العرب يشعرون بالصدمة من المسار الانتقالي، للأسباب التالية:
• لم تتخذ القيادة الانتقالية مواقف واضحة في صف الثورات الشعبية العربية، بل انحازت ولو بشكل جزئي لمحور الثورة المضادة ممثلا بمصر والسعودية والإمارات.
• نفذ المكون المدني في مجلس السيادة الانتقالي سياسات إقصائية تجاه الإسلاميين، مثل التركيز على إجراءات تتعلق بهوية الدولة، واعتبار التيار الإسلامي كله مسؤولا عن فترة حكم البشير، وإغلاق مؤسسات خيرية وأكاديمية يديرها التيار الإسلامي، وغيرها من الإجراءات. يقول بعض المدافعين عن هذه الإجراءات إن التيار الإسلامي كان هو النظام ويشبهونه بالحزب الوطني في مصر، والحقيقة أن هذا التشبيه غير صحيح، لأن التيار الإسلامي هو تيار عريض وبينه خلافات كبيرة أهمها بين حزبي المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، كما أن الإسلاميين هم تيار شعبي لديه قواعد عريضة (Grass root) بينما كان الحزب الوطني في مصر مجموعة "زبائنية" لا أرضية شعبية لها، ولا دور لها سوى تمثيل سياسات النظام وتحقيق المكاسب منها. لعبت لجنة "إزالة التمكين" دورا كبيرا في عملية الإقصاء واستخدمت بحسب منتقديها كأداة لمعاقبة الإسلاميين دون تفريق.
• تبنى المكون المدني في المجلس الانتقالي فكرة تأجيل الانتخابات وإطالة أمد الفترة الانتقالية، وكان واضحا أن الهدف من ذلك تهيئة الأرضية السياسية والقانونية والإجرائية لفوز التيارات اليسارية والقومية، ومنع أي فرصة لوجود الإسلاميين في العملية السياسية مستقبلا.
• اتخذ المجلس السيادي سياسات غير شعبية على المستوى العربي وأهمها التطبيع مع الاحتلال. صحيح أن المبادر لهذه السياسة كان المكون العسكري، ولكن المدنيين لم يواجهوا التطبيع، باستثناء اعتراضات خجولة من البعث الاشتراكي الذي وافق في نهاية الأمر على الاستمرار بالحكومة عندما خيّر من قبل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بين وقف الاعتراض على التطبيع وبين الاستمرار بالحكومة.
الإسلاميون بين "صدمة" الفترة الانتقالية ورفض الانقلابات
مع تنفيذ رئيس الجيش عبد الفتاح البرهان لانقلابه على المكون المدني دخل كثير من الإسلاميين العرب في "معضلة" الموقف تجاه هذا الانقلاب. فمن جهة أصبحت غالبية الإسلاميين ضد منهج الانقلابات باعتبارهم أكبر ضحاياه في فترة "الربيع العربي" كما أن الطرف المنقلب اشترك مع المكون المدني بسياسات يعارضها التيار الإسلامي، ومن جهة أخرى فإن المكون المدني الذي تم الانقلاب عليه في السودان، وفق الإسلاميين، هو طرف غير ديمقراطي يريد تأجيل الانتخابات لأمد كبير، ويريد إقصاء إسلاميي السودان، وتحالف مع دول الثورة المضادة، ووافق على التطبيع مع الاحتلال.
تعقدت معضلة الإسلاميين مع تطور الأحداث في السودان، فالبرهان اتخذ إجراءات لمغازلة إسلاميي السودان مثل تشكيل لجنة لمراجعة لجنة "إزالة التمكين"، وأفرج عن قيادات في الحزب الحاكم السابق قبل أن يضطر إلى أن يعيدهم للسجن بعد ردة الفعل القوية ضد الإفراج (لا يمكن تصديق مسرحية غضب البرهان من قرار الإفراج عنهم وفصل المدعي العام الذي اتخذ القرار)، وفي نفس الوقت فإن التيارات التي تم الانقلاب عليها تنتمي للخصوم التقليديين للإسلاميين وهم اليسار والقوميون، كما أنهم لم يتخذوا أي مبادرة للتقارب مع الإسلاميين الذين كانوا على خلاف مع النظام السابق على الأقل مثل المؤتمر الشعبي.
باختصار، تكمن حيرة الإسلاميين العرب في الموقف تجاه الأحداث في السودان بين رفضهم للانقلابات من جهة وبين صدمتهم من المسار الانتقالي السوداني. لحل هذه المعضلة، لا بد من النظر للصورة كاملة، وليس فقط للأحداث الأخيرة، وهي الصورة التي ترجح برأينا أهمية الوقوف ضد الانقلاب، ودعم الجماهير المطالبة بإنهائه، للأسباب التالية:
أولا: لا يمكن لانقلاب عسكري أن يأتي بخير للبلاد ولا لأي تيار سياسي يدعمه أو يعارضه، وما زالت تجربة حكم البشير ماثلة ويمكن أخذ الدروس منها.
ثانيا: تحاول دول "الثورة المضادة" أن تمسك العصا من المنتصف لأنها هي الأخرى تواجه معضلة تشبه معضلة الإسلاميين ولكن باتجاه معاكس، ولكنها ستقف بالنهاية مع الانقلاب ولو من تحت الطاولة، لأن مصلحتها هي مع الديكتاتورية والعسكر بغض النظر عن الأيدولوجيا التي يحملها قادة الجيش، وهي في عداء جذري مع حق الناس بالاختيار، لأنها تدرك أن اختيار الناس سيكون ضدها ولو بعد حين.
الإسلاميون يجب أن لا يكونوا في صف الثورة المضادة التي تعاديهم باعتبارهم المرشح الأقوى لمنافسة المنظومة القديمة في حال تجدد موجات جديدة من الانتفاضات في أي دولة عربية.
ثالثا: لا خوف على هوية المنطقة من ناحية انتمائها الإسلامي والعروبي مع احترام وتقدير الديانات الأخرى وخصوصا المسيحية، والشعوب غير العربية مثل الأمازيغ والكرد والأفارقة وغيرهم. تشير عدة دراسات صدرت في السنوات الأخيرة أن المكون الرئيسي للهوية في المنطقة هو الدين برغم كل النكسات للتيار الإسلامي. لذلك فإن هذا التيار يجب أن يركز على الجوانب الأخرى غير المرتبطة بالهوية والتدين، لأن أي محاولة للنيل من هذه الهوية ستبوء بالفشل.
رابعا: صدرت الكثير من التقارير في الصحف "الإسرائيلية" التي تشير لدور الاحتلال في الانقلاب الذي قاده جيش السودان، وصار واضحا أن حميدتي يعول كثيرا على شركات "الضغط" الصهيونية التي تعمل على غسل سمعته في واشنطن. الإسلاميون يجب أن يقفوا ضد رعاة التطبيع مع الاحتلال، حتى لو اختلفوا مع المكون المدني وصدموا من ممارساته الإقصائية.
خامسا: يمكن للتنافس السياسي والتدافع بين الإسلاميين والقوى المدنية الأخرى أن يغير الأوضاع في المستقبل، بينما لا يمكن منافسة الجيش الذي يحتكر القوة ويمتلك كل وسائل السيطرة. الإسلاميون يجب أن يستفيدوا من التجربة المصرية، فالتيارات التي وقفت مع الانقلاب ضد الإخوان هي الآن تعاني من نفس الكأس الذي شرب منه الإسلاميون، لأن الجيش والانقلابات لا يريدون شركاء مدنيين إلا في البدايات ولكنهم يتخلون عن الجميع عندما تحسم المعركة لصالحهم.
سادسا: مع تصاعد عدد ضحايا المظاهرات المناهضة للانقلاب يصبح الموقف الأخلاقي الوحيد الممكن هو الوقوف في صف معسكر الصدور العارية المطالبة بحق الاختيار والكرامة بمواجهة آلة الجيش الغاشمة، وتنحية أي تحفظات على المكون المدني في المجلس الانتقالي وعملية الانتقال إلى حين نهاية الانقلاب.
يبقى القول إن التيارات اليسارية والقومية التي كانت جزءا من المسار الانتقالي يجب أن تتخذ مواقف تطمئن الإسلاميين، وبدلا من أن تترك الفرصة للانقلاب لجذب هذا التيار العريض لصفه ليستخدم ضد المكونات المدنية الأخرى، فإن الظرف الحالي هو الأنسب لتشكيل تيار مدني عابر للأيدولوجيا يضع حدا للإقصاء، ويقف جبهة واحدة ضد تحكم العسكر بمعادلة الحكم في السودان.