هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كنت وما زلت مقتنعا بأن الجزائر لا تملك مشاكل سياسية فقط، كما يتوهم الكثير منا، رغم طغيانها وبروزها إلى السطح، كمشاكل تفرض نفسها، كما هو الحال منذ سنوات في الجزائر. فهي تملك قبل ذلك الكثير من المشاكل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، الأكثر من مهمة والمستعصية، التي تهم أغلبية المواطنين.
لكنني كنت وما زلت مقتنعا في الوقت نفسه، بأن الحل يبدأ من المستويات السياسية، فهي رأس الخيط الذي يجب الانطلاق منه لتفكيك بقية المشاكل الأخرى وحلحلتها. داخل نظام سياسي مفرط المركزية، ما زال يتمتع بالقدرة على التأثير والفعل، رغم ما يعيشه من اضطراب، انطلاقا من فكرة بسيطة مفادها، أن الوقت الثقافي أو الاجتماعي يختلف عن الوقت السياسي، الذي يبقى الأقصر والأكثر سهولة في التعامل معه، حتى إن كان وقتا غير مضمون النتائج دائما.
قناعة تترسخ لديّ كل يوم، وأنا أعاين المعارك التي ينطلق فيها الجزائريون بشكل دوري، حول قضايا اللغة والثقافة، كما هو الحال هذه الأيام، الذي زاد فيه منسوب الحديث حول مكانة اللغة العربية والتعريب في الجزائر. علما أن ميزة المعركة الأخيرة التي نعيشها، في أن انطلاقتها حصلت في ظل جو أزمة خارجية مع الطرف الفرنسي، وليست داخلية، كما كان يحصل في العادة. فقد تذكر بعض الجزائريين فجأة، بمناسبة هذه الأزمة مع فرنسا، أنهم يملكون لغة وطنية – بل أكثر من لغة في الحقيقة، إذا أضفنا الأمازيغية المنسية إلى العربية ـ مهملة وغير مستعملة تعيش وضعا غريبا في بلدها، بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، وأنهم قد يغيظون الطرف الفرنسي، إذا عادوا إلى الحديث عنها والمطالبة بتعميم استعمالها. معركة حول اللغة أدوارها ووظائفها، تؤكد للمرة الألف عدم جدية الطرف الرسمي – وجزء كبير من النخب القريبة منه – الذي يتذكر بمناسبة الأعياد الوطنية والدينية، أن البلد يعيش أزمة في التعامل مع لغاته الوطنية، وأنه ملزم بحل هذا الإشكال التاريخي المتعلق بالأمن اللغوي، الذي لا يمكن أن تسير الأمور في البلد بشكل سوي، من دون إيجاد الحلول الجدية والدائمة له. أزمة في حقيقة أمرها ليست جديدة، تملك أبعادا كثيرة مرتبطة بالتاريخ الثقافي والسياسي للبلد، وتشكيل نخبه ومؤسساته السياسية والثقافية السيادية، التي أعادت إنتاج أزمة اللغة داخلها، منذ ما قبل الاستقلال.
باختصار، لا يمكن فهم الأزمة اللغوية في الجزائر بكل الصراعات التي تنتجها بشكل دوري، وعدم قدرتنا كجزائريين على إيجاد الحلول لها، من دون العودة إلى ما سميته أكثر من مرة بانقسامية النخبة الجزائرية، على أساس لغوي فكري وعقائدي.. انقسامية منحت بدورها هذا الطابع القطاعي للدولة الوطنية ومؤسساتها. كما يظهر جليا هذه الأيام حين أعلن بعض الوزراء وليس كلهم، عن قرار التعامل من الآن فصاعدا باللغة العربية التي اكتشفوا فجأة أنها لغة وطنية لدولة مستقلة، منذ ستين سنة! قرار اتخذه هؤلاء الوزراء – ثلاثة فقط حتى الآن في قطاعات هامشية مثل، الشباب والرياضة والعمل والشؤون الاجتماعية ـ وكأن الأمر لا يعني بقية أعضاء الحكومة. وزراء يمثلون داخل الهيئة التنفيذية أحزابا محافظة وشبه دينية، ذات تمثيل ضعيف، تستغل وجودها للترويج لما يميزها فكريا داخل القطاعات، التي تسيطر عليها مؤقتا، لإحراج الأطراف السياسية الأخرى التي عادة ما تسكت عن هذه المناوشات وتتركها للوقت الكفيل بمحو كل آثارها، كما حصل بمناسبة معارك سابقة. تماما كما حصل منذ سنوات حين بادر وزير التعليم العالي خلال فترة الصيف- قام بجزء من دراسته في بريطانيا – بالإعلان عن الانتقال إلى التعامل بالإنكليزية بدل الفرنسية في الجامعات، نكاية في فرنسا ولغتها الاستعمارية، من دون أدنى ترتيب أو تحضير، وكأن الإعلان وحده كاف لتوفير الأستاذ والكتاب والإمكانيات البيداغوجية الأخرى. في حين يعرف الجميع أن أكبر جامعة ـ العاصمة – في البلد لا تملك العدد الكافي من أساتذة اللغة الإنكليزية لتعليم طلابها، وأن مستوى تمكن الطلبة من هذه اللغة في كل أطوار التعليم ضعيف جدا، ولا يسمح لهم بمتابعة دراستهم بها، من دون سنوات من التحضير والعمل الجاد، في وقت ضاع فيه التحكم في اللغة الفرنسية نفسها لدى الأجيال الصغيرة من الجزائريين، وتدهور مستوى التمكن من العربية ذاتها، في مجتمع يعيش سوقا لغوية متنوعة وغير متحكم فيها، زادت في تعميق سوء التفاهم بين مؤسسات الدولة ونخبها المتصارعة، كما زادت في هشاشة الدولة ذاتها وأضعفت شرعيتها في عيون المواطنين، الذين يتعايشون مكرهين مع هذه الأوضاع، التي كان المفروض أن يتم إيجاد الحلول لها منذ سنوات، بدل إعادة إنتاجها كل مرة بكل آثارها التي وصلت في الكثير من الأحيان إلى المستوى النفسي، حين تحول الجزائري إلى إنسان عاجز عن التعبير عن مشاعره بلغة بسيطة ومفهومة ، كما هو حال بقية البشر.
بدل هذا النوع من الاقتراحات والبدائل السائد لحد الساعة لدى هذه النخب المدافعة عن العربية، كالقضاء على الحرف اللاتيني في واجهات المتاجر، أو الانتقال الفوري، ومن دون أدنى تحضير للتدريس بالإنكليزية وتوقيف تدريس الفرنسية باعتبارها لغة المستعمر! تسقط هذه النخب في براثن رؤية رغباتية، تتماهى من خلالها مع مطالب شعبوية سائدة، لا تملك الحد الأدنى من إمكانيات النجاح، بل ستزيد حتما في تشويه المنظر اللغوي في البلد، المعقد أصلا.
عكس بعض بوادر العقلانية التي نجدها حاضرة لدى بعض الفئات الاجتماعية المستفيدة من التحولات التي عاشها البلد في العقود الأخيرة، على غرار الفئات الوسطى العليا والبورجوازية المالكة، أو تلك التي تريد تعميق الاستفادة أكثر من الفئات الشعبية ذاتها، أقصد بذلك الفئات التي تتعامل ببراغماتية واضحة مع اللغات، وهي تتجه إلى تنويع وتطوير استفادتها، بالانفتاح على اللغات الأجنبية كالإنكليزية، من دون أن تهمل الفرنسية والعربية، كما هو واضح من خلال الطلب الكبير الذي تبديه على تعليم أبنائها في الجامعات الغربية في السنوات الأخيرة، وهي تفكر في تعميق سيطرتها مستقبلا على أكثر من صعيد، في ظل التحولات التي تعيشها الدولة الوطنية وقاعدتها الاقتصادية، ما يفرض عليها نوع النفاق – المؤقت ربما – تتظاهر في أثنائه بالدفاع عن العربية، وهي منهمكة في تعليم أبنائها الفرنسية والإنكليزية، للحفاظ على مواقع السيطرة والجاه داخل البلد، الذي تعودت عليها تاريخيا ولا تريد الابتعاد عنها حتى وهي تنافق عقيدة وطنية مأزومة، أضحت أكثر تركيزا على الشكليات والعنتريات في التعامل مع نفسها ومع العالم، في مجال اللغة ومجالات أخرى عديدة.