هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يمكن أن تنجح أي صناعة أو يستقيم أداؤها إلا من خلال وفائها باشتراطات ومعايير معينة، ولهذا فثمة هيئات لمراقبة جودة المنتجات، وشهادات باستيفاء المعايير المحددة للإنتاج، وأجهزة لحماية المستهلك، ووزارات لمراقبة الأثر البيئي للصناعات المختلفة.
ولذلك، فإن اعتماد أي صناعة على رواج منتجاتها كمحدد وحيد لجودة عملها هو عمل خاطئ بكل تأكيد، لأن الرواج لا يعكس القيمة بالضرورة، إنما تتحدد القيمة عبر استيفاء جملة من الشروط، بعضها يتعلق بثقة الزبائن وإقبالهم، وبعضها الآخر يتعلق باحترام مقتضيات الجودة والوفاء بالمعايير.
وصناعة الإعلام مثلها مثل أي صناعة أخرى يجب أن تنطلق من أسس ومعايير واضحة، وأن يكون التنافس فى مجالها محكوما بمدى احترام تلك المعايير، ولو فُتح الباب أمام «الترافيك» وحده لكي يكون حكما على جودة الصناعة، لكانت صناعة الأفلام الإباحية أيقونة النجاح والنموذج الذي يجب أن يُحتذى.
و«الترافيك» (Traffic) ببساطة هو حجم المشاهدات أو القراءات أو النقرات (فى حالة الأون لاين) التى يحصل عليها المنتج الإعلامى، فإذا كنت مقدم برنامج «توك شو» فإن عدد الذين يشاهدونك على التليفزيون، أو ينقرون على فقراتك على «يوتيوب»، أو يتابعون برنامجك على «فيسبوك» وغيره من المنصات، هم مجمل ما تحصل عليه من «ترافيك»، وكلما زاد هذا العدد كلما تحسن موقفك على صعيد المنافسة العددية.
لقد بات «الترافيك» أحد أكثر المفاهيم مركزية فى صناعة الإعلام، إذ يبرز كبرهان راسخ على الوجود والنجاح، بما قد ينطوي عليه ذلك فى عديد الأحيان من مداعبة غرائز الجمهور، أو خدمة رغباته، بعيدا عما إذا كانت المادة المنشورة، التى يُراد لها الرواج، تمتلك القدر اللازم من أهلية البث أو مراعاة أولويات الجمهور، التى تتصل بالسياقات الموضوعية والمطالب الحيوية اللازمة لجعل أى عملية بث إعلامي رشيدة.
بسبب سيادة غائية «الترافيك»، تتسابق وسائط البث والنشر المهيمنة على المشهد الاتصالي فى تفتيت الواقع، وتسفيهه، واجتراح الأساليب الترويجية لجذب «الزبائن» إلى بضاعة لا تهدف سوى إلى الحصول على أكبر عدد ممكن من المشاهدات و«النقرات».
والإشكال يكمن فى أن استمرار هذه الوسائط فى بث تلك المواد المهترئة، بعيدا عن العرض الرصين المتماسك المُراعي لمفهوم المهنية، سيُقوض الوعي الجمعي للمتلقين، ويحرفهم عن الحقائق، ويأخذهم إلى واقع مُفتت ومُبتذل، لا يقدم معرفة، ولا يُراعي قاعدة، أو يحترم معياراً.
وللأسف الشديد، فإن بعض زملائنا الصحفيين والإعلاميين «يغشون» فى المواد الداخلة فى الصناعة من أجل إحراز مكاسب على صعيد «الترافيك»، بما ينعكس فى تحقيق أرباح مالية. يماثل هذا ما يفعله لبّان يخلط الحليب بالماء، أو صياد يصطاد بالديناميت، أو مقاول يغش فى مواد البناء.
الأمور تبدو أكثر سهولة ووضوحا فى المجالات المختلفة مقارنة بالمجال الإعلامي، فالبقال الذى يدهن الزيتون الأخضر بـ«الورنيش»، وكذلك التاجر الذى يبيع قطع غيار سيارات غير مطابقة للمواصفات، يوصفان بأنهما «غشاشان»، وتتم ملاحقتهما بشكل أو بآخر.
لكن الصحفى الذى يفعل مثلهما من أجل «الترافيك» قد يوصف بأنه «صنايعي شاطر»، وتزيد أرباحه وأرباح مؤسسته باطراد.
وفى الآونة الأخيرة تضاءلت فرص صناعة الاختراقات المهنية الجادة فى المجال الإعلامى بسبب انحسار هوامش التناول، وتقلص عدد المجالات المتاحة للمعالجة الإعلامية، وغياب قطاع كبير من المصادر التي تنطوي على قيمة معرفية وإخبارية عن الظهور.
ولمقابلة هذه التطورات، وجد البعض فى الاصطناع والتزييف والمبالغة ومخاطبة الغرائز فرصة وحيدة لصنع «الترافيك» والتقدم فى المنافسة.. وهو أمر خطير.
«مشكلة الترافيك» يصنعها غياب النظام الإعلامى الرشيد، ومحدودية القدرة على تناول القصص الجادة، وقلة ضمير بعض الصحفيين، وجشع بعض ملاك وسائل الإعلام ووكالات الإعلان.. والأهم من ذلك طبعا «زبون طيب» يقبل على البضاعة المغشوشة بنهم.
نقلا عن (المصري اليوم)