هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من يلعب بالنار يحرق أصابعه، لكن ما بالنا ممن يلعب بالنار على شفير الهاوية؟ والحال أن اللعب بالنار على شفير الهاوية هو وصف دقيق لما يجري في لبنان، وبوتيرة متسارعة منذ الأسبوع الماضي. البلد على شفير الهاوية منذ أكثر من سنتين عندما أخذ يستفيق بعد أن نفدت جرعات المورفين التي كانت توهم سكانه بأن اقتصاده معصوم من الانهيار، وازدادت أحواله سوءاً باطّراد منذ ذلك الحين على خلفية انتفاضة شعبية، تبعتها جائحة، عقبها انفجار كارثي، ترافق بأزمة حكومية لا تزال مستعصية، إذ إن حكومة الميقاتي الجديدة بحكم المعلّقة. وها أن أرباب النظام الطائفي يختارون هذا الوقت بالذات كي يسعّروا نار الطائفية، فيتضامن «حزب الله» مع شريكه الطائفي «حركة أمل» الذي لا يشترك معه بالأصل سوى بالانتماء الطائفي، ليطالبا بتنحية قاضٍ ينبذانه من منطلق طائفي، فينتهز سمير جعجع، رئيس «القوات اللبنانية» الفرصة كي ينضمّ إلى اللعب بنار الطائفية الذي يهواه أيما هواية، وهو ابن اللعبة البار، فيُحرج منافسه الماروني في اللعبة ذاتها، رئيس جمهورية بعبدا وسراب الجمهورية اللبنانية، وتتصاعد اللعبة إلى مستوى التهديد والوعيد.
وبعد، فيكفي أن نقول إن المشهد برمّته تأكيدٌ لصحة الوصف الذي جاء في بيان «الحزب الشيوعي اللبناني» إثر حادثة الأسبوع الماضي: «تجد المنظومة الحاكمة في استخدام العنف والاقتتال الداخلي وسيلة لطمس وتغييب القضية الأساسية التي يعاني منها اللبنانيون، أي تداعيات الانهيار الاقتصادي الذي تتحمّل هي مسؤوليته مع ما خلّفه من فقر وبطالة وهجرة واستغلال وقلق وجودي على المصير. كما تجد فيه أيضا وسيلة للتغطية على جرائمها في نهب المال العام وفي تفجير المرفأ، وهي جرائم لم تتمّ محاسبة أو محاكمة أي مسؤول عنها في مواقع القرار الأساسية، تأكيداً لذروة الفساد السياسي الذي تمتهنه القوى الحاكمة وتعتاش منه».
أما خطبة أمين عام «حزب الله» مساء الثلاثاء الماضي، فلم تفعل سوى صبّ الزيت على نار اللعبة الخطيرة ذاتها. وقد استوقف الجميع ما جاء فيها من تباهٍ بالقوة في مخاطبة سمير جعجع: «كل حساباتك خاطئة كما دائماً، وحزب الله حالياً هو في أكثر مراحل قوته وفقاً لحسابات الإقليم والمنطقة. وحزب الله ليس أضعف من منظمة التحرير. وبحال كنتم تفكرون بحرب أهلية، وكي تكون حساباتكم صحيحة، سأكشف رقماً لمنع الحرب الأهلية وليس للتهديد بها، وأنا معروف عني أنني لا أتكلم بشيء غير موجود. لدى حزب الله وهيكله العسكري 100 ألف مقاتل، مدرّبين ومنظّمين ومجهّزين بأسلحتهم المختلفة. فمع من تريد أن تجري حرباً أهلية؟»
تجد المنظومة الحاكمة في استخدام العنف والاقتتال الداخلي وسيلة لطمس وتغييب القضية الأساسية التي يعاني منها اللبنانيون، أي تداعيات الانهيار الاقتصادي الذي تتحمّل هي مسؤوليته مع ما خلّفه من فقر وبطالة وهجرة واستغلال وقلق وجودي على المصير
أتى هذا الكلام بعد تشخيص صائب لاستراتيجية رئيس «القوات اللبنانية» حيث وصفه أمين عام «حزب الله» بأنه «يخاطب عموم المسيحيين في لبنان يجعلهم دائماً في دائرة الخوف والقلق والذعر». وقد أضاف: «هذه الإثارة الدائمة للمخاوف الهدف منها أن يقدّم حزب القوات اللبنانية ورئيسه أنفسهم على أنهم حملة الراية والمدافعون عن الوجود المسيحي. وتحت هذا العنوان يقومون بالتعبئة والتحريض لتحقيق أهداف لها صلة بالزعامة وما يعرضه من أدوار على دول خارجية لها مصالح في لبنان، وهكذا يصبح المسيحيون مادة لخدمة شخص ومشاريع خارجية».
من طرائف السجال أن المشاركين فيه غالباً ما ينسون حالهم في مخاطبة خصمهم، ومن المعلوم أن أخصام «حزب الله» يتهمونه بالمثل بخدمة «مشاريع خارجية». لكن الأخطر من ذلك هو أن استفراد سمير جعجع بالهجوم عليه وتهديده بالجحافل المدرّبة والمنظّمة والمجهّزة بالأسلحة المختلفة، والتباهي بأن «حزب الله» أقوى مما كانت عليه «منظمة التحرير الفلسطينية» تذكيراً بأولى سنوات الحرب التي اندلعت في لبنان في عام 1975 وقد بدأت في المنطقة ذاتها التي شهدت أحداث الأسبوع الماضي، كل هذا، بدل أن يُضعف «القوات اللبنانية» ليس من شأنه سوى أن يقدّم خدمة عظيمة لخطة جعجع الرامية إلى إثارة المخاوف لدى المسيحيين في لبنان وجعلهم في دائرة الخوف والقلق والذعر، وتقديم «القوات اللبنانية» ورئيسها على أنهم حملة الراية والمدافعون عن الوجود المسيحي، كل هذا اقتباساً من كلام الأمين العام.
وبالطبع فمثلما كان الأمر في الماضي في مواجهة «القوات اللبنانية» للمعسكر المؤلف من «منظمة التحرير الفلسطينية» و«الحركة الوطنية اللبنانية» فإن التباهي بالقوة الذي سمعناه ليس من شأنه سوى تقوية ذريعة «القوات» بإعادة إحياء وتوثيق تحالفها المزمن مع الدولة الصهيونية، جارة لبنان الجنوبية التي لديها من الجحافل المدرّبة والمنظّمة والمجهّزة بالأسلحة المختلفة أضعاف ما لدى «حزب الله». ويسهل تصوّر باقي السيناريو القاضي بتوسيع دائرة المشاركين بالحرب على أرض لبنان إلى إيران وروسيا من جهة، والإمارات المتحدة والمملكة السعودية والولايات المتحدة من الجهة الأخرى، بحيث يتّضح أن ما يُحدق بلبنان ليس العودة إلى حرب الخمسة عشر عاماً التي كثُر الحديث عنها في الآونة الأخيرة، بل هو أخطر منها بكثير، والجارة السورية خير شاهدة عليه.
وهل نحتاج إلى التذكير بأن «الحسابات الخاطئة» ليست حكراً لسمير جعجع، بل أن الأمين العام نفسه اعترف بحساب خاطئ جسيم في مقابلته الشهيرة مع محطة «نيو تي في» اللبنانية بتاريخ 27/8/2006، عندما صرّح في صدد خطف الجنديين الذي اتخذته إسرائيل ذريعة لشنّ هجومها المدمّر على لبنان في تلك السنة، قائلاً: «الآن إذا سألتموني [ماذا كنتُ فعلت] لو كنتُ أعلم بأن عملية الخطف هذه ستؤدي الى حرب بهذا الحجم بنسبة واحد في المئة، فقطعاً لما فعلنا لأسباب إنسانية وأخلاقية وعسكرية واجتماعية وأمنية وسياسية». وليت جميع اللاعبين بنار الطائفية في لبنان يتّعظون!