هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا تعتدل أوضاع الشعوب عقب الاطاحة بالنظام الشمولي إلا بعد مضى زمن يعادل، وأحيانا يفوق، زمن خضوع الشعب لهذا النظام، إذ تستمر أعراض الأنظمة الشمولية وقتا طويلا عقب سقوطها، لذا تروج في هذا الزمن الانتقالي عبارة تفيد بأن الدكتاتور حتى بعد سقوطه وموته مايزال يحكم من قبره.
ولعل مصادرة حق فئات الشعب ومكوناته من ممارسة حقها في التعبير والاختيار هو من أخطر هذه الأعراض غير المنظورة غالبا، أو لاتنال ماتستحقه من دراسة وبحث. يغتصب الدكتاتور السلطة تحت جنح الظلام، زاعما في بيانه الأول أن دافعه هو الاستجابة لنداء الشعب ومطالبه بالتغيير. وخلال تفرده بالسلطة يكرس هذا الزعم بادعائه تنفيذ إرادة الشعب في كل خطواته وسياساته وقراراته الكارثية.
في كل خطب المستبدين لابد أن ترد مفردة الشعب عشرات المرات.. الشعب لن يقبل.. الشعب يرفض.. الشعب هو صاحب السيادة ونحن طوع أمره.. الشعب قرر.. الشعب سيقاوم.. الشعب قال كلمته.. الخ.
كل الحكام المستبدين من دون استثناء اتبعوا خطى فرعون في مصادرة إرادة الشعوب، كما جاء في القرآن الكريم عن فرعون ( وما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) صدق الله العظيم.
يتجلى الشعب على لسان الدكتاتور وكأنه مجرد فرد واحد، أو كتلة صماء ليس لها من أمرها شئ، وليس جموعا هائلة تقدر بالملايين، وكل فرد في هذه الملايين له أفكار و وجهات نظر مختلفة عن الآخرين إلى حد التناقض. التجلي الأبرز لظاهرة تغييب الشعب مصادرة حقه في تنفيذ إرادته هو الانتخابات، التي يجدد فيها الشعب الثقة في القيادة الحكيمة لجلاديه بنسبة 99.9.
رغم كل مظاهر البؤس والانحطاط والتخلف التي يتنعم فيها الشعب بفضل هذه القيادة الحكيمة. ليس ثمة جديد في هذا الطرح بالطبع، فكل من عاصر حقبة أنظمة الحكم الشمولي خلال القرن الماضي، يعرف أن الدكتاتور هو صاحب القرار وفقا لمزاجه ورغباته وهواجسه وأوهامه، لكنه يحملها على الشعب. لكن لماذا يقتفي أثره من يزعمون أنهم ديمقراطيون مناهضون للدكتاتورية وأنظمة الاستبداد؟
تبدو ظاهرة غريبة في زمن الحرية، بعد إسقاط المستبد وهدم سلطته، أن يخرج على الناس أدعياء يختزلون الشعب في مواقفهم ورؤيته الخاصة، يحتلون الشاشات والمنابر الإعلامية تحت شعارات وصفات متنوعة معلنين عن رغبات الشعب وتطلعاته، ومايريده ومايرفضه.
وإذا أخذنا الحالة الليبية كنموذج سنجد العشرات ممن نصبوا أنفسهم في كيانات سياسية وإعلامية، وادعوا لأنفسهم مستويات علمية ومعرفية لا تتناسب مع قدراتهم الحقيقية، وخرجوا على الناس يصيحون أن الشعب يرفض مسودة الدستور.. الشعب يريد العودة للنظام الفيدرالي.. الشعب ضد الإخوان.. الشعب يريد نظاما رئاسيا.. لا بل يريد نظاما برلمانيا. وتتعاظم المأساة حين يدعي أحدهم أن الشعب يريد حاكما قويا يقوده بالعصا.
لا فرق بين خطاب هذه النخب طوال العشر سنوات الماضية وخطاب القذافي منذ استيلائه على السلطة حتى سقوطه، وهو ما يؤكد صحة ما ذهب إليه الكاتب والروائي الألباني إسماعيل كاداريه " يصنع الطاغية شعبه على شاكلته".
فنحن لم نعرف الموقف الحقيقي للشعب، والمقصود تحديدا غالبيتهم، في أغلب القضايا الوطنية. لأن معرفة هذه المواقف بدقة لها طريقان فقط. الاستفتاء والانتخابات. وهما طريقان لا تعترف بهما هذه النخب المزيفة التي نصبت نفسها وصية على الشعب، وتعتقد أنها ستهديه سبيل الرشاد.
هل فعلا ترفض غالبية الشعب مسودة الدستور؟ هل يفضل الشعب النظام الرئاسي أم البرلماني أم مزيج بينهما تتوزع فيه السلطة ولا تنحصر في جهة واحدة ليتحقق التوازن؟ ماهي ماهية الدولة التي يتطلع إليها الشعب ويرى أنها ستحقق له الحياة الكريمة وتفتح طريق المستقبل للأجيال القادمة؟
إن من يزعم المقدرة على الإجابة عن هذه التساؤلات، من دون عرض الأمر على الشعب عبر الاستفتاءات والانتخابات، هو دجال دعي، وما أكثر الدجالين والمحتالين والمدعين في الزمن الذي يعقب سقوط الديكتاتور.
ولاريب أن استسلام الشعب للقيادات السياسية التي تحكم بسلطة الأمر الواقع، والنخب الإعلامية التي تخدره بخطابها، دعما لهذه السلطة مقابل بعض الفتات، مع تدني الوعي السياسي لأغلب فئات الشعب، هو عامل إضافي لاستمرار غيابه عن الفعل بالرفض والاستنكار، والمبادرة لتغيير هذا الواقع باستعادته لحقه المشروع في صناعة القرار، وتقرير المصير عبر الانتخابات، وإذ نزعم أن حالة الوعي الجمعي حققت تقدما بعد كل هذه التجارب المريرة والقاسية، فإن الاختبار الحقيقي هو الاستحقاق الانتخابي المقبل في ديسمبر. فإما أن يستيقظ الشعب وتنزل طلائعه إلى الشوارع والميادين مطالبة بتنفيذ الانتخابات، وعدم القبول بأي مبررات للتأجيل، والمضي في طريق التغيير، والتصدي بحزم لكل من يزعم أن الشعب يفضل الانتظار. أو استمرار عبث القيادات البائسة ومقامراتها بمصير الوطن.