قضايا وآراء

مرارة الواقع وهواجس العالم الافتراضي

إبراهيم بدوي
1300x600
1300x600
تغيّر وجه العالم تماما نتيجة انقطاع مفاجئ في الخدمة؛ أصاب مجموعة من تطبيقات التواصل الاجتماعي لعدة ساعات، وبات الناس في حيرة من أمرهم، وسادت حالة من الترقب لحين عودة الأمور إلى سابق عهدها، في ما يشبه الاستنفار العام بعد وقوع حدث عظيم.

كان الأمر مثيرا للاهتمام حقا، بعد هذا الجدل المستمر من مختلف الشرائح العمرية، والمساحات الكبرى التي خصصتها وسائل الإعلام لتغطية الحدث، الذي احتل موقع الصدارة في النشرات الإخبارية، لتتوارى خلفه أخبار النزاعات والكوارث الطبيعية، ويتلاشى معه سحر كرة القدم.

تستحوذ شركات التقنية الرقمية على سوق التجارة العالمي حاليا، بعدما تحولت حركة الأسهم من الشركات والمصانع إلى التطبيقات الإلكترونية، والتي شهدت إقبالا شديدا من جمهور المستخدمين، حتى باتت رافدا هاما للاقتصاد والتجارة البينية، ومصدرا لتحليل البيانات وتقديم خدمات المعلومات.

ويرى البعض أن شركات التقنية، وعلى رأسها "فيسبوك"، قد تضخمت بشكل يصعب التعامل معه، وتشكل مصدر خطر على الاقتصاد العالمي نتيجة سياسة الاستحواذ التي تتبعها، لتتحول إلى ثقب أسود رقمي يبتلع ما حوله، وهو أمر لا يمكن السكوت عليه في الولايات المتحدة، في ظل ما أشيع من استخدام بعض الشبكات في أغراض سياسية، ونشر أخبار مضللة، أو التورط في توجيه الرأي العام في الانتخابات، من خلال استباحة خصوصية المستخدمين لصالح شركات تحليل البيانات، التي تستخدمها في أغراض مشبوهة.

ومن هذا المنطلق، يستنتج البعض أن تعليمات قريبة ستصدر بتجزئة تلك الكيانات العملاقة إلى شركات أصغر يسهل التعامل معها، في حين يرى آخرون أن شركات التقنية العملاقة قد تعتمد تلك السياسة طوعا، إذا رأت عدم إمكانية الصمود والسير في اتجاه مخالف للتيار، أو عند اقتناعها بتحقيق عوائد مادية أكبر، من خلال توسيع رقعة المنافسة الداخلية بين إدارات الكيان الواحد لتصير منافسة بين شركات.

وبعيدا عن التداعيات الاقتصادية، ولغة الأرقام التي تشير إلى خسائر تقارب نصف مليون دولار في الدقيقة الواحدة؛ تكبدتها شركة "فيسبوك" خلال فترة توقف الخدمة، كشف التوقف المفاجئ نوعا من الفصام المجتمعي، وشكلا من أشكال "التوحد" التقني الذي أصاب مستخدمي التطبيقات الإلكترونية، بعد تحولهم - بقصد أو بدون قصد - من أرض الواقع إلى الفضاء الإلكتروني بقوانينه المغايرة وأحكامه الخاصة.

هذه الساعات القليلة كانت كفيلة باستكشاف بعض الناس للعالم الحقيقي الذي يعيشون فيه، بعيدا عن صخب المنشورات، والإعجابات، والمشاركات، والصور، والفيديوهات المرئية التي لا تنتهي، وبمجرد إكمال أحدها يقودك التطبيق إلى آخر، اعتمادا على خوارزميات دقيقة، بعد الاستفادة من البيانات المتاحة وتحليلها لتحديد الاهتمامات الشخصية والضرب على وترها، ليصبح المستخدم غارقا حتى أذنيه في الواقع الافتراضي ولا يدري شيئا عما يدور حوله.

وربما يفسر هذا الأمر حالة الهستيريا التي أصابت البعض، ودفعتهم للاستمرار في متابعة تلك التطبيقات دوريا من أجل التأكد من عودتها إلى العمل، كطفل حديث الفطام يبحث عن مصدر غذائه الذي افتقده ولم يعد يطيق صبرا على فراقه.

لا يمكن إنكار الجوانب الإيجابية لوسائل التواصل الاجتماعي، وأهمها رفع الحواجز عن المعلومة، وتوسيع دائرة التواصل المجتمعي، وتبادل الآراء، وتشجيع المشاركة الفعالة في الحوار والنقاش حول قضايا الساعة، ومتابعة الأخبار، لكن في المقابل تسببت تلك الأدوات التقنية بشكل مباشر في حالة من الفصام المجتمعي، والإدمان الإلكتروني الذي انتشر بين فئات كثيرة من المجتمع، ولا سيما في أوساط الشباب، مما ينذر بعواقب وخيمة على مستوى الفرد والمجتمع إذا لم يتم تدارك الأمر والسيطرة عليه.

يقضي الشباب ساعات طوال بين هذه التطبيقات، في عزلة شعورية تامة عن محيطهم الأسري والمجتمعي، مستمتعين بنمط حياة مغاير، ومنجذبين إلى تلك الخيالات البراقة، والهالات الوهمية التي تحيط بعدد من مشاهير العالم الافتراضي، مما يفرز حالة من التقليد الأعمى لهذه النماذج، فتتراجع القدوة، ويضمحل الإنجاز، بعدما تحول مفهومه من تفوق دراسي، أو تميز وظيفي، أو تقدم ملموس في مجال ما، إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المشاركات والإعجابات.

ربما كانت ساعات الانقطاع تلك بمثابة جرس إنذار حول الانتباه نحو ظواهر سلبية خطيرة بالمجتمع تحتاج إلى معالجة سريعة، وأعتقد أنها قد تمثل فرصة عظيمة للأسر لإعادة ترتيب أوضاعها، وتفعيل التواصل الحقيقي، وتفقد أحوال أفرادها من خلال آليات التعامل المباشر، الذي يسمح للآباء بالاستمتاع برؤية أبنائهم وهم يكبرون فيتولون توجيههم وتقويمهم، كما يتيح للأبناء الفرصة لمشاهدة آثار الزمن على وجوه وأجساد آبائهم فيرحمونهم، ويعاملونهم بما هو واجب في حقهم.
التعليقات (0)