هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في أعقاب عودة الحرارة لمبدأ المصالحة الفلسطينية باجتماع المناضلين من فتح وحماس وبداية تشكل وحدة حقيقية حول الأهداف المشتركة نشأت في العالم العربي ولدى الرأي العام العربي حقيقة جديدة مخيفة وهي أنه بتراكم المصائب لإجهاض الربيع العربي وتأزم الوضع السوري وخلاف الفصائل في ليبيا قبل انتخابات 24 ديسمبر القادم وغموض المستقبل في اليمن والقلاقل في العراق والأزمة الدستورية في تونس فإن منزلة القضية الجوهرية للعرب، أي فلسطين، بدأت تتراجع، بل ولا تحتل الصدارة لدى الدول العربية نفسها، فما بالك بالدول الأخرى وأعداء العرب، فالجامعة العربية مغيبة وشرعت دولة الاحتلال الظالمة بقيادة (نافتالي بينت) والمتطرفين تراجع مواقفها على ضوء هذا التشرذم العربي وتوسع دائرة التطبيع دون تنازلات (آخرها فتح السفارة الإسرائيلية في المنامة).
وقد كتب عدد من المراقبين مقالات وأبدوا آراء وأعلنوا مواقف كان أغلبها يدور حول هذه المحاور الثلاثة المتداولة في القضية الفلسطينية وهي الحق والحلم والممكن مهما اختلفت الرؤى والتحليلات ومن هؤلاء إسرائيليون مثل كاتب سيرة الرئيس الراحل ياسر عرفات (أمنون كابليوك) والشريك في مؤتمر جنيف (يوسي بيلين) وهما من بين المثقفين اليهود الأكثر تفهما للقضية الفلسطينية والأشد دفاعا عن الحق الفلسطيني إزاء الغطرسة اليمينية مع (نافتالي) أو (ناتنياهو) وقبلها الأولمرتية ثم الشارونية.
وأعتقد صادقا مع نفسي بأن الرموز الثلاثة المذكورة أي الحق والحلم والممكن هي التي علينا جميعا نحن العرب تحليلها والنقاش حولها ومن ثَمَّ تحديد أولويات الخروج من عنق الزجاجة الذي حوصرنا فيه منذ عهد النكبة 1947 تاريخ إنشاء «دولة إسرائيل» وما أعقبها من كوارث.
فالحق الفلسطيني هو اليوم في منظور للمنظومة الدولية الحق المعترف به في نطاق القانون الدولي المنبثق عن قرارات منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والذي بالطبع يهضم حقوقا للشعب الفلسطيني طال الزمن على حرارة التحامها بالواقع وجاءت ثلاثة أجيال ما بعد النكبة ليكتشفوا على الميدان في الشرق الأوسط واقعا جديدا مختلفا فرض فيه العالم كله على فلسطين دولة طارئة هي إسرائيل، أقول: العالم كله لا الولايات المتحدة فقط لأن الاعتراف الدولي بالدولة العبرية منذ 1947 جاء من موسكو ومن أنقرة ومن باريس ومن نيودلهي قبل أن يأتي من واشنطن ولأن أغلب الدول الكبرى الفاعلة في الشرق الأوسط كانت تضمر عكس ما تعلن وبعض الحكومات العربية كانت لها علاقات خفية مع اليهود وقادة إسرائيل منذ نصف قرن.
فالواقع الصعب والمتشعب اليوم ليس هو المتطابق مع الحق أو الشرعية ولكنه يوفر مجالا واسعا من الكفاح السياسي والدبلوماسي والثقافي ضد القوى المتحالفة في العدوان والشر والتي تجد في الانقسامات العربية الداخلية أكبر معين وأفضل سند لإعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط على أساس خدمة إسرائيل لا كحليف تقليدي لها فحسب بل كرائدة منتخبة للشرق الأوسط الكبير في الديمقراطية والإصلاحات والتجارة الحرة في كنف العولمة المطلوبة والمفروضة على الناس جميعا.
وقد أردت في الحقيقة التطرق بهذا المدخل لمحور الفرق البين ما بين الحق والواقع في المأساة الفلسطينية، فالكفاح المشروع من أجل الحق يجب أن يقرأ حسابا للواقع والتحولات الإقليمية والدولية الطارئة والتي تساهم في صناعة واقع مختلف لا يستجيب بالضرورة إلى مصالح الطرف صاحب الحق مهما كان متمسكا بحقه ومناضلا من أجل استعادته وفرضه.
فاليوم سنة 2021 أصبحت أولويات العرب ومشاركيهم في المصير هي إيجاد حلول مقبولة للأزمات العربية المتفاقمة من ليبيا إلى سوريا إلى مصر والعراق واليمن فالمغرب العربي وللتاريخ فإن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة كان أول من فهم وفكك اللعبة السياسية والإستراتيجية العالمية قبل غيره فيما يتعلق بالملف الفلسطيني حين ألقى خطابه الشهير بمخيم أريحا في 11 مارس من عام 1965 وعرض خلاله الحل الذي يوازن بين الحق والواقع أي بين الحفاظ على الوطن بالكفاح المسلح والدبلوماسية بالتمسك بالشرعية الدولية المتمثلة في قرار التقسيم 29 نوفمبر 1947 وبذلك مثلما قال بورقيبة نضع إسرائيل خارج الشرعية.
والذي حدث مع الأسف بعد ذلك هو شتم بورقيبة واتهامه بالتهم العربية الجاهزة والتي كان المذيع أحمد سعيد يرددها صباح مساء على أمواج إذاعة صوت العرب المسموعة من المحيط إلى الخليج واليوم بعد ستين عاما من خطاب أريحا نجد بعض العرب في غفلة من الحقائق الجديدة والتحولات الراهنة في العالم لا يزالون لا يفرقون بين الحق والواقع ويطالبون بالمستحيل عوض المطالبة بالممكن الآن وتأجيل ما هو غير ممكن للغد أو لما بعد الغد دون التفريط في الحق لأن السياسة هي في النهاية فن الممكن والتفاوض مع العقبات والمناورة المشروعة من أجل إحباط مخططات الخصم والعدو.
ولعل الاحتقان المؤقت الذي يعرقل الشعب الفلسطيني بعد تباطؤ المصالحة بين الإخوة في الضفة والقطاع هو احتقان سببه الأول هو هذا، أي الخلط بين الحق والواقع وعدم التفريق بين الغاية الأساسية الإستراتيجية والوسيلة الملائمة لبلوغها وهي المسماة بالتكتيك، أي التخطيط السياسي الذكي مرحلة مرحلة وخطوة خطوة. فالإخوة المقاومون في حركات المقاومة وحماس لهم نفس الغاية التي يسعى إليها محمود عباس بالضبط إستراتيجيا لكن الاختلاف وحتى الخلاف هو في التكتيك أي المرحلية والعقلانية واستعمال العقل والبصيرة.
* كاتب تونسي
عن الشرق القطرية