هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شخصيا لم تفاجئني أبدا الخسارة الأخيرة لحزب "العدالة والتنمية" في المغرب، وإن توقّعت أن يتواضع النظام في الأمر، ويمنحه ما يحفظ بعض ماء الوجه، لكن الأنظمة لا تفكر على نحو صائب في كثير من الأحيان.
تبدأ قصة الحزب من محاولة مجموعة من الشباب تأسيس مسار سياسي "إسلامي" مستلهما تجارب المشرق العربي، بعد تجربة عنيفة عابرة تمثّلت في حركة "الشبيبة الإسلامية" بقيادة عبد الكريم مطيع، والتي تم استئصالها بعد اتهامها باغتيال نقابي يساري (عمر بنجلون) 1975، الأمر الذي كان نوعا من الرد على صعودها الكبير في الأوساط الشبابية، بخاصة في الجامعات.
دخل أولئك الشباب السجن، ثم خرجوا منه، ليبدؤوا تجربة جديدة تحاكي تجارب المشرق؛ في الانخراط في العملية السياسية، بما تيسر، وفق نهج "الإصلاح"، الأمر الذي وصل بعد سنوات (من "الجماعة الإسلامية" ثم "حركة التوحيد والإصلاح") إلى صيغة الاندماج في حزب كان موجودا بقيادة عبد الكريم الخطيب، وصولا إلى وراثته، والشروع في المشاركة في الانتخابات، والحصول على نتائج متدرجة؛ بدأت عام 1997 بـ(4%)، وانتهت إلى حصة كبيرة في العام 2011 (27%)، ثم (32%) في 2016، وترؤس حكومة ائتلافية؛ بدءا بعبد الإله بنكيران حتى 2017، ثم سعد الدين العثماني.
كان تعاطي منظومة الحكم مع التجربة متسامحا إلى حد ما؛ لا لشيء، إلا بسبب الحاجة إلى ذلك، لأن الحركة الإسلامية الأكبر في البلاد (العدل والإحسان)، كان لها رأي آخر في نهج التغيير، إذ رفضت المشاركات الانتخابية التي لا تغير في طبيعة النظام الذي يتحكم به (المخزن)؛ بتعبير المغاربة، أي الملك ومن حوله، وما زالت على هذا الرأي حتى الآن، ولو قبلت الدخول في مسار "الإصلاح" التقليدي، ودخلت الانتخابات، لكانت حصة "العدالة والتنمية"، وحاضنته "حركة التوحيد والإصلاح" أقل بكثير مما كانت عليه طوال الوقت.
والحال أن من الصعب القول إن مسار الحركة، ومن ثم الحزب كان خاطئا، فقد كانت تجتهد وفق المتاح في ذلك الحين، وتقيس على تجارب آخرين في المشرق
لم يكن في وارد النظام الذي يمسك بتلابيب السلطة كاملة؛ بدولتها العميقة، وبما دون ذلك أيضا، أن يصل الأمر حد قيادة "العدالة والتنمية" للحكومة، لكن ما دفع إلى ذلك هو تحوّل مفاجئ أصاب المجال العربي برمته، وتمثّل في "الربيع العربي" الذي بدأ في تونس ثم مصر، واجتاح عدة دولة، وبرزت مؤشرات عديدة على أنه لن يتوقف.
استوعب النظام المغربي الأمر في مواجهة شارع بدأ التحرك، وبقيادات مختلفة؛ تصدّرتها حركة "العدل والإحسان"؛ الأقوى والأكثر حضورا وتنظيما، فكان أن قبل بحصول "العدالة والتنمية" على حصة كبيرة تزيد عن ربع البرلمان، وصولا إلى تشكيل حكومة ائتلافية.
نفتح قوسا كي نشير إلى أن البعض سيستغرب حديثنا عن إرادة الدولة أو النظام في المنع والمنح، وفي سياق عملية ديمقراطية. وهنا نقول إن الانتخابات في العالم العربي وفق منظومة "ديمقراطية الديكور" المتوفرّة منذ عقود، لم تكن تعني ديمقراطية حقيقية، بل هي ديمقراطية مبرمجة؛ إن بشكل غير مباشر عبر قوانين الانتخاب وآلياته، أم عبر التدخل المباشر في العملية (التلاعب)، وصولا إلى تحديد حصص الأحزاب، بل حتى هويات الفائزين من داخل كل حزب أحيانا، كما كان يحدث في مصر والأردن واليمن والجزائر وعدد من الدول الأخرى.
في المحصّلة كان "ربيع العرب" هو السبب في النقلة التي حصل عليها "العدالة والتنمية"، إذ سعى النظام إلى تجنب الخيار الآخر الذي حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، وكان يتحرّك نحو محطات أخرى، لولا نجاح "الثورة المضادة"، والتدخل الإيراني في سوريا، بجانب الأجواء الدولية المساندة لمحاصرته وصولا إلى ضربه.
في 2017، وحين كان "الربيع العربي" يدخل مرحلة التقهقر، فرض النظام في المغرب على الحزب أن يبعد رئيس الحكومة والحزب (عبد الإله بنكيران)، ويضع سعد الدين العثماني مكانه، وكان السبب هو أن الأول كان قويا، وسعى إلى انتزاع صلاحيات أكبر مما يريد النظام، وبدأت يحصد جماهيرية واسعة تبعا لذلك، وهو ما منح الحزب نتيجة أفضل في انتخابات 2016.
جاء العثماني على أنقاض بنكيران، وكان عليه أن يرفض ذلك، ومن ورائه الحزب، فيما كان "ربيع العرب" يزداد تقهقرا، وتتقدم "الثورة المضادة"، وإن ظهرت تجليات جديدة، كما في السودان والجزائر؛ كانت خواتيمها بائسة أيضا، وأصبح العثماني عمليا صورة باهتة لرئيس حكومة محدود الصلاحيات، ويضطر إلى تنفيذ ما يريده النظام على كل صعيد، وليست قضية التطبيع، سوى الفصل الأخير من المسار الذي انقلب من خلاله الحزب على أدبياته المنحازة تماما إلى القضية الفلسطينية، تماما كما هو حال الجمهور المغربي، وأضف إلى ذلك قضيتي الفرنسية في التعليم، وتشريع "القنب الهندي"، بجانب عملية إفشال ممنهجة في الجانب الاقتصادي والحقوقي، في ظل رئيس وزراء ضعيف، ولا يتحكّم بأهم وزرائه الذين يستمدون قوتهم من "المخزن".
نفتح قوسا كي نقول إن حشر الخسارة بقضية التطبيع، لا صلة له بالمنطق، لأن الفائزين في الانتخابات أكثر انحيازا للتطبيع من الحزب، لا سيما أن رافضي التطبيع، وكل ديمقراطية الديكور إياها، لا يذهبون إلى الانتخابات أصلا، والقول إن 50 في المئة شاركوا في الانتخابات لا يقنع أحدا، ويعرف الجميع الآليات التي يتم من خلال رفع النسب والتلاعب بها في كل الدول التي تتبع ذات المسار.
خسارة الحزب، والحالة هذه، لها بُعدان: يتعلق الأول بإرادة النظام تحجيمه دون شطبه تماما، فيما يتعلق الثاني بيأس الناس من مساره في إصلاح النظام الذي يعيش أزمات كبيرة، بخاصة على صعيد الاقتصاد، فضلا عن الخيارات الأخرى داخليا وخارجيا، وآخرها التطبيع الذي تورّط الحزب في تمريره بطريقة غبيّة.
والخلاصة أن منح الحزب فرصة الصعود كان بقرار من النظام؛ فرارا من تداعيات "ربيع العرب"، فيما كان تحجيمه نتاج شعور بالأمان بعد نجاحات "الثورة المضادة"
تلك ليست نهاية "الإسلام السياسي" في المغرب، كما يعتقد من تتملكهم العقدة؛ ليس فقط لأن الحركة الأكبر التي تمثل التيار (العدل والإحسان) ما زالت قوية، وإن لجمتها الأجواء الإقليمية الصعبة، بل أيضا لأن الحزب نفسه، وحركته الحاضنة، لن يغيبا أيضا، بل ربما شكّل ما جرى فرصة لإعادة ترميم المسار، بعيدا عن مشاكل المشاركة في سلطة شكلية لا تمنح أي فرصة للإصلاح.
"الإسلام السياسي" ما زال هنا في المغرب، وفي شتى الأقطار، ونعيه لا يعكس سوى قصر نظر في فهم مجتمعاتنا، لا سيما أن فشل الأنظمة ما زال يتصاعد يوما إثر آخر، بخاصة على الصعيد الاقتصادي، فضلا عن السياسي بمساراته الداخلية والخارجية. كما يعكس ذلك النعي خللا في فهم موازين القوى المتغيّرة في عالم يعيش مرحلة انتقال تاريخية محورية، ستكون لها تأثيراتها على الأوضاع الداخلية في العالم العربي.