هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
سمعنا أنباء اللقاء الذي جمع كبار قادة "حماس"؛ يتقدّمهم زعيمها إسماعيل هنية، ونائبه صالح العاروري، مع رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري، والرسالة التي كتبها الأخير عن اللقاء، ووجّهها إلى محمود عباس، ثم تعليق عباس بخط يده على الرسالة.
لمن لم يتابع القصة؛ نشير إلى أن منيب المصري قال في الرسالة إنه التقى قادة "حماس"، واصفا اللقاء بـ"الإيجابي"، ومؤكدا على نيتها إنهاء الانقسام وإتمام المصالحة الوطنية.
وقال إن الحركة وعدت بالرد سريعا على المبادرة التي تقدمت بها "هيئة النوايا الحسنة"، وإنها طلبت أن تكون مرجعية إنهاء الانقسام هي حوارات القاهرة، وأن يستند الحوار حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية واعترافها بقرارات الشرعية الدولية إلى اتفاق مكة، مشيرا إلى أن الحركة وافقت على اعتراف الحكومة بالقرارات الدولية.
الأكثر إثارة في القصة هو تعليق عباس على رسالة المصري، والذي جاء بخط يده وتوقيعه، حيث قال بالنص: "المطلوب من حركة حماس حتى تكون شريكة أن تعترف بشكل رسمي؛ وبتوقيع إسماعيل هنية بقرارات الشرعية الدولية، وبدون ذلك لا حوار معهم"، وهو ما كرّره خلال لقاء مع صحفيين مصريين بعد ذلك بأيام.
الحق أن هذه القصة بدت مثيرة للحزن والقهر من أكثر من زاوية، لعل أولها ذلك المتعلّق بنهج تجريب المجرّب، والذي تتورّط فيه "حماس" بشكل أو بآخر، عبر ما يشبه الاعتراف بما يسمى قرارات الشرعية الدولية، والذي تسلسل إلى خطابها منذ ما عرف بـ"وثيقة الوفاق الوطني" عام 2006، ثم وثيقة "محددات البرنامج السياسي" بعدها مباشرة، ثم "اتفاق مكة" بعد ذلك (2007)، وصولا إلى الوثيقة الأخيرة التي صدرت عام 2017، وقبلت بالدولة على حدود 67، وإن لم تعترف للعدو بما تبقى من فلسطين، على شاكلة "فتح" ومنظمة التحرير.
قلنا مرارا إن هذا النهج يعدّ تجريبا للمجرّب، لأن "فتح" حين فعلت ذلك، لم يكن لديها ما تقيس عليه، فقد كان هناك من يتولّون إقناعها بأن تقديم هذا التنازل أو ذاك، سيقرّبها من الدولة في حدود 67، وسيؤمّن لها الاعتراف الدولي والدعم، إلى غير ذلك. صحيح أن ذلك لم يعد مبرّرا كما بعد عقود من التجريب، لكن العودة إلى المبادئ أصعب بكثير من تجاوزها.
أما حماس، فلديها تجربة ماثلة للعيان، وتتمثل في أن كل ما قدّمته "فتح" ومنظمة التحرير من تنازلات تجاوزت قرارات "الشرعية الدولية" بكثير، لم يرضِ شهية العدو، وها هو رئيس وزراء العدو الجديد، والذي احتفل به الكثيرون، يستخفّ بعباس، ويرفض مجرد طرح الجانب السياسي في الاتصالات مع السلطة، كما تبدى في لقاء (عباس- غانتس) الأخير، وتعليقات قادة الاحتلال التي صدرت بشأنه.
خطأ كبير أن تتورّط قيادة "حماس" من جديد في تجريب المجرّب، في ذات الوقت الذي تتورّط بخفّة عجيبة في تبديد إنجازات "انتفاضة القدس"، ومعركة "سيف القدس"، وذلك بدل أن تجد مسارا آخر يحاصر عباس، ويهمّش خياراته، ويختطّ للشعب الفلسطيني مسارا مختلفا، عنوانه الانتفاضة الشاملة
لماذا والحالة هذه يتمّ تجريب المجرّب على هذا النحو البائس؟!
سؤال برسم الإجابة من قبل قادة حماس، لكنه سؤال يغدو أكثر إلحاحا وأهمية حين تأتي قصة اللقاء مع منيب المصري، وما انطوى عليها من عروض، بعد شهور على "انتفاضة القدس" الباسلة، ومعركة "سيف القدس العظيمة"، والتي أجمع كل المخلصين على أن من الضروري أن تكون محطة لتصحيح مسار القضية برمته. وهنا يكمن الجانب الأهم الذي دفعنا للتوقف عند القصة من الأساس.
لا شك أن الغطرسة التي أبداها عباس في رده على الرسالة لا تعكس وضعا قويا، فهو في أسوأ أحواله من حيث الجماهيرية، وفقدان ثقة الناس، ودعك من تقدم سنّه ووضعه الصحي.
الغطرسة المذكورة تعكس إصرارا من قبل الرجل على مسار التيه الذي سار فيه، منذ وقف ضد إجماع الشعب الفلسطيني على "انتفاضة الأقصى"، وتآمره على عرفات رحمه الله، وصولا إلى عقد ونصف من "تقديس" التعاون الأمني والمواقف التي لم يتورّط فيها أيٌ من رموز الحركة الوطنية الفلسطينية من قبل.
لكنها تعكس جانبا آخر يتمثل في التعويل على "بايدن" ومساره الذي يتلخّص في إحياء السلطة التابعة للاحتلال، مقابل إماتة القضية برمتها، كي لا تخرّب عليه جهوده في مواجهة الصعود الصيني. ولا شك أن أنظمة عربية كبيرة ومهمة متورّطة في دعم هذا المسار وتبنّيه.
خطأ كبير أن تتورّط قيادة "حماس" من جديد في تجريب المجرّب، في ذات الوقت الذي تتورّط بخفّة عجيبة في تبديد إنجازات "انتفاضة القدس"، ومعركة "سيف القدس"، وذلك بدل أن تجد مسارا آخر يحاصر عباس، ويهمّش خياراته، ويختطّ للشعب الفلسطيني مسارا مختلفا، عنوانه الانتفاضة الشاملة في مواجهة الاحتلال، وصولا إلى دحره عن الأراضي المحتلة عام 67، ليس بروحية القرارات الدولية، ولكن بروحية وطنية تجعله محطة للتحرير الشامل. وكل ذلك بالتعاون مع قوى المقاومة، ومعهم كل المؤمنين بخيارها من أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات.
المصيبة التي تعانيها "حماس" تكمن في هذا التخبط في القرارات السياسية، والذي لا يرتقي إلى مستوى البطولات والتضحيات التي قدّمتها في الميدان، في ذات الوقت الذي يكمن في تلك الإدارة البائسة لفرعها في الضفة الغربية، والذي سار من فشل إلى فشل منذ سنوات طويلة، مع بقاء الملف بيد ذات المسؤول عن ذلك الفشل.
ما يجب أن يحدث هو وقفة مع النفس تعيد النظر في مسار تجريب المجرّب من جهة، في ذات الوقت الذي يتم فيه تغيير إدارة فرعها في الضفة الغربية، بحيث يقوده أناس أكثر التصاقا به، وأكثر حرصا على مسار المقاومة، بعيدا عن مجاملة رموز السلطة البائسة.
هذا ما يجب أن يقوله المخلصون المحبّون لحماس، بعيدا عن المجاملات.