كتاب عربي 21

انقلابات مأجورة ومواطنة مقهورة مهدورة.. المواطنة من جديد (63)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
لا زلنا مع الانقلاب التونسي الأخير الذي فجّر شجونا في ما يتعلق بالثورات العربية، وقضايا الاستبداد، ومسألة المواطنة. وقد أردنا بهذا العنوان أن نُذكّر بدروس التغيير؛ تلك السُنّة الماضية بفعل التدافع بكل أشكاله ومستوياته.

سنن الله التي لا تتبدل أو تتحول، ولكنها ماضية في مآلاتها ومحصلتها تعطي لمن وعى بها وسعى لها؛ لا تحابي أحدا. فالسنن هي المعادلات الإلهية المتعلقة بالفعل الحضاري المرتبط بنتائجه إن تحرك في مساراته، سواء اتسم بالإيجابية أو بالسلبية، بالالتزام وعيا وسعيا أو بالانحراف فهما وعملا، وذلك تأكيدا على القاعدة الذهبية "أن الجزاء من جنس العمل"، استلهام هذه المعاني يتمثل في دروس خمسة:

الدرس الأول، هو درس المراحل الانتقالية في الثورات العربية، والتي تتربص بها انقلابات أو محاولات تطويق أو التفاف. ذلك أن المراحل الانتقالية وبحكم التعريف هي إدارة الاستثناء. وصحيح أن البعض يقول "إن الاستثناء لا قاعدة له"، إلا أن الاستدراك على تلك القاعدة يكون بالمعنى الذي يؤكد أن "الاستثناء يصنع قواعده الخاصة التي ترتبط به زمانا ومكانا وإنسانا وأحوالا".

هذه القواعد التي تتعلق بالانتقال تقوم على الوعي الآني والممتد. الوعي الآني؛ هو وعي بالأحوال القائمة، والوعي الممتد؛ صناعة مستمرة لتراكم أصوله فتجعل منه حالة جمعية من الرشد وعيا، ومن التسديد سعيا. وكذلك فإن الأمر يرتبط - أيضا - بالتوافق الشامل الذي لا يقوم على قاعدة التمثيل وفقا لوزن القوى، ولكن على حقيقة التوافق القائم على الاستيعاب لا الاستبعاد، وأخيرا التمكين للبديل في إطار استراتيجية واعية وبصيرة حتى يمكن ترسيخ كل ما يتعلق بتسيير مراحل البناء والنهوض.

عمليات بعضها من بعض تؤكد أن الانتقال يشكل في حقيقة الأمر علم من العلوم التي يجب التعرف عليها وعلى مستلزماتها، وقلنا مرة تلو مرة أن المراحل الانتقالية التي يسودها الاستقطاب ويتمكن منها، ليست إلا مقبرة للثورات.

الدرس الثاني؛ يتعلق بالاستثمار أثناء تلك المرحلة الانتقالية، في سياق المراكمة على الرصيد المهم الذي يُمكّن للحالة الثورية ويُمكّن لعمليات البناء المشفوع بتوفير الأمن والأمان والاستقرار والنماء.

وهي عملية كبرى تستأهل ممن يقومون على مسألة التغيير أو يسهمون بشكل فعال في تلك المرحلة؛ أن يعظموا قدرات الاستثمار وتراكم النجاحات، ولا يكونون بأي حال مع عامل الوقت المهم الذي يمكن من إنجاز المهام الكبرى التي تتعلق بهذه المرحلة في وقت مقبول ومعقول، حتى لا تمتد المراحل الانتقالية كما يريد المستبدون وأصحاب المصالح الضيقة والأنانية؟ ذلك أن هذه المرحلة تشهد تربصا من هؤلاء المضادين للثورة، فيقومون بكل عمل من شأنه الإجهاز على تلك الحالة الثورية، وإجهاض كل ما يتعلق بغايات ومقاصد تلك الثورات.

وفي هذا المقام فإن الترويكا التونسية على سبيل المثال كانت إنجازا، لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من فعاليتها وإنجازاتها، والمحاولات التي دارت لاستبدال تلك الترويكا كانت أمرا خطيرا لا يقوم على قاعدة الاستثمار، بل قاعدة الانقطاع ومحاولات التجريب بلا داعٍ ضمن تحالفات أخرى ربما لا تؤتي ثمارها، ولا تصب في تمكين الحالة الثورية في سياق تعزيز وتمكين عملية الانتقال السياسي والديمقراطي.

الدرس الثالث؛ وهو يتعلق بتلك الفكرة التي ولدت مع الثورة، والتي من جانب آخر تصلح مدخلا غاية في الأهمية في تحليل الفعل الذي يواكب هذه المراحل الانتقالية والاستثمار فيها، والحفاظ على الرصيد السياسي المنجز بكل وسيلة وبكل آلية، ألا وهي تقاطع ما يمكن أن يسمى الثورات الثلاث؛ الأولى هي الثورة الحقيقية، وواجب على أهلها وأصحاب المصالح الحقيقية في التغيير من خلالها، وتأمين عملية الانتقال السياسي بأقل الأضرار وأعظم المنافع.

حماية الثورة والدفاع عن حياضها أمر غاية في الأهمية، ذلك أن الفئة الأخرى التي تمثل المضادين للثورة أو التي تسمى بـ"الثورة المضادة" زيفا وخطأ، إنما تشكل من حيث وجودها تلك الفئة التي قامت عليها الثورة واستهدفتها باعتبارها هي من أدارت عمليات الاستبداد والفساد في النظم السابقة. وإن اصطناع استراتيجية لمواجهة هؤلاء عملية مهمة رصدا لكل ما يتناسب ويليق للحفاظ على الثورة الحقيقية وعدم تمكين هؤلاء من إجهاضها؛ إن في الداخل وإن في الخارج.

أما الثورة الثالثة فهي ثورة التوقعات التي تتعلق بعموم الناس ومعاشهم، والأخذ في الاعتبار ضروراتهم الأساسية التي لا يستغنون عنها في حياتهم والنهوض بمستقبلها. ومن ثم فإن التأكيد على أن جوهر السياسة هو معاش الناس أمر حقيقي يجب أن يُتبنى ويُترجم إلى سياسات؛ لا تخطئ - بأي حال من الأحوال - الجماهير كظهير شعبي وداعم حقيقي للثورات والتغيير، وإن إهمال هؤلاء أو إغفال مطالبهم الضرورية إنما يشكل فقدانا للداعم الأساسي للثورة واستمراريتها وتحقيق غاياتها ومقاصدها.

الدرس الرابع؛ الاهتمام بإعادة تعريف السياسي بعد تلك الثورات العربية بأن السياسة في جوهرها هي علم إرادة الشعوب، وإدارة ذلك بما يتناسب مع الاستثمار الأكيد في وجود هذه الشعوب كرصيد أساسي في هذه الثورات، وظهير لا يمكن للثورات أن تستمر إلا في وجودها.

وإن الانصراف عن أحوال الناس ومطالبهم هو في ذات الوقت فك ارتباط الجماهير بالثورات، وهو أخطر ما يمكن أن تنزلق إليه الحالة الثورية في المراحل الانتقالية. ونظن أن معادلة تلك الثورات بالانقلابات أو الالتفاف كان أمرا ممكنا طالما أن الشعوب قد انصرفت عن هؤلاء الذين قاموا على تلك الثورات، ولكنهم انشغلوا واشتغلوا بالشأن السياسي وتفصيلاته دون الحديث عن ضرورات الجماهير ومطالبهم الأساسية.

فإذا نسي الثوار الجماهير نستهم الجماهير، جزاء وفاقا، يعبر عن الوعي الفطري لدى هذه الجماهير، وليس للنخبة في ذلك أن تحاول في سياق مداراة فشلها أو خيانتها أن تقدم المسوغات والمبررات، فتتهم الجماهير وتواصل حالة هجائها واتهامها، فيحكم ذلك معضلة انفضاض الجماهير عن الثورة والثوار، بل وتتراكم لديهم صورة سلبية حول أي تغيير.

هذا الدرس إنما يتعلق بعلاقة النخبة بالجماهير، فلا يمكن اتهام الجماهير بالجهل، ولا تمكن تبرئة النخبة من حال فشلها أو ممارساتها التي تمكن لقابليات الانقضاض على الثورة أو الالتفاف عليها.

أما الدرس الخامس؛ فإنه يتعلق بتصور الثورات لدور الخارج (الإقليمي والدولي) في محاولة الانقضاض أو الالتفاف عليها، وربما يتمثل ذلك في تمكن التفسير بالمؤامرة من هذه العقليات، من دون أن تفطن إلى سنّة ماضية بأن الخارج لا يمكن له التمكّن من الداخل إلا بمقدار ما يمكّن له الداخل من أدوات ومن ممارسات.

وإن الأمر الذي يتعلق بصناعة الفرقة والفوضى للانقضاض على الثورات إنما يشكل في حقيقة الأمر بيئة خصبة لإجهاض هذه الثورات، وهو أمر يجب أن يتفهمه هؤلاء الذين يقومون على عمليات التغيير، فيأخذون في اعتبارهم كل تلك المعطيات ويسدون المنافذ ويرابطون على الثغور، محافظين على حياض الثورة الحقيقية، وحامين لكل مساراتها في التغيير لمصلحة الجماهير التي قامت من أجلها الثورة، فتتحاشى بذلك كل عوامل الإجهاض وكل مسالك الإجهاد، وتمكن لمساراتها التغييرية وفق رؤية استراتيجية تستند إلى أرضية من التوافق، وظهير شعبي داعم.

ومن هنا فإن الأمر يقع وتتكرر شواهده من خلال تلك الانقلابات المأجورة المصطنعة، وهي إذ تقوم بقطع الطريق على كل مسارات الانتقال السياسي والديمقراطي فإنها بذلك تعتدي على المواطنة وحقوقها فتجعلها مهدورة، وتواصل عملها في تمكين المستبدين في قهر الوطن والمواطنين؛ فتنتج مواطنة مقهورة.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)

خبر عاجل