جرَّدنا بمقال سابق(1) ملامح المتتالية النماذجيَّة مزدوجة الرأس، لما سُمي بحركة "التجديد" النيوسلفيَّة- الوهابيَّة، التي يمكن إرجاعها إلى محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، وورثتهما. وأشرنا إلى الخطوط العريضة، التي جعلَت مقدرة هذه المتتالية التفسيريَّة كاشفة عن حجم العلمنة المشوِّهة لأنماط التديُّن السني الحديث، باسم "الإحياء". وتجلَّى لنا في المقالين السابقين كيف أن هذه المتتالية كانت سبباً ونتيجة -في الوقت ذاته - لتحطُّم تقاليدنا الفكريَّة السنيَّة بيد قُطبي حركة الإحياء النيوسلفي، مما سلَبنا هذه التقاليد/ الأدوات، وجعلنا عُرضة لكل ما يُلقى إلينا مما لا نستطيع تفكيكه -ودع عنك نقده - بل وحبسنا داخل التقاليد الفكريَّة للحداثة الكُفريَّة، ومقولاتها وتصوراتها، مع تمام العجز عن إدراك ذلك.
وبداهة، يصير المسلك التالي على هذا "الاكتشاف" المفجِع، هو التفكير جديّاً في كيفيَّة إعادة بناء تقاليد الإسلام الفكريَّة في المدار السُّني، حتى نستعيد أدواتنا الفكريَّة الخاصَّة، ونتمكَّن بها من مواجهة الواقع الذي فرضته علينا صَولَة الحداثة وهيمنتها الكاملة، تطلُّعاً إلى تجاوز إخفاقات الماضي القريب، التي ما زالت تتكرر بسبب القطيعة التاريخية التي كرَّسها نمط "الإحياء" المذكور. وعليه تبلوَر إدراكنا بأن أكثر الإنتاج الذي نُطلق عليه: "الفكر الإسلامي الحديث" ليس - في حقيقته - سوى انعكاسٍ رديء للواقع المادي المتردي، فهو يفتقر إلى الخيال كما يفتقِرُ إلى الميتافيزيقا، خصوصاً ما يُسمَّى بـ"الفكر السياسي السنِّي الحديث"(2).
وبما أن إعادة بناء التقاليد الفكريَّة الإسلاميَّة - في السياق السُّني - قد انطلَقَت من بلورة وعينا بكيفيَّة تحطُّم هذه التقاليد، وبحجم العلمنة التي سَطَت علينا في غيابها؛ فإننا سنتلو تجريدنا الآنف لمتتالية تحطيم هذه التقاليد، بوضع معالم النموذج الذي يمكننا إعادة البناء من خلاله، وذلك على صورة مُتتالية من ثلاث مراحل: أولها تحرير نقطة ارتكاز النسق الجديد، وثانيها بيان المُنطلق المعرفي لحركة هذا النسق، وثالثها كشف مسار حركة النسق نفسه - جوانيّاً وبرانيّاً - إلى الوجهة الوحيدة التي تنسَجمُ مع مُرتكزه ومُنطلقه.
وما ذلك الإطار العريض - قليل التفاصيل - إلا لأن عمليَّة إعادة البناء ليست عكساً لمفعول بعض الإجراءات، أو حتى قلباً لمحتوى بعض الأفكار، كما أنها ليست صياغة لمنظومات نظريَّة استباقيَّة، وإنما هي عمليَّة سوسيومعرفيَّة دائمة، ونشاط حركي حي لا يُمكننا اعتسافه في ردود فعل قاصرة على التحطُّم.
جليٌّ أن مُرتكز كل شيء في الإسلام هو الوحي الإلهي، ممثلاً في القرآن والسُّنَّة، ومن ثم؛ فلا غرو أن يكون هو مرتكز أيَّة أنساقٍ فكريَّة- حركيَّة أو أيَّة تيارات سوسيومعرفية تبتغي استعادة هذه الأمَّة إلى عالم الشهود. وبما أن الوحي هو المرتكز الوحيد المُرتضى للمسلم وفكره وحركته، يصير جوهر هذا الوحي ولبه وعصب تكوينه، ممثلاً في مبدأ التوحيد؛ هو المنطلَق المعرفي لأي نشاط في الإسلام، جوانيّاً كان أو برانيّاً. ولأن المرتكز الموحَى به من خارج التاريخ، هو الذي أملى علينا المنطلَق الوحيد المُرتضى لنشاط المسلم داخل التاريخ؛ فإن هذا المنطلَق بدوره هو الذي يُحدد وجهة النسق الحركي- المعرفي تلقائيّاً ونمط حركته، بوصفه نسقاً بشريّاً يتحرَّك - داخل التاريخ - من الجواني إلى البراني، امتثالاً لأمر الله وابتغاء مرضاته، بما أنه لا يتغيَّا سوى العودة إليه سبحانه في يوم معلوم (اليوم الآخر/ المعاد) خارج التاريخ.
ولكل مرحلة - من مراحل هذه المتتالية - لازم لا ينفك عنها، بل تُعجزها الاستقامة دونه؛ إذ يلزَم لتحرير المرتكز إدراك حاد ودائم بأنه ليس مُرتكزاً نظريّاً للحركة، ولا "نظريَّة استباقية"؛ فقد تنزَّل الوحي موافقاً لحاجة الأمَّة التاريخيَّة الحقيقية، التي تتبدَّى لها حين تتحرَّك حركتها الإيمانية المقدورة - رجوعاً/ عروجاً إلى الله - سواء إبَّان لحظتها النبويَّة النماذجيَّة، أو خلال الحقب التاريخيَّة التالية، التي يُعاد فيها إنتاج نفس اللحظة النماذجية في الواقع.
أما بيان المنطلَق وتصحيحه، فلا يكون إلا بحُسن فهم الطبيعة الربانية للمرتكز المتجاوز للتاريخ، وهو فهم يولِّدُ إيماناً بأن التوحيد ليس رد فعل على أي شيء بشري، بما أن التوحيد هو الأصل الإلهي لكل شيء، وما عداه من أوهام البشر مجرَّد تغييب للأصل، بحجب النفس البشريَّة عنه؛ لتَضِلَّ الطريق. ومن ثم، فإن تقاليد الإسلام لا تُبنى انطلاقاً من كونها ردود فعل على أي شيء بالمرَّة، لا على "هجمة الحداثة" ولا على "التهديد الإمبريالي".. إلخ، وإنما تُبنى أنساقها من أسفل إلى أعلى، ومن النفس إلى المجتمع، ومن نُقطة توقف الوحي واكتمال الدين في الواقع النبوي، ومحاولة تحقيقه في الأنفس والمجتمعات، عروجاً إلى الله يمرُّ بكافَّة اللحظات النماذجيَّة السابقة. فإذا بلغنا مرحلة العمل على استقامة مسار الحركة على المنطلَق التوحيدي؛ فإن هذا يَستلزِم تمام الإيمان بأن حركة المسلم - داخل التاريخ - هي في أصلها تبعٌ لمنطلَقه التوحيدي بالكليَّة وقصدٌ إلى الغاية - المتجاوزة للتاريخ - التي يُعيِّنها هذا المنطلَق، وهو ما يلزمه كسر كافَّة الأنساق التاريخية المناوئة، التي تعوق حركة التوحيد في الوجود وفي النفوس، حتى تتحرَّر حركته بتحرُّر النفوس البشريَّة مما يطغى على وعيها، فيُخاطبها بغير حُجُب؛ ليصير التعاطي معه في نور الفطرة بغير تشويش من الطواغيت.
وقد يبدو هذا كله بدهيّاً، بيد أنه ليس بالميسور تحقُّقه؛ إذ أن التحقُّق بالتوحيد طريق لا غاية، ومكابدة لا وصول معها، إلا يوم يأتي تأويله. وهذا كله يعني استحالة إعادة بناء تقاليد الإسلام في مقال، أو حتى في عدَّة كتب، وإنما يكفينا الاجتهاد لتعيين وجهة الحركة، وأدواتها وإطارها فحسب، حتى إن كانت شظايا تقاليدنا المحطَّمة كاشفة عن المعالم الرئيسة للنشاط السوسيومعرفي "المطلوب" - لجمع هذه الشظايا! - فإن مبلغ استطاعة أي مفكر - مهما كان - هو تعيين المبادئ العامة والمنطلقات الأساسيَّة والمسارات الممكنة، حتى تشيع الوجهة بما فيه الكفاية؛ فيتيسَّر بذلك - إن شاء الله - تبلور تيار سوسيومعرفي يولِّد حركة برانية، تنبني على الحركة الجوانية التي امتلأت بها نفوس المخلصين.
وإذا كانت إعادة بناء تقاليد الإسلام الفكريَّة، لا يكفيها محض إدراكنا لحجم العَلمَنة في أنساق جمهرة مفكري الإسلام إبَّان القرن العشرين؛ فإن من الواجب علينا تقويض احتكار هذه الأنساق للمجالين الفكري والحركي. وأن تكون أولى أولويات مُتتالية إعادة البناء، وأهم مُقدماتها هي: كسر الثنائيَّة الصلبة لحصر اختيار الأمة بين الإسلاميين والطواغيت؛ فإن القَبول المبدئي بهذا الاحتكار يعني إعادة إنتاجنا لذات الذهنيَّة وذات الأزمة(3)، التي لا زلنا نُراوِح خلف قضبانها إلى اليوم. أن يصير اختيارنا البدهي للإسلام مبنيّاً على توجيه الإمام علي عليه السلام: "اعرف الحق؛ تعرِف أهله"، لا أن نتوهَّم الحق في قومٍ لمجرَّد تدلي لحاهم فوق صدورهم، أو بسبب "مُعارَضتهم" العلنيَّة للباطِل، أو حتى لحرصهم على صلاة الجماعة؛ فإنه معيارٌ لم يقبله الفاروق عمر رضي الله عنه، وما وَسِعه إلا السخرية ممن توهَّم فيه الصحَّة. وهو معنى ترسَّخ مع جمهرة من أفذاذ "المتأخرين"، كما تجد في مقولة أبي حامد الغزالي (في سِفره الماتِع: المنقذ من الضلال): "فمهما نسبت الكلام وأسندتهُ إلى قائِل حَسُنَ فيه اعتقادُهم؛ قَبِلوه وإن كان باطلاً. وإن أسندتهُ إلى من ساءَ فيه اعتقادُهم؛ ردُّوه وإن كان حقّاً. فأبداً يعرِفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق؛ وهو غاية الضلال"!
وقد أثبتت التجربة أن ضلال الحداثة قد سِيق إلى مخادعنا على يد قطاع أكثريته الكاسحة دراويش سُذَّج، وبقيَّته الباقية مُجرَّد انعكاسات رديئة للطواغيت تتزيَّا بزي الشرع.
وإن إعادة بناء تقاليدنا الفكريَّة لن يكون بِلَوْكِ بعض المقولات التُّراثيَّة، ولا حتى باستيراد أُطُرٍ جاهزة مما يَحفِلُ به هذا التُّراث الغني، وإنما بنَفض الغُبار عن اﻵلات المنهجيَّة التي وُلِدَت بيننا قبل تحطُّم رؤيتنا الكونيَّة، وجلائها، وإعادة الاعتبار لها، ثم زيادة مقدرتها بإثرائها بمقولات جديدة تصدُر عن حُسن إدراكنا للموقِف الملتَبِس، الذي آل إليه تاريخُنا في اللحظة الراهنة. ولهذا، كان حُسن إدراك اللحظة اﻵنيَّة، وتركيبيَّة هذا الإدراك هي أيضاً الخطوة التمهيديَّة الطبيعية لمتتاليتنا المستمرة، التي قد لا نشهَدُ نهايتها، بيد أن علينا دوراً نؤديه فيها، وما تعبَّدنا الله بأكثر من ذلك.
يبقى أن أهم ما يحتاجه "الفكر السني" - في مرحلة إعادة بناء تقاليده - هو جرعة ميتافيزيقيَّة تهوِّن الواقعيَّة الماديَّة البغيضة، التي جعَلَت الوجود كلَّه - لا الفعل السياسي وحده - عالةً على عالم الشهود؛ جرعة تجعل الفعل السياسي يصدُر بالأصل عن دوافع جوانيَّة، يُحفِّزها الغيب لتطَّرِد بذلك مع روح الإسلام وأصله، وتفتح باباً لاستعادة حقيقته "الماديَّة" في عالم الشهود، الذي أثقَلَتهُ آثامُ الحداثة وأنهكته روحُ الشِرك المتأصِّلة فيها. وما من سبيل لنتزود بمثل هذه الجرعة - بانتظام - سوى بأن تصير متتالية البناء أداة عباديَّة عرفانيَّة، تنفَصِلُ عن المصالح الماديَّة/ الحضاريَّة الآنيَّة؛ فتُغير وجهة الفاعل المسلم من الأرض إلى السماء.
__________
(1) يُراجَع مقالنا المعنوَن: "كيف حطمت السلفية تقاليدنا الإسلامية؟"، على هذا الموقع نفسه.
(2) لمزيد من التفاصيل؛ تُراجع مقدمتنا لكتاب: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م).
(3) راجع مقالنا المعنوَن: "وهم الاستقطاب الأيديولوجي"، على هذا الموقع نفسه.
1
شارك
التعليقات (1)
السيد عبدالعال
الأحد، 01-08-202101:39 ص
اسلوبك في الكتابه يفتقر الي السلاسه والتبسيط ويجنح الي التقعر والتعقيد