قضايا وآراء

كيف حطَّمت السلفيَّة تقاليدنا الإسلاميَّة؟

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600

سلف منا القول - في مقالنا السابق - أن تمام استيعابنا داخل الحداثة حقيقة مفجعة، شوَّشت على كل المطالِب والأسئلة والمنطَلَقات، التي سألتها الأمَّة وهي تحاول استجماع نفسها. وقد جعل هذا الاستيعاب من "الصراع" بين المتدينين والعلمانيين - في حقيقته وجوهره - مجرَّد معركة بائسة بين ديباجات جوفاء، لطرفين مشوَّهين داخل سياق الحداثة، ومماحكة بين آليتين من آلياتها، على عكس الشائع من كونها معركة على "قبول" الحداثة من عدمه. وأشرنا إلى أن ذلك كله كان نتيجة طبيعيَّة للعلمَنَة البنيويَّة الكاسحة، التي طالَت الدين والتديُّن على يد حركة الإحياء "النيوسلفيَّة"، وذلك بما أنها علمنَة على الطراز الأنغلوسكسوني؛ تُفرِغ البِنى من حمولتها وتُعيد تعبئتها بحمولات جديدة، مع حفظ الظاهر كما هو، وعدم المساس بالشفرات الدالَّة، التي لم تَعُد تدُلُّ على شيء مما أفعمت به أصولها.

وبالتالي، فمن البديهي أن يُفضي مثل هذا "الاكتشاف" - عند الباحث المتأمل البصير - إلى إدراك أن أكثر الإنتاج الذي نُطلق عليه: "الفكر الإسلامي الحديث" ليس - في حقيقته - سوى انعكاسٍ رديء للواقع المادي المتردي، فلا خيال ولا حتى ميتافيزيقا، خصوصاً في حالة "الفكر السياسي السنّي الحديث". وهو مآل طبيعي لتحطُّم تقاليدنا الفكريَّة السنيَّة بيد حركة الإحياء النيوسلفي قبل حوالي القرن، مما جعلنا عُراة تقريباً، وعُرضة لكل مغامر يُلقي إلينا - من مراحيض الحداثة - ما لا نستطيع تفكيكه ولا نقده، بل ما قد يتلقَّاه السذَّج بالفخار إذا دُثِّرَ بدثار الإسلام، وقيل لهم إن "دين الله" كان سبَّاقاً إلى العلم والديمقراطية والرأسمالية والليبرالية، وسائر الترهات التي تُسعد المهزومين نفسيّاً.

وعليه، فإن المسلَك الطبيعي لأي مُشتَغِل جاد بالعلوم الشرعيَّة أو "الإنسانية"، وكل مهموم بحياة هذه الأمة واستقامة أمرها؛ يصير هو التفكير في كيفيَّة إعادة بناء تقاليد الإسلام الفكريَّة في المدار السُّني، حتى نمتلِك أدواتنا الفكريَّة الخاصَّة، ونتمكَّن بها من مواجهة الواقع الذي فرضته علينا صولَة الحداثة، تطلُّعاً إلى تجاوز إخفاقات الماضي التي ما زالت تتكرر بابتذال مُفجع. 

بيد أن إعادة بناء تقاليد الإسلام الفكريَّة - الذي سنُخصص له مقالنا القادِم - يلزمه أولاً تبلور إدراكنا لأسباب تحطُّمها، وأن هذا التحطُّم لم يكن مرجعه العقْلَنة البارِدة الموروثة لما يُسميه بعضهم بـ"الواقعيَّة السنيَّة" المتأصلة تاريخيّاً(1)، ولا هجمة الحداثة فحسب، وإنما كان الفاعل الرئيس في هذا التحطُّم هو "القابليَّة للتحديث/ العلمنة"، التي أدَّى إليها نمط "الإحياء" النيوسلفي- الوهابي بطهوريَّته المُضَلِّلَة، التي تتحرَّك مع الحداثة في نفس الاتجاه، خصوصاً في شبقهما المَرَضي بالبراني على حساب الجواني؛ ليُحَطِّمَ كل تقليد، وهو عاجزٌ عجزاً مُشيناً عن إعادة البناء، لفقر أدواته وضحالة خياله، والقطيعة التاريخيَّة التي يُكرِّسها في وجدان الأمَّة.

وبعبارةٍ أخرى، فإن إعادة بناء التقاليد الفكريَّة الإسلاميَّة - في السياق السُّني - يجب أن تنطَلِق من وعينا بأن ما سُمي بحركة "التجديد" النيوسلفيَّة- الوهابيَّة، التي بدأت مع رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، واطَّرَدَت طيلة قرن مع ورثتهما، الإخوان المسلمين (خصوصاً عن طريق الغزالي)، والجيوب والتيارات السلفية المختلفة (خصوصاً عن طريق الألباني)؛ هي التي مهَّدَت لهذا التشظي الكارِثي، وفتحت أبوابنا لجرثومة الحداثة، بعد تقويض مناعتنا بالكامِل. وقد كانت إشاعةُ هذا النمط من "التديُّن" بالتمويل السعودي، وعلى أجنِحَة شبكات المصالح المشبوهة، التي شكَّلها الإخوان المسلمون وجماعة المودودي، وتحرَّكوا من خلالها - طيلة ثلاثة عقود على الأقل - هي القشَّة التي قصمت ظهر البعير، وآلَت بهذا النمط لا إلى تحطيم تقاليدنا فحسب، بل وإلى تحطيم عين المقدِرَة على التديُّن، بعد تحطُّم مبدأ التقليد نفسه؛ ليُفضي بنا إلى موجة شَرِسة من الإلحاد والتفلُّت والمروق، وهي موجة تحتاجُ لعلاجٍ روحي- نفسي وترميم اجتماعي، لا إلى لغوٍ فلسفي- كلامي ساذج، أو سفسطات فقهيَّة تزيدُ الطين بلَّة. والعجيب، بل والمثير للتساؤل والريبة؛ أن من حطَّم مبدأ التقليد في الممارسة الدينيَّة، هو هو عين من كرَّسه تكريساً وثنيّاً مُقززاً في العمل السياسي، بعد الفصل بينهما.

ولهذا، فسنُخصص الفقرات التالية لتجريد وبيان بعض معالم نموذجي "التجديد" النيوسلفي- الحداثي، حتى يُدرِك القارئ طبيعة المؤثرات التي بثَّها هذا النمطُ، في الأنفُس وفي المجتمعات؛ لتُثمِرَ هذه الثمرة المُرّة: تحطُّم تقاليد الإسلام في المجال السُّني، وعجزنا عن استعادتها إلى اليوم، ومن ثم استمرار استعبادنا للحداثة ومقولاتها -بدثار إسلامي - وفشل كل محاولاتنا الانسلاخ منها.

وعندنا أن ثمَّة معالم ثلاثة لكل نموذج منهما، قد تجعلهما يَبدوانِ للوهلة الأولى كأنهما مُتعارِضان؛ بيد أنها تَصُبُّ جميعاً في تكريس نموذجٍ واحدٍ يُقوِّض تقاليد الإسلام، ويجعل حركة المنتَمين إليه بلا مركز حقيقي، ومن ثم يُهيئهم لقَبول تشوُّه الواقع كما هو، بعد ستر قُبحه ببعض الديباجات والألفاظ الشرعيَّة.

وسيجد القارئ أن كل عُنصرٍ/ مَعْلَمٍ من مكونات النموذج ليس مُنفصِلاً، أو شبه مُستَقِلٍّ عن غيره؛ بل إنها تُمثِّلُ مجتمعةً - في داخل كل سياقٍ منهما - مُتتالية نماذجيَّة واضحة، يُغذِّي كل منها ما بعده ويرفده؛ لتطَّرِد بها أنساقهما في جمهرة تراثهما المدوَّن، كما اطَّرَدت - بدرجةٍ أكبر - في سلوكهما "السياسي".

أول هذه المعالم/ الفروق بين النموذجين هي أن لكلٍّ منهما تركيبته للواقع الطهوري الفردوسي، الذي يتوهَّمه للإسلام؛ فإذا كان نموذج رشيد رضا هو ما نُسميه بـ"الأصوليَّة العروبيَّة" المشرَبة بكثيرٍ من العناصر الحداثيَّة، التي تُحطِّمُ وتُقصي العناصر الفكريَّة والسياسيَّة، التي يعتبرها رضا "غير عربيَّة"؛ فإن مُقارَبة محب الدين الخطيب "عرقيَّة عربيَّة"، تسعى لتهميش كل الأعراق والأقوام من "غير العرب"، بحسب تصنيفه هو وفهمه - الإثني المقزِّز - للعروبة، في "حضارةٍ" كان الاختلاط العرقي بغير حزازات أحد أبرز إضافاتها للتاريخ الإنساني، حتى ذابَت قريش نفسها في أُمَمٍ شتى - وقبلها ذؤابتها (آل البيت المطهَّر) - وذاب معها اشتراطُ القُرَشيَّةِ، الذي أصرَّ عليه فُقهاء السياسة المتقدِّمون.

ويتجلَّى هذا الفارِق - مثلاً - في ثناء رشيد رضا على الأتراك وانحيازه الواضح لهم، حتى بعد الانقلاب الكمالي، رغم أنه ظلَّ يحتَفِظ في نسقه بمكانة عالية للعرب والعروبة. وذلك في حين كان محب الدين الخطيب عدوّاً شرساً للتُّرك، بتأثير تتلمُذه بحلقة الشيخ طاهر الجزائري في الشام، التي كانت أسبَق البؤر الثقافيَّة - على الإطلاق - في بلورة ما يُشبِه "أيديولوجيَّة قوميَّة عربيَّة" حديثة، في مواجهة "الأيديولوجية الطورانيَّة"، وسياسة التتريك العثمانيَّة المتأخرة.

وثاني هذه الافتراقات/ المعالم أن نموذج رشيد رضا - بطهوريَّته الفكريَّة - حين يَطَّرِد ساعياً إلى ذروته، ويقترِب تنظيره من كشف غاياته "التجديديَّة"؛ يَغلِبُ عليه النقدُ العنيفُ للأمويين وبُغضهم، بوصفهم أصحاب بِدعَةٍ خَطِرةٍ قَوَّضَت بُنيان الخلافة الراشدة، وسَنَّت سُنَّة المُلك الإجراميَّة في تاريخنا. أما نموذج محب الدين الخطيب -بطهوريَّته العرقيَّة - فحين يَطَّرِدُ ساعياً إلى ذروته، ويقتَرِبُ بتخرُّصاته من واقعٍ يرى فيه تجسُّداً برانيّاً مأمولاً؛ فإن موجة الغلو في تقديس الأمويين تعلو في نسقه حتى يكاد القارئ المؤمن يختَنِق بها، إذ تُجسِّد مثالاً فجّاً على امتزاج وجدان مُنحرِف بـ"شعوبيَّة مضادة"، وقد تدثَّر المزيج بإطارٍ قومي عرقي حديث.

وهذا ما يُفسِّرُ لنا - مثلاً - تلاقي رشيد رضا الفكري مع الشيعة العرب - خصوصاً من العراقيين - ردحاً من الزمن، قبل أن يَنقَلِب عليهم لأسباب لا يتَّسِع لها المجال ها هُنا، بينما كانت الشحنة القوميَّة العرقيَّة في وجدان الخطيب تُزوِّرُ التشيُّع ابتداءً بوصفه بِدعَة فارسيَّة، ومن ثم؛ فهو يَصطَحِبُ بنية "الأيديولوجيَّة القوميَّة" التي بلورها شيخه في مواجهة التُّرك، ويُعيد تعبئتها في مواجهة الفُرس ولو بالتدليس، تأصيلاً للعداء الذي لم يَعُد عداءً لبدعة متوهَّمة فحسب، وإنما لأنها عنده "بدعة" غير عربيَّة!

أما ثالث مراحل هذه المتتالية، وثمرة افتراق النموذجين؛ فهو المآل الطبيعي الذي يؤول إليه كل نموذج، إذ تصير سلفيَّة رشيد رضا أميل كثيراً للتسييس "الحُر"، الذي تُحاوِل أن تُهيئ له الواقع نظريّاً - باستعادة العناصر الفكريَّة "العربيَّة" المحفِّزَة - بينما نجد سلفيَّة الخطيب تكاد تُكرِّسُ الإذعان المطلَق للمُتغلِّب - إن صحَّت "عروبته" عنده! - وتجعل السمع والطاعة له ديناً. وهو السبب المباشِر في تخلي عبد العزيز آل سعود مُبكراً عن رشيد رضا، واستمرار احتضان ابنه فيصل لمحب الدين الخطيب وكتاباته، حتى شرع باستعمال الإخوان إبَّان الستينيات.

هذه المتتالية تُفسِّر لنا - مثلاً - لِمَ يَسهُل توظيف ما بقي من مُحب الدين الخطيب سياسيّاً، لحساب القائم بترشيد الواقع، بينما لا يَسهُل ذلك على من أراد توظيف رشيد رضا. فإن نسق الخطيب يقوِّض مقدرته الذاتيَّة على التسييس، ويجعل دمجه في أي نسق سياسي ميسوراً، في حين يحتفِظ رشيد رضا بمقدرة نسقه على التسييس الذاتي، مما يُنفِّر منه السياسيين المحدَثين. كذلك تمنحنا المتتالية نفسها إطلالةً على أهمية دراسة اجتماع المؤثرين في نفس حسن البنا، رحمه الله؛ لفهم كيفيَّة صياغته لحركته وتوجيهه لها بهذين الرافدين، وهو موضوع لا محلَّ للتفصيل فيه ها هُنا.

وإذا كانت المقدرة التفسيريَّة لهذه المتتالية النماذجيَّة المزدوجة، كاشفة عن حجم التشوه في أنماط التديُّن السني الحديث، فإنها تطوي كذلك شظايا تقاليدنا المحطَّمة، علاوة على المعالم الرئيسة للنشاط السوسيومعرفي المطلوب لجمع هذه الشظايا، وإعادة بناء تقاليدنا الإسلاميَّة مرَّة أخرى. وإذا كان الواجب علينا ها هُنا التأكيد على أن عكس مفعول بعض الإجراءات والأفكار لن يكفي لإعادة بناء هذه التقاليد، وليس هو المطلوب؛ فإن تقريرنا أن تقاليد الإسلام لا تُبنى بوصفها ردود أفعال، وإنما تُبنى أنساقها من أسفل إلى أعلى، من نقطة الوحي؛ لا يعني أننا سنُعيد بناءها في مقال واحد - فهذا من قبيل الطموح الساذج - وإنما يعني أننا سنجتهد لتعيين وجهة البناء وأدواته وإطاره فحسب، وهذا ما سنُخصص له مقالنا القادم إن شاء الله تعالى.

__________
(1) للتفرِقة بين "الواقعية السنية" و"المثالية الشيعيَّة"، ومصادرهما ومآلاتهما؛ يُراجع: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م)، خصوصاً الفصل الخامس.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

التعليقات (0)