قضايا وآراء

رسالةُ الجامعة وقيمُها

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
تعود مناسبة اختياري موضوع هذا المقال إلى حديث شيق وعميق جرى بيني وبين صديق هذا الصباح، نتقاسم تجربة محبة وتقدير لما يقترب من أربعين سنة، زاولنا خلالها مهنة التعليم العالي كل من زاوية تخصصه، وخبرنا دروب البحث العلمي ومتعه ومتاعبه. ولم نكن بعيدين عن نبض المجتمع وأسئلته، كما لم تكن هويتنا سجينة بلدنا المغرب، بل تجاوزتها إلى ما له صله بدائرتنا الحضارية والتاريخية، والأكثر من هذا، ننتمي سويا، وإن كان يكبرني بعشر سنوات، إلى جيل واكب الجامعة المغربية في صعودها وتألقها، وعشنا بدايات التغيرات القيمية التي ألمّت بمؤسساتها، ولا نعرف على وجه اليقين إلى أين ستؤول بها مستقبلا.

تركَّز نقاشُنا حول الأدوار المنوطة بالجامعة، والقيم الواجبة لتأطير نشاطها، وعلاقات مكوناتها، كما تمحور حديثُنا حول الرسالة التي شكّلت مصدر نشوء فكرة الجامعة في مجالنا الحضاري العربي الإسلامي، ولاحقا في أوروبا والغرب منذ العصر اللاتيني الوسيط (ق. 13)، أي التحصيل العلمي والمعرفي، والتنوير العقلي والفكري.

ولأن الجامعة المغربية حديثة النشأة، إذا استثنينا جامعة القرويين، حيث يعود تاريخ تأسيسها إلى السنوات الأولى بعد استقلال المغرب، فقد ظلت على امتداد عدة عقود مجالا مميزا للتحصيل، ونشر المعرفة، وتكوين الكفاءات التي كانت البلاد في حاجة ماسة إليها، بسبب الفراغ الذي تركه الاستعمار الفرنسي في كافة الميادين.

كما أن الجامعة، وبدرجة أساسية مؤسسات العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثلت مشاتل لتكوين النخب السياسية والاقتصادية والإدارية والثقافية، التي تبوأ العديد من أعضائها مواقع مفصلية في إدارة الشأن العام. بيد أن الجامعة المغربية، ولعلها الخلاصة البارزة التي اهتدى إليها حديثنا، شرعت في الابتعاد عن رسالتها النبيلة في التكوين والتنوير، كما تعرضت قيمها بالتدريج، وفي الكثير من الأحيان بشكل مُمنهج وإرادي، إلى التبديد والضمور، لا سيما قيم الولاء، والنزاهة، والمساواة، والتكافؤ في القيام بالواجب، والشعور بالمسؤولية المهنية.

إن استنتاج وجود تغيّر هيكلي في منظومة قيم الجامعة المغربية، وتراجع واضح في الوفاء لرسالتها، لا يحجب، ولن يحجب، الجهود المتواصلة المبذولة من قبل كفاءات نذرت حياتها لإغماء العطاء العلمي دون توقف ولا كلل، بل، بالعكس، يؤكد حقيقة أن الجامعة المغربية تحتاج إلى حركة جدية ومسؤولة لإعادة الاعتبار لرصيدها التاريخي، وتوفير شروط بيئة حاضنة للمشتغلين في مؤسساتها، عبر تثمين الإنجازات والمبادرات، وتقوية الممارسات المثلى والأفكار الخلاقة، وفتح المجال أمام التنافس العلمي المتكافئ، وترسيخ آليات التقييم والتقويم، والمساءلة والمحاسبة في الأداء والتدبير والتسيير.

سألت صديقي، في سياق هذا الحديث العميق والشيق، عن مصادر المواجع التي ألمّت بالجامعة، وعن الأسباب التي أدخلتها في مسارات أقل ما يقال عنها أنها أضعفتها، وحالت بينها وبين مواصلة مسيرتها التنويرية، والنجاح في إقامة مجتمع المعرفة. كان جوابه، وقد وجدت نفسي مشاطرا رأيه ومقتسما استنتاجه، أن ثمة نمطا من "الأستاذ" أو "الأستاذية" شرع في التكوّن، والاستقرار في جسم الجامعة وروح مؤسساتها.

سألته مرة أخرى عن الخصائص المميزة لهذا النمط الجديد من "الأستاذ" أو "الأستاذية"، فكان جوابه - دون أن يعتمد التعميم، وهو مدرك أن الظاهرة نسبية وفي بداية تشكلها - أن ثمة "جيلا" من المتعلمين، الحاصلين على شهادات عليا، دخل عدد منهم رحاب الجامعة على سبيل الخطأ، أو لم يكن يظنون أنهم سيلتحقون بمهنة التدريس الجامعي. كما أن فئة منهم وفدت على الجامعة من مهن ليس لها نصيب من قيم الجامعة، حتى وإن كانت مؤسسات تعليمية. ولأنهم من هذه الطينة، فقد وجدوا أنفسهم في ميدان غير مستوعبين طبيعة رسالته، ونوعية قيمه، فساهموا من حيث يدرون أو لا يدرون في ما آلت إليه الجامعة وأوضاعها.

قادنا النقاش إلى خلاصة مفادها أن الأمر لا يتعلق بـ"تعاقب الأجيال"، لأن القيم، ومنها قيم الجامعة، عابرة للأجيال، وليست مرتبطة بجيل دون آخر، وهو ما دفعنا إلى الاقتناع بأن تغير قيم الجامعة غير مفصول عن تغير قيم المجتمع المغربي ككل.

فالجامعة ظلت على الدوام صدى لما يعتمل داخل المجتمع، وحيث أن المغرب شهد سيرورة تغير قيم مجتمعه منذ أواسط السبعينيات، وتحديدا مع ثمانينيات القرن الماضي، وهو ما أكده تقرير القيم لعام 2004. فقد دخلت الجامعة بدورها مدار التغير في القيم الناظمة لرسالتها وأدوارها، ودخلت رحابها مع أواخر القرن الماضي كوكبة المتشبعين بالقيم الجديدة للمجتمع المغربي، وفي صدارتها البحث عن الربح بأي ثمن، واختصار الزمن والوقت للوصول بسرعة، وعدم التردد أمام المغريات المادية ولو كانت فاسدة، وتبخيس الاجتهاد والجهد، ومحاربة النجاح، وتشجيع ثقافة الرداءة (médiocrité).

وقد شجع العالم الأزرق ووسائل التواصل الاجتماعي هذا النمط الجديد، حيث كثر الباحثون عن "تلميع الصورة"، والإكثار من الظهور في وسائل الإعلام دون احترام ذكاء المشاهدين، وفي أغلب الأحيان ليقولوا كل شيء، وفي الواقع لا يقولون أي شيء.

إن أخطر ما يمكن أن يترتب عن هذا النمط الجديد من "الأستاذ" أو "الأستاذية"، أن تضيع رسالة الجامعة، وتتبدد قيمها بشكل نهائي، وتتحول أدوارها إلى إنتاج آلاف الخريجين غير القادرين في عمومهم على خدمة البلاد والعباد، والأخطر إضفاء صفة "الأستاذية" على بعض المشتغلين بالصدفة في مؤسساتها، وإيهامهم بأنهم أساتذة جامعيون، والحال أنهم غير جديرين بهذا اللقب.
التعليقات (3)
همام الحارث
الخميس، 15-07-2021 04:21 ص
تعليق على عبارة "مهم أو واصل" الواردة في إسهام أبي العبد : هي تعني اختصاراً ( V.I.P) بالانجليزية و تفصيلها (very important person) أي شخص مهم جداً . من ملاحظة واقع هؤلاء الأشخاص و خاصة في بلدان العالم "الثالث عشر و ليس الثالث صدقاً " ، صار بعض شباب الانجليز الأذكياء الظرفاء يقولون أن تفصيل (V.I.P) الفعلي هو (very insignificant person) في الوضع الحالي أي شخص تافه قليل القيمة . الفيلسوف الكندي المعاصر ألان دونو من جامعة كيبيك قام بتأليف كتاب “نظام التفاهة و هو بالفرنسية ” (Mediocratie) . و لقد قامت الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري ابنة الكويت العزيزة "مشكورة" بترجمة الكتاب بطريقة احترافية . في الكتاب حديث عن قيام التافهين بمسخ الجامعات أو تحويلها من بداية مشرقة إلى نهاية محرقة . أنصح بتنزيل الكتاب من الانترنت و قراءته حيث فيه معلومات كاشفة عن مجالات حياتية متعددة – إلى جانب الأكاديميات - بأسلوب علمي بديع .
أبو العبد الحلبي
الثلاثاء، 13-07-2021 04:05 م
أبدأ تعليقي باقتباس بيتي شعر من قصيدة (نكبة دمشق) لأمير الشعراء أحمد شوقي ، حيث يقول في بيتين منها ( فَمِن خِدَعِ السِياسَةِ أَن تُغَرّوا** بِأَلقابِ الإِمارَةِ وَهيَ رِقُّ . نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارًا ** وَلَكِن كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ ) . ما تقوله يا أستاذ دكتور أمحمد مالكي ينطبق ليس فقط على جامعة في المغرب العزيز على قلوبنا و إنما على كثير من الجامعات العربية بل و أحياناً بشكل أشد قسوة أي أن ” الهمَ واحد و الألم واحد” من مغرب الوطن العربي إلى مشرقه و من شماله إلى جنوبه . التعليم ، بشقيه المدرسي و الجامعي ، مستهدف بالسوء من جهات معادية لا تتمنى خيراً لأمتنا . تبدأ الخدعة في قطر من أقطارنا بترويج أن "الزعيم المفدى" يريد إنشاء "جامعة " تستقطب الخبرات و الكفاءات المحلية و العربية لتسهم في رفعة شأن البلد و تقدمه فيعتبر العقلاء أن البداية كانت "مشرقة " من حيث النية المعلنة . بعد ذلك ، يبدأ تدخل قسري خارجي في شؤون الجامعة من جهات ليست لديها خبرة سوى في الاستبداد. تتحكم هذه الجهات بالتعيينات والترقيات والمكافآت والمنح فتعطيها على أسس غير سليمة لأشخاص موالين سياسياً أو لأنهم من عائلة فلان أو بلدة كذا أو لأنهم أقارب أو أصهار لمن يوصف بأنه "مهم أو واصل" . هذه الجهات الخارجية المستبدة – التي لا تملك معرفة حقيقية بواقع الجامعة و كيفية تسييرها بالشكل الصائب - هي من تقوم بتعيين رأس هرم فاسد للجامعة يكون على شاكلتها. هذا الرأس غير الجدير بالمنصب ينطبق عليه وصف “ألقاب مملكة في غير موضعها” . بما أنه يفتقد الأهلية فسيقود الجامعة نحو النهاية التي ستكون "محرقة" و قد قال الشاعر الأعمى بشار بن بُرد عن خبرة " أعمَى يقودُ بصيراً، لا أبَا لكُم** قد ضَلَّ من كانت العُميانُ تَهديهِ". هي قيادة نحو الهاوية و يضاف إليها شعور بالقلق على المنصب "المختلس" و بالتالي ستوجد حاجة لتحويل الحرم الجامعي لوكر تجسس . من يرتضي لنفسه العبودية ، يتحول إلى جاسوس على زملائه يشي بهم بمختلف الطرق و من يأبى إلا أن يكون حراً مخلصاً لأمته يكون موضع مطاردة ساخنة للإيقاع به . الأول يتسلق السلَم و ينال مرتبة و الثاني يراوح مكانه و لا ينال حظوة . من محبة المرء لأمته و حرصه عليها ، ينبغي نصحها بأن لا تغتر بخدعة “جامعة” حيث ربما تكون بالفعل “كل شيء إلا جامعة” . أنهي التعليق بقصة مقتضبة : حين كان منصب رئيس جامعة شاغراً في مكان ما من سوريا ، انتظرت أسرة الجامعة قليلاً لتفاجئها “القيادة الحكيمة !” بتعيين تافه أزعر ، و أنا مضطر لهذين الوصفين لأن في عهده تحولت الجامعة إلى فرع من فروع المخابرات . المعذرة على الإطالة في موضوع لطالما قهرني ، اللهم إني أعوذ بك من قهر الرجال . آمين .
لاطرش محمد
الإثنين، 12-07-2021 08:39 م
تحليل مركز و تشخصي للوضع الكاريتي لما ال اليه التعليم الجامعي في بلادنا غير انه لابد أن نضيف الي ذلك التعديلات التي طالت في السنوات الأخيرة المخططات البيداغوجية التي تحاول كلها التركيز على تفريخ طلبة َمهيئن لولوج سوق الشغل