قضايا وآراء

أفغانستان وطالبان والأسئلة الخمسة

أحمد موفق زيدان
1300x600
1300x600
بقدر السقوط السريع المفاجئ لحركة طالبان عشية الغزو الأمريكي لأفغانستان نهاية عام 2001، كان الصعود الأسرع للحركة، الذي رافق الانسحاب الأمريكي في أيار/ مايو الماضي. ومع مرور عشرين عاماً على الغزو، يطرح بعضهم أسئلة عدة عن بلدٍ مزّقته الحروب لنصف قرن، وفي هذه المساحة المحدودة نحاول الإجابة عن أهم الأسئلة المتداولة:

1- لماذا فشل تحالف دولي مكوّن من 38 دولة بقيادة أمريكا ولعقدين من الزمن؛ في هزيمة حركة مقطوعة الدعم الخارجي؟

سؤال كبير، وبحاجة إلى كتب للغوص فيه، ولعل الزمن دواؤه، ولكن يمكن تجزئته إلى أجزاء، فجزء يخص الغازي، وآخر يخص المغزوّ، وثالث يخص الدولة المجاورة وهي باكستان.

فما يتعلق بالغازي اتضح أنه لم يتعلم من سلفه البريطاني في حروب ثلاث خاضها ليخرج كل مرة بدرس وحيد من أفغانستان؛ أنه لم يتعلم شيئاً! ثم جاءت التجربة السوفييتية الغضّة في أذهان العالم والأمريكيين تحديداً، فكانت العاقبة كعاقبة الإنجليز. وعام 2001 أصرّ الأمريكيون على تجريب حظهم، فكان الجواب ما ترون وما تسمعون، لخصه من قبل جنرال إنجليزي يوم غادر أفغانستان: "اليوم يعود كل شيء إلى ما كان عليه". أفغانستان أرض "غدّارة"، كما نعتتها رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر، ولكن مع هذا لا تُقاوم الدول الكبرى غواية غدرها.

أما ما يخصُّ المغزوّ، فلعلّ التركيبة الأفغانية القبلية المذهبية تفسّر ما حصل، يعززه كون القومية الأفغانية، بحسب خبراء الاجتماع، الأقوى عالمياً بعد القومية اليابانية. وتتجلى مرجعية الحركة بمدارس دينية توفر منتوجاً موحد العقيدة والفكر والرؤى، ضاربة جذوره بالمدارس النظامية البغدادية، وهو ما يعد أقرب إلى الكليات العسكرية، بحيث يتخرج الخريج مشبع الفكر والعقيدة والعداء للغزاة، مما يسهل على أي داعٍ للمقاومة أن يستثمره ويوظفه، وهو ما حصل تماماً في قتال ثلاثي لبريطانيا، ثم للسوفييت والآن للأمريكيين.

ووحدة القومية والتكوينية المدرسية ترافقت مع وحدة جغرافية، إذ تعد من أقدم دول العالم الثالث بحدودها الحالية التي تشكلت عام 1747، بينما كل دول العالم تأسست عقب الحروب العالمية الأولى والثانية. أما ما يتعلق بباكستان المجاورة فقد برعت في السير على خط مشدود؛ طرفاه التعاون مع الأمريكيين وتسهيل حركة عدوتهم طالبان لعشرين عاماً، وهو ما أثمر ما وقع اليوم.

2- ما هي مصادر قوة طالبان ومصادر ضعف خصومها؟

تكمن مصادر القوة الطالبانية في قوة دافعة يتمتع بها المجتمع الأفغاني، قوة موروثة بمقاومته الاحتلال والغزاة، فنجحت الحركة في استثماره، ومعه اعتمادها المرجعيتين القبلية والمذهبية المتناغمتين، وتحديداً المذهبية عبر مدارسها الدينية المنتشرة في كل من باكستان وأفغانستان. لكن شاهد سبحتها واحدٌ، مما وفّر لها المعين الذي لا ينضب من القوة البشرية المؤدلجة التي تنسجم وتتناغم معها تماماً، وبالتأكيد فإن الامتداد الباكستاني أمدّها بطاقة كبيرة، ووفّر لها عمقاً اجتماعياً ودينياً وقبلياً بل سياسياً.

ولذا فعلى الرغم من كل المضايقات الباكستانية بحقها، فإنها كانت تتغاضى عن كثير من تحركاتها عبر الحدود. وفي الوقت الذي كان معسكر خصومها شركاء متشاكسين، كان صفها يتميز بوحدة القيادة والقرار والضبط والالتزام، مستفيدة من تعليم صارم خضع له مقاتلوها الطلبة. ولذا لم نر أي انشقاق أو تصدع في صفوفها، على الرغم من سرية عمل دام عقدين، ومع كل الظروف الصعبة التي تعرضت لها، غير أنها لم تتعرض للانشقاق، وهي ظاهرة غير مسبوقة ربما في تاريخ الحركات المقاومة.

3- هل تستطيع طالبان العودة إلى الحكم؟ وما هي فرص بقائها في جو إقليمي ودولي معادٍ لها؟

طالبان التي يعلن قادتها اليوم أنهم باتوا يسيطرون على 85 في المئة من الأراضي الأفغانية، يواصلون تقدمهم، لكن يبقى أمام أفغانستان سيناريوهان رئيسيان؛ إما سيطرة طالبانية على كامل التراب الأفغاني في ظل الانهيارات التي فاجأت أكثر المتشائمين بمستقبلها، لا سيما أن الحكومة الأفغانية تفتقر لاستراتيجية مع سماحها بظهور مليشيات محلية لمواجهة طالبان، مما فُسر بأنه عجز حكومي عن المواجهة لوحدها، فهي على ما يبدو لا تزال تحلم بأن تُعيد واشنطن قرارها بالانسحاب. وفي هذا الجو لا يُستبعد أن تتمكن طالبان من رفع علمها على العاصمة ثانيةً، بعد أكثر من عشرين عاماً على رفعه. لكن ستظل مسألة بسط هيمنتها على كامل التراب الأفغاني محل تساؤل وشك، في ظل بوادر قوية لإصرار قوى التحالف الشمالي وامتداداته الخارجية على القتال.

وهذا يقودنا إلى السيناريو الثاني باندلاع حرب أهلية، وبتدخلات دول الجوار، لا سيما مع ما يراه بعضهم من أن ثمة لعبة إقليمية اليوم قد حلّت محلّ اللعبة الدولية. وهنا تبرز تحديات كبيرة أمام مقاتلي الحركة، على رأسها رد فعل روسيا وإيران والهند تجاه صعودهم الصاروخي وتأثيره على حلفائهم في الحكومة الحالية، لا سيما أن الرد الهندي كان عملياً؛ إذ تردد عن إلقاء عشرات الأطنان من الذخائر من الطائرات التي كانت تُجلي الدبلوماسيين الهنود من قندهار المهددة بالسقوط في أيدي طالبان، بينما لجأ وزير خارجية روسيا لافروف إلى التلويح باستخدام قواعد جوية في طاجكستان لحماية حلفائه في كابول.

أما من يراهن على المفاوضات التي تجري في طهران بين ممثلي الحركة والحكومة، أو تلك التي يتوسط فيها المبعوث الأمريكي زالماي خليل زادة، فهو ضرب من الخيال والسراب؛ فالحركة لم تؤمن يوماً بتقاسم السلطة، ومن الصعب على حركة ترى نفسها هزمت تحالفاً دولياً هو الأقوى من نوعه، منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية، أن تقبل بمشاركة السلطة مع من تخلى عنه الأمريكي نفسه، فهي ترى أنها صاحب الحق بالحكم الذي انتُزِع منها يوم خُلعت عن السلطة، وها هو الحق يعود لأهله كما عبر أحدهم.

4- هل ستعود القاعدة إلى أفغانستان؟

سؤال يُراود الجميع، لكن يمكن القول إن تنظيم القاعدة لم يعد قاعدة التسعينيات وما بعده، فالقاعدة اليوم نحَت منحى قتال العدو القريب، لا البعيد المشترك الذي طبع فلسفتها القتالية المستهدفة للغرب والأمريكيين. وتجلى ذلك في استراتيجيتها في العراق وسوريا واليمن، بل في أفريقيا وغيرها. والأمر الآخر أن الجيل القاعدي في أفغانستان اليوم تجاوز عمره الخمسين، ويفتقر إلى القدرة التعبوية التجنيدية، نظراً للبعد الجغرافي عن حاضنته العربية، حيث مكان تعبئته وحشده. وهو ما يجعل مهمته صعبة إن لم نقل مستحيلة، لا سيما أن الشخصية الكاريزمية التي كانت تتوافر في شخص أسامة بن لادن، لم تتوفر في قائد بعده، فضلاً عن تراجع أنموذج القاعدة نفسه لصالح انتفاضة الربيع العربي.

وباعتقادي فإن طالبان اليوم قد تحللت من علاقتها مع القاعدة بعد مقتل زعيم الأخيرة، وفي أحسن أحوال القاعدة، يمكن القول إنها لم تعد في وارد فرض أجندتها الأممية الجهادية على طالبان، ونحن نرى صمتها أو مباركتها لكل خطوات الحركة في المفاوضات مع الأمريكيين وغيرهم. ولعل أنموذج تعاطي طالبان مع تركمان الصين يتكرر مع القاعدة؛ إذ ضبطت طالبان حركة تركمان الصين، وجعلت جهدهم ينصب على الداخل الأفغاني، دون الانشغال بالداخل الصيني، مما وفّر لهم علاقة طبيعية مع الصين، رافقتها زيارات لمسؤولين طالبانيين بشكل دوري، تخللها كما يتردد الآن تعهد طالبان للصين بأن تكون جزءاً من مشروعها (طريق واحد.. حزام واحد)، وألاّ يتعرض الأمن الصيني للخطر من أراضيها. لكن ما يميز الحركة أن كل تنازل منها لا بد أن يقابله كسب، ولذا يبدو أنها لا ترمي بأوراق الجماعات المطلوبة لديها بسرعة وسهولة.

5- هل سيتكرر النموذج السوري في أفغانستان، بحيث يملأ الفراغ الأمريكي محور طهران- موسكو؟

نسّقت واشنطن، بحسب كل التقارير المسربة، احتلالها لكل من العراق وأفغانستان عبر لقاءات سرية، بين قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب وزير الخارجية الأمريكية يومها رايان كروكر في جنيف. ووصل الأمر إلى تقديم طهران خرائط وإحداثيات مواقع طالبان لتكون هدفاً للغارات الأمريكية، ووفرت كذلك للقوات الأمريكية دعماً لوجستياً، ساعد بشكل كبير في سرعة إسقاط الحركة، وتوّجته طهران لاحقاً بدفع حلفائها من الشيعة والأقليات للتعاون مع الأمريكيين في الحكم، على غرار العراق. مثل هذا التنسيق في البدايات لا يستبعد أن يكون كذلك في النهايات.

واقع دفع وفد الحركة للتوجه إلى موسكو وطهران لجسّ النبض والتطمين وتبديد المخاوف، وفي جوهره قناعة الحركة بأن الفراغ الآن موكول إلى هاتين الدولتين بالدرجة الأولى. وقد استبق وزير الخارجية جواد ظريف الحالة هذه بأشهر، حين طرح دمج لواء "فاطميون" الأفغاني الذي يقاتل في سوريا، بالجيش الأفغاني استعداداً للمرحلة المقبلة. ومع عجز الدولة عن الصمود في وجه طالبان، يبرز دور الهويات القومية والعرقية، وعودة هذه الهويات يعني بالمطلق عودة امتداداتها بدول الجوار، إيرانية أو وسط آسيوية، والتي لا يزال يتحكم بها الروس.

أسئلة كثيرة أخرى قد تكون مطروحة، سعينا إلى الإجابة عن أبرزها، وتبقى أفغانستان باباً دوّاراً يخرج منه غازٍ ليدخله منتصرٌ والعكس صحيح، وصدق محمد إقبال حين قال: "أفغانستان قلب آسيا، فسادها فسادٌ لآسيا، وسعادتها سعادةٌ لآسيا".
التعليقات (0)