كتاب عربي 21

البكالوريا: اللَّهُمَّ هَازِمَ الأحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم

أحمد عمر
1300x600
1300x600
جاء هذا الخبر في الجزيرة مصر، وهو غير عاجل بعد أن صارت كل الأخبار عاجلة، بما فيها خبر مسيرة المومياوات الفراعنة إلى المتحف المصري الجديد. قال الخبر: في أول أيام الامتحانات، وصول صناديق أسئلة مادة اللغة العربية للثانوية العامة "بابل شيت"، إلى اللجان وسط حراسة أمنية مشددة في المنوفية. وشيت اسم ليس من عندي، فهكذا اسمها، وربما يكون أصلها شيث، وفي فيلم "عسل أسود" يقول مصري العربي لميرفت، معلمة الإنكليزي، غاضبا من لفظها: فيستور (visitor) أنا فيستور... شيت، ثم يقول صاحبه سعيد لها بنبرة العاشق وقد أمضه الشوق: شيت!

بدأ الخبر أعلاه بحرف جرّ، وكان من الأصوب أن يبدأ بوصول الصناديق محروساً حراسة أمنية مشددة، لكن الإعلام لا يحبّ الجُمل الاعتراضية، والنظام يكره المعارضة، وجعل من حرف جرٍّ رئيساً لمصر.

لكن الأسئلة تسربت أيها السادة، السفينة مخروقة يا قوم، وسنغرق قريباً، إن لم نغرق في طوفان سدّ النهضة الذي قد تعاقبنا به إثيوبيا، فسنغرق في القحط، فنحن بين غريق وبين حريق. وزير التربية توعّد المسرّب الخائن بالحرمان سنتين من الدراسة.. هناك خرق في طبقة الأوزون، وخرم الأخلاق أوسع، والخروق قصاص، والله أعلم بما تصفون.

قرَّ في ملّتي واعتقادي أنّ الصناديق آلة شؤم، خاصة تلك التي تختم بالشمع الأحمر "المنيّل"، أو هكذا أراد صنّاع الصناديق لها أن تكون، وكلما سمعت اسم صندوق استعذت بالله من الشيطان الرجيم، فهو إما نذير بنتائج الانتخابات العربية التي لا تتغير، وإما توابيت ليس فيها سوى الحجارة لأن الجثة ذابت تحت التعذيب، ونسبوا القتل إلى داعش.

سألْنا أصدقاء لنا لم ينزحوا من الوطن ويعيشون بفضل البطاقة الذكية ودهائها في فنِّ البقاء على قيد الحياة؛ عن مصير الحواجز السورية، وكان النظام قد نصب في كل شارع حاجزاً، يذلُّ أنفاره الناس ويتحرشون بالنساء، غير الحواجز الطيارة، فلم يعد يطير في سماء بلادنا سوى الحواجز التي اخترع لها النظام أجنحة وريشاً، فقال الصديق: عُقّمت المدن من الذكور، ونزح كل من أنبتَ، ولم يبق في سوريا سوى ربات الحجال من غير حجال فقد بعن حجالهن. وكان فرعون يذبح الأبناء ويستحيي النساء، وهي سنّة الفراعين التي خلت من قبل. قال الصديق: أما حاجز البكالوريا فما زال قائماً.

لكن السفينة مخروقة كما قلنا لكم قبل سطور.

وزير تربية أم وزير دفاع؟

طلب مني ابني أن أتابع لقاء وزير التربية السوري على التلفزيون، فهو مشغول بأم معارك الطلاب وهي البكالوريا، والامتحانات على الأبواب، كان هذا قبل أكثر من عقد، والوزير من إحدى الأقليات السورية الدينية المكرّمة، ولأنه من الأقليات فله ثأر مع الأكثرية ودينها، ويريد أن يغيّر دين الأكثرية، فتلك سنّة المنتصرين، فجاء وأعلن الحرب على المنقّبات في وزارة التربية التي صارت ملكاً له، وكان الرجل سبباً في إشعال الثورة السورية..

فمكثتُ ساعة ونصف الساعة منتظراً أن يتحدث عن الامتحانات، ويصبَّ لي في إنائي شيئاً، كما يجدر بوزير تربية، لكنه أسرف في ثرثرة عن الصراع مع العدو الصهيوني، وكأنه وزير دفاع.

أمّا وزير الدفاع السوري فكان مشغولاً دوما بالإغارة على الحسناوات والسباء. وشهيرة قصصه مع وزيرة الدفاع الفنلندية التي تحرّش بها فهربت منه، وله قصة مع الممثلة الإيطالية الشهيرة لولو بريجيدا، التي كانت سبباً في هدنة عسكرية لبنانية. هذه كانت معارك وزير دفاعنا صاحب الأوسمة الكثيرة، ويعلم كثيرون أنَّ لقبه في سوريا هو البقرة الضاحكة، أما الرئيس فهو الثور الوحيد في القطيع.

تحدّث وزير التربية المصري أمس عن مبدأ تكافؤ الفرص، وذكر أنه لن يكون هناك تمديد للوقت المستقطع في مضمار البكالوريا. والمضمار هو حومة سباق الخيل، ومن اسم المضمار جاء اسم البكالوريا اليوناني. وفهمت من عبارة الوزير أنه تقع أخطاء من المراقبين، فيضيع الوقت على الطالب لكن من غير تعويض، فامتحاناتنا أمريكية.

الامتحان الأمريكي امتحان سرعة، وليس امتحان معرفة، والطالب الفائز هو تاجر العلامات، وليس تاجر المعرفة وبائع الجهل. أشهر بكالوريا قديمة معروفة هي بكالوريا الوحش والماء، وبطل الحكاية عند الإغريق هو السفنكس، وعند أهل مصر هو أبو الهول وسؤاله المهول عن الذي يمشي على أربع صباحاً، ثم على اثنتين ظهراً، ثم على ثلاث مساء. والرئيس الوحش لا يريد لأحد العبور.

ويمكن أن نذكر بأنَّ الطلاب السوريين النازحين يتفوقون في كل القارات لأن المنهاج السوري هو أشق منهاج على وجه الأرض، هو برزخ وليس امتحانا، إنه يشبه صراط الجحيم، والشهادة كان عمرها في الزمن الذي نلتها فيها سنة واحدة، تحترق بعدها، أما الرئيس فهو رئيس إلى الأبد، وإذا كان متواضعا تقيا ورعا فإلى أن يموت فيورثها ابنه المتفوق في كل المواد إلا الدين؛ لأنه لا يدخل في حساب العلامات. الدين لله والجبر والكيمياء والدائرة والمسدس للجميع.

كل سنة هناك أم معارك، يقضي الطالب دزينة من السنين وهو يتحضر لهذه المعركة الفاصلة.. اثنتا عشرة سنة يقضيها الطالب وهو يرتدي ثياباً عسكرية، وينتظر أمام باب المدرسة الأسود إلى يوم إعلان حرب فحص البكالوريا، فتستنفر الشرطة مسلّحة بعتادها، وتخافر على أبواب الثكنات المدرسية، ويحضر الطلاب في الوقت المحدد، وكثير منهم من القرى، يحضرون ليلاً ويبيتون لدى أقاربهم، فإن فات أحدهم الميعاد خسر سنة كاملة من حياته، وهي سنة غير عادية. وغالباً ما تُسرّب الأسئلة إلى الطلاب العسكر، أما طلاب الشعب فلهم رعب المذاكرة.

بنات طارق يمشين على المفارق:

تجد الأمهات والأخوات قد حضرن مع بناتهن وأبنائهن إلى الجبهة، وكانت النساء يصحبن الفرسان في المعركة من أجل مداواة الجراح، أو إثارة نخوتهم قديماً. وفي بعض الدول العربية التي تحترم مواطنيها تخافر سيارات الإسعاف والصحة أمام باب المدرسة، فالقصف في الداخل على أشدّه.

في قلب المعركة يوزّع المراقبون على الطلاب خريطة حقل الألغام، ثم ما تلبث الأسئلة أن تنفجر، فيُغمى على هذا، ويختنق ذاك من دخان الأسئلة، فالحرب خدعة..

البلد ليس فيه مصانع ولا معامل، وليس فيه سوى عربات خضار، فإما أن يختار الطالب بين العمل كبائع متجول أو أن يعمل مخبراً لدى النظام على أهله، حتى العربة غالية، ويلزمها نمرة في البلدية، وقد تصادرها شرطة التموين. فليس للطالب سوى الدرس والعلم كأنه جندي عند طارق بن زياد، وقد تصعب اللجنة الأسئلة، فتلغّم ورقة الامتحان بألغام عنقودية ومحرمة دولياً فالطلبة يطوّرون قدراتهم بحسب نظرية دارون في صراع البقاء والتكيف مع البيئة، والمدرسون الأعداء يطوّرون أسئلتهم القاتلة أيضاً، والحرب سجال.

ويعرف رجال المخابرات بأعضاء اللجنة التي تدبّر مكائد الأسئلة، ويشفقون على أبنائهم من فرقة الاغتيال التي تنكّل بالطلاب، فيغارون منها، ويهددونها، أو يتوددون إليها، فتسرب لهم الأسئلة، ثم يخرج واضعو الأسئلة ناقمين، فيزيدون كل سنة في الحيل والخدع حتى صارت الأسئلة ألغازاً، ومع ذلك ضاقت البلاد بالمتفوّقين، وقلّت مقاعد الجامعة، فاختارت لجان المفاضلة العلمية السورية شيئاً اسمه التثقيل في العلامات، للمفاضلة بين الطلاب في الطب والهندسة، ثم التجارة والاقتصاد، وباتوا يحسبون مثقال حبة من خردل من علامة.

أما المراقبون فهم زبانية الامتحانات الذين يتربصون بالطلاب الدوائر، وينقضّون عليهم مثل النمور إن خطر لأحدهم أن يحكّ فخذه، فتلك شبهة في الخداع والغش. المراقب موظف مخذول، وقد واتته فرصة لساعتين أن يكون قاضيا وحكما وشرطيا، فيتحول إلى مستذئب.

العلم الطبقي المحوري:

بعد الحرب ستعلن نتائج الفرز الطبقي، العلامات ستفرز الأطباء في الطبقة العليا من المجتمع ولم تعد عليا، وليس من يصون صحة الإنسان مثل الذي يصون صحة السيارة أو التلفزيون، فالرؤساء العرب الناجحون بمساعدة دفعوا بهم إلى الفرار من البلاد، أو إلى الموت.

نسبة الأطباء المقتولين في سوريا ومصر كبيرة، ثم تليها الطبقات العلمية الأدنى فالأدنى حسب العلامات الهندوسية، لكن قانون داروين في صراع البقاء يعمل بكفاءة، فالفاشلون سيذهبون إلى الجيش أو التهريب، وسيصيرون سادة وقادة، ويبطشون بالجميع، وينتقمون من أصحاب العلامات والشرف. ولو كانت أنظمتنا تحترم العلم لقدّرت المعلم خير تقدير، وجعلت حرفته أكرم الحرَف وأشرفها أجراً وثواباً.

هناك آباء سيكفرون بهذه المعارك، وسيبيعون بيوتهم وعقاراتهم ويرسلون أبناءهم إلى دول الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية سابقاً، فيتخرجون بسرعة، ويعودون أطباء ومهندسين إلى المجتمع الطبقي العسكري المحوري.

لن نستعيد القدس إلا إذا أحسنّا إدارة معركة البكالوريا، وجعلنا يوم الامتحان يوماً عادياً من أيام السنة. ما نتعلمه في الدراسة ليس علماً، بعضه بضاعة مزجاة، وبعضه مغشوش، وكثير منه تبن لا ينفع قط، فما أن ينتهي الامتحان حتى تمتلئ الشوارع بالكتب المحروقة وكأنها بضاعة العدو. عندما خسرنا الأندلس حرق الإسبان مليونا ونصف المليون من الكتب. كانت الأندلس تقود العالم في ذلك الوقت من غير بكالوريا.

حتى الآن أجد نابغين، يقول واحدهم: أنا حصّلت في البكالوريا مجموع كذا، فهي أم المعارك، والنوابغ يستشعرون الخطر فيهربون إلى بلاد الغرب أو إلى الخليج العربي، ويتركون الحمقى يقودون البلاد بالجزمة إلى الهاوية.

قال الشافعي:

لن تمكّن حتى تبتلى، وقد بلينا من كثرة الابتلاءات، وقلنا إنها معركة، وفي كل معركة جرحى وشهداء. وقد استشهد أمس في القامشلي شهيدان، هما أم وجنينها، فرحاً بانتصار طالب في عبور بحر المحنة سباحة كلب، فهو يستحق الفرح، وتعبير الفرح عندنا يجري بالدماء والنار.

علماء جاهلون:

خذ العلوم التي يدرسها الطالب السوري: الرياضيات أربعة كتب، والفيزياء مجلد من 300 صفحة عن الآلات والصدم المرن واللين والضوء المكسور بالمطرقة، والأدب العربي ثلاثة كتب، وفي الجغرافيا سيحفظ الطالب طبقات أرض الدول العربية وثمار السعودية وفواكه لبنان ومعادن إريتريا وأسماء قراها ومنتجعاتها، ولن يزورها قط، بل إن الحج وهو فريضة صار أمنية مستحيلة، وسيحفظ الطالب تاريخ العرب الحديث كله يوماً بيوم، حتى ينسى واقعه نسياً منسيا.

يعبر الطالب عيد الهالوين فيجد نفسه في معركة الزواج، وشروط العروس التي تريد عرساً مثل عرس ملكة بريطانيا يوم تتويجها، ثم يخوض امتحان العسكرية، فيجبر على نسيان كل ما تعلمه في الجيش، وفي كل سبع سنوات سيقف أمام أصعب امتحان وأسهله، وهو امتحان بلاط الأبرياء. فالغاية ليست العلم، فالدولة تقتل العلماء والمبدعين وتخطفهم وراء الشمس، بدليل أننا لم نر عالما على التلفزيون، فكلهن راقصات، ثم يقف الطالب أمام محنة الصندوق الانتخابي، ليكذّب نفسه ودينه، وينكر كل العلوم التي تعلمها، ويقول: نعم، وهو يريد قول: شيت.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (0)