يشهد الأردن هذا العام 2021 اكتمال مئويته الأولى التأسيسية منذ عام 1921، وتصادفت هذه الذكرى مع ظروف ومعطيات صعبة تتعرض لها الدولة الأردنية، وبرغم الإنجازات المميزة للدولة الأردنية الحديثة، ورغم عبورها عشرات العواصف ومواجهتها للعديد من التحديات الاستراتيجية غير أنها نجحت في البقاء مع المحافظة على قيمتها الجيوسياسية ودورها الجيواستراتيجي إلى حد بعيد.
وباستثناء السنوات العجاف الأربع 2016-2020 التي شهدت مخاطر ومهددات حقيقية لهذه القوة الجيوسياسية للمملكة، فإن الأردن يتطلع بقوة إلى العقد الأول من المئوية الثانية وهو يرنو إلى تطوير منظوماته السياسية والإدارية والاقتصادية، وإلى تحقيق المزيد من الاستقرار السياسي والاجتماعي، وإلى نجاحات في دوره بدعم القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني، وتعميق وإعادة تأسيس دوره العربي ما بعد المصالحات العربية والوطنية والخروج من الأزمات الصعبة في كل من ليبيا وسوريا واليمن والعراق على وجه الخصوص.
كما أنه يتطلع إلى استعادة دوره الاستراتيجي إقليمياً ودولياً بعيداً عن محاولات التهميش الفاشلة التي مارسها اليمين الإسرائيلي المتطرف منذ عام 2011، وبعض الأشقاء الطامحين لأدوار ربما أكبر من قوتهم الجيوسياسية والجيوستراتيجية على حساب الأردن، وكذلك بعض الأصدقاء والحلفاء ممن يتطلعون إلى تجيير الأردن لخدمة سياساته وأهدافه بغض النظر عن مصالحه الوطنية العليا، كما حاولت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بمشروع "صفقة القرن" سيئة السمعة.
ولذلك فإن الدخول إلى معطيات وفرص وتحديات العقد الجديد من المئوية الثانية يعني استجماع القوة الأردنية وحشد القدرات والقوى السياسية والاجتماعية، إضافة إلى إحداث عدد من الاستدارات في العلاقات العربية والإسلامية والإقليمية، والانفتاح على متغيرات القوى السياسية في البلاد باتجاه تقوية الجبهة الداخلية، ووقف كل عمليات الاستنزاف الداخلي التي تقف خلفها عادة اعتبارات شخصية أو مصالح غير وطنية أو ضغوط إقليمية ودولية وأحيانا إسرائيلية لا تخدم مصالح الأردن.
ولعل التوجه نحو الشروع بإصلاح المنظومة السياسية ثم الاقتصادية والإدارية إنما يشكل خطوات معقولة أولية في هذا الاتجاه، وهي بالطبع يمكن أن تحمل عوامل النجاح كما يمكن أن تحمل عوامل الفشل، والذي يعتمد على حجم الإصرار في المضيّ قدماً ومواجهة التحديات والدفع نحو التطبيق، وتوفير الإمكانات والسياسات الجديدة التي تؤهل الأردن لاستثمار الفرص المتاحة.
ويعتقد الكثيرون أنّ زوال عقبة إدارة ترامب من أمام الدور الأردني وتطلعاته لصالح إدارة تؤمن بدوره وتؤمن به وتشجعه على
الإصلاحات وتفدّم له الدعم، وتحترم مواقفه الوطنية ودوره الحكيم، ربما يكون من أهم الروافع لهذا التحول الأردني المأمول خلال العقد الأول من المئوية الثانية، خاصة أن هذا التحول يحمل في طياته كذلك تحولات أخرى إقليمية ودولية، ومنها إضعاف قدرات البعض على تهميش دور الأردن وأهميته الجيوسياسية، خاصة في القضية الفلسطينية وفي المشاركة في حل أزمات المنطقة العربية والإسلامية.
ويؤكد الكثيرون عن أن تمتين الجبهة الداخلية ربما يشكل عاملاً حاسماً في قدرة الأردن على العبور الآمن وتحقيق الأهداف الوطنية لهذا العقد، بما في ذلك ضرورة وقف سياسات الإقصاء والتهميش والملاحقة الأمنية للقوى الأكبر والفاعلة في البلاد، وكذلك إعطاء الفرص الكافية للعمل الحزبي ليتبلور بعيداً عن القبضة الأمنية وباتجاه حكومات حزبية قويّة معبرة عن تطلعات الشعب الأردني، ناهيك عن استثمار القوى السياسية والاجتماعية في تدعيم السياسة الخارجية وتحقيق مَنَعة الأردن أمام أي مخاطر أو تهديدات أو تحديات وجودية استراتيجية، وهو ما يتبلور من طروحات العديد من المفكرين الأردنيين ومراكز الفكر والبحث الوطنية.
ولذلك فإن شروط الولوج القويّ والآمن والفاعل إلى العقد الأول من المئوية الثانية لبناء أردن أمن ومستقر ومزدهر تتمثل بعدد من الأسس والقواعد الاستراتيجية.
أولها، إعادة بناء النظام السياسي والاقتصادي بإصلاحات جادة وفق الأوراق النقاشية للملك ووفق توجهات الشعب الأردني وقواه السياسية والاجتماعية، وثانيها، تفعيل مختلف الطاقات والقدرات والكفاءات الوطنية وفق معايير شفافة وموحدة، بعيداً عن المحسوبية والجهوية والعشائرية أو أي مقاييس غير علمية، بهدف رفع كفاءة العمل والأداء الحكومي للتجاوب مع مرحلة المئوية الثانية، وثالثها، توسيع دائرة النهضة الاقتصادية في القطاع الخاص وحمايته والتخفيف الحكومي من البطالة المقنعة والأعباء البيروقراطية في إدارة الدولة لصالح بناء وإنشاء شركات للقطاع العام بشراكات وإدارات مشتركة مع القطاع الخاص، إضافة إلى أهمية تفعيل برامج التخفيف الضريبي بشتى أنواعه على الشركات والأفراد، وتشجيع الاستثمار المحلي والعربي والأجنبي، ورابعها، الاهتمام الحقيقي بإعادة بناء وتطوير المنظومة التعليمية باتجاه رفع مستوى وكفاءة مخرجاتها ووفق المعايير الوطنية المستندة إلى ثقافة المجتمع الأردني وحاجاته الفعلية، وليس باتباع نظريات صُمِّمت لمجتمعات وثقافات أخرى، بما في ذلك رفع المستوى التقني الفكري والنظري والتطبيقي على حد سواء، وهو ما سيغير من البيئة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية للشباب بتخريج الكفاءات الجادة المنتجة لا الباحثة عن التوظيف الحكومي فقط، ولتتحول نحو البناء، وخامسها، إعادة التموضع السياسي إقليمياً ودولياً بما يخدم المصالح الأردنية العليا، والقضية الفلسطينية، وحماية دور الأردن من الضغوط والتهديدات كما وقع سابقا من الجانب الإسرائيلي والأمريكي وبعض العربي.
وبالتأكيد ليست هذه نهاية المطاف، لكنّها علامات أولية في طريق سلوك دروب النجاح وتحقيق الآمال والطموحات لأردن آمن ومستقر ومزدهر، وكلاعب أساسي لا يمكن تجاهله إقليمياً على الأقل، في مطالع العقد الأول من المئوية الثانية.
(مجلة دراسات شرق أوسطية)