هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من صُدفِ القدر العجيبة أن يتزامن، في الأسبوع الماضي، موت وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد مع انسحاب القوات الأميركية والقوات الحليفة من قاعدة «باغرام» الجوية العسكرية في أفغانستان. قاعدة «باغرام» الجوية تعدّ الأكبر والأهم في كل أفغانستان، وبمجرد أن غادرها الأميركيون، وقبل وصول القوات الحكومية لحمايتها، تعرضت للنهب. والوزير الراحل رامسفيلد، كان هو وزير الدفاع في إدارة الرئيس جورج بوش الابن. وهو من وضع، بعد أحداث 11-9-2001، تصاميم وخطط التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان والعراق وأشرف على تنفيذها. ورحيله عن الدنيا مؤخراً مرفوقاً بانسحاب القوات الأميركية من قاعدة «باغرام» يعدّ تزامناً مثيراً للدهشة، ومعلماً لنهاية حقبة، وبدء أخرى مختلفة في تاريخ ذلك البلد، الذي أطلق عليه المؤرخون اسم: «مقبرة الإمبراطوريات».
إدارة الرئيس بايدن في واشنطن قررت سحب قواتها من أفغانستان، بعد عشرين عاماً، ومن دون تحقيق الهدف الاستراتيجي من التدخل: هزيمة حركة «طالبان» وإنهائها. الحركة، حالياً، استناداً لتقارير إعلامية غربية، تسيطر على أكثر من ربع الأقاليم، وبدأت فعلياً معركة استرداد البقية، من أيدي حكومة كابل. مراسلة هيئة الإذاعة البريطانية، في تقرير لها من كابل، في بداية هذا الأسبوع، قالت إن قوات «طالبان» تتقدم زاحفة في مساحات واسعة وبسرعة كبيرة. آخر التقارير يؤكد استحواذها على عشرة أقاليم وهروب العديد من قوات حكومة كابل إلى داخل أراضي طاجيكستان، في حين أن مئات آخرين قاموا بتسليم أنفسهم وأسلحتهم إلى مقاتلي «طالبان». في أفغانستان، يردد الطالبانيون دوماً ويتبجحون أنه ليس مهماً أن يملك العدو الساعات، إذا كنت تمتلك الوقت. الطالبانيون حالياً يملكون الاثنين. وعقب خروج الأميركيين وحلفائهم، لم يبقَ للحكومة الأفغانية، القابعة وراء أسوار كابل، ما تفعله سوى التحديق، بعيون مشدوهة، في النهاية المتوقعة، القادمة نحوها سريعاً. الأخبار تؤكد أن جميع المدن الرئيسية في أفغانستان، لم تسقط بعد في أيدي «طالبان»، وما زالت تحت سيطرة قوات الحكومة. آخذين في الاعتبار أن القوات البريطانية والتركية، التابعة لـ«ناتو»، لم تنسحب بعد، وسيعاد انتشارها في مجمعات السفارات الحصينة، أو في مطار كابل الدولي، آخر المنافذ المتبقية للخروج من أفغانستان.
بعد عشرين عاماً من الوجود في أفغانستان، وخسارة 2.3 تريليون دولار، و7400 قتيل من العسكريين والمتعاقدين، وآلاف الجرحى والمعاقين، انسحب الأميركيون تاركين وراءهم قوة صغيرة لا تتجاوز 1000 عسكري، أغلبهم أميركيون، لحراسة المطار، ومبنى سفارتهم وبقية السفارات، ومساعدة قوات الأمن الحكومية. الناطق باسم «طالبان» عدّ وجود القوة المتبقية خرقاً لاتفاق الجلاء الموقَّع بين الحركة وواشنطن في الدوحة، مهدداً بأنها ستكون هدفاً عسكرياً لقواتهم.
وما حدث هو أن أجندة الأولويات في السياسة الأميركية تغيرت بشكل ملحوظ. وأن التطرف الإسلامي، على أهميته طوال السنوات الماضية، تراجع متقهقراً من رأس تلك القائمة مفسحاً المجال أمام التهديدات الجديدة التي يمثلها التنين الصيني لتتبوأ الصدارة. وها هي، بعد بدء الانسحاب الأميركي فعلياً، دخلت الأرض الأفغانية مرحلة التمهيد استعداداً لبدء حروب أخرى قادمة، لا محالة. وبدأت أطراف دولية عديدة تحركاتها (باكستان - الهند - الصين - روسيا - إيران) استعداداً لضمان نصيبها من الفراغ السياسي والعسكري الذي تركه الأميركيون وحلفاؤهم في حلف «ناتو» وراءهم. وميدانياً، فإن الضربات الموجعة التي أُنزلت بقوات «القاعدة» وأضعفتها، فتحت، في ذات الوقت، كوّة أمام كوادر تنظيم «داعش» لتنفذ منها، معلنة عن وجودها وحضورها كطرف منافس لـ«طالبان» في الصراع على السلطة. آخر الأخبار يؤكد أن العودة المحتملة لـ«طالبان» في حكم كابل، دفعت بكثير من قادة الجهاد الأفغان ضد الوجود الروسي إلى اتخاذ قرار بالعودة إلى حمل السلاح مجدداً على أمل وقف الطالبانيين. لكن سفن الطالبانيين، وقد امتلأت أشرعتها بالرياح، غير قابلة للتوقف، كما تؤكد الأخبار. وبدلاً من فتح طريق تقود نحو استتباب سلام واستقرار، وجد الأفغانيون أنفسهم، برحيل الأميركيين وحلفائهم، يُدفعون قسراً نحو نيران حروب أخرى، ومعاناة أشد وأقسى، رغم التطمينات الصادرة عن البيت الأبيض في واشنطن.
وتشهد العاصمة كابل وغيرها من مدن الشمال نزوح كثير من سكان الجنوب نحوها هرباً من قوات «طالبان»، وطلباً لأمان ينكمش سريعاً، في قلب عاصمة، أربكت حكومتها سرعة تطور الأحداث، وما استجدّ من أوضاع ميدانية عسكرية، فأصابتها بعجز في التفكير، وبشلل في الأطراف. وبقاؤها أو سقوطها لن يجلب لأفغانستان سلاماً مأمولاً منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي.
(عن صحيفة الشرق الأوسط)