هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لعل كل أزمة سياسية بين دولتين أو أكثر نجد فيها أن للتشدد وربما التعنت نصيبا، فتمضي الأزمة في طريق التطاول أو إلى أخطر من ذلك، وهو الانفجار أو التصادم العسكري فيخسر الطرفان وإن حقق أحدهما نصرا ما، بل يخسر السلم والاستقرار الإقليمي والدولي. في شأن أزمة سد النهضة التي تجاوزت نحو عقد من الزمان، كان التشدد حاضرا سواء في بدايتها أو في راهنها، وسواء من هذا الطرف أو ذاك الطرف، فمن تشدد بداية أصبح مرنا وواقعيا، بيد أن من كان مَرنِا أصبح اليوم يراوح مربع التشدد وربما التعنت.
والسد الأثيوبي شَخِص كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب أهله، فغدا واقعا قائما بفضل الاستثمار الجيد في عامل الوقت، وانحصر الخلاف بشأنه حول قضايا يمكن أن توصف بأنها فنية متعلقة بقواعد ملء السد وتشغيله. ولعل تشدد طرف من الأطراف في هذه المسائل الفنية، من المفترض أن يجد استنكارا ليس من الطرف المقابل، ولكن من المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي. لكن إن لم يتبلور الاستنكار إلى موقف ضاغط لصالح حل الأزمة، تبقى الأزمة في مربعها الأول.
وتدور الخلافات حول مسألتين مهمتين؛ الأولى أن الطرف الآخر لا سيما مصر تعتقد أن السد سيقلل من كمية حصتها من مياه النيل، ترى إثيوبيا أنه سينظم كمية المياه اللازمة للري، ويوفر لها طاقة كهربائية لمشاريعها التنموية. ولعل قلق مصر نابع من كون الهضبة الإثيوبية، التي تشارك بنحو 71 مليار مكعب من المياه عند أسوا،ن أي نحو 85% من مجمل إيراد نهر النيل، بينما يقتصر إسهام هضبة البحيرات الاستوائية على نحو 13 مليار مكعب، أي فقط 15% من إيراد نهر النيل.
ولعل انخفاض حصة مصر في كل الأحوال، سيكون انخفاضا مؤقتا ومرهونا بطول أو فترة ملء السد أو قصرها، وقد تجاوزت مصر ذلك على ما يبدو وحتى إشكالا آخر مرتبطا بانخفاض دائم بسبب التبخر من خزان المياه، ويثور الجدل حاليا فترة الملء، فإثيوبيا تريدها عاجلة ومصر والسودان يريدانها على فترة تمكنهما قدر الإمكان من تقليل آثار الانخفاض المؤقت. وترى مصر أنه خلال فترة الملء بالطريقة الإثيوبية، يمكن أن تفقد من 11 إلى 19 مليار متر مكعب من المياه سنويا، مما سيتسبب في خسارة مليوني مزارع دخلهم خلال هذه الفترة الحرجة.
المشكلة أنه تبقى أقل من شهر على الموعد الذي حددته إثيوبيا للقيام بالملء الثاني للسد، الذي يتضمن حجز 13.5 مليار متر مكعب في شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس المقبلين، علما بأنه حجز 4.9 مليار متر مكعب في الملء الأول. وفيما يشدد السودان ومصر على رفض تنفيذ الملء الثاني دون توقيع اتفاق قانوني وملزم وبه ضمانات دولية. ومع هذا الجمود المخيف، أعلن السودان موقفا وسطا، بقبوله باتفاق مرحلي جزئي للملء، شريطة التوقيع على ما تم الاتفاق عليه سابقا، وضمان استمرارية التفاوض وفق سقف زمني، لكن إثيوبيا لم تبد حتى اليوم أي رد فعل.
الإشكال الأكبر والباعث للقلق السوداني - المصري، يتعدى أبعد من قضية سد النهضة؛ ففي أيار/ مايو 2010 وقعت 6 من دول حوض النيل (8 دول) اتفاقية عرفت باسم اتفاقية عنتيبي، وهي: إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي، بينما قوبلت هذه الاتفاقية برفض شديد من مصر والسودان، إذ إن بموجب هذه الاتفاقية، تنتهي الحصص التاريخية للسودان ومصر وفقا لاتفاقيات عامي 1929 و1959. وفي ما بعد عززت تصريحات لرئيس وزراء إثيوبيا مخاوف مصر والسودان، فقد أعلن آبي أحمد في نهاية أيار/مايو الماضي، عن خطة لبناء 100 سد صغير ومتوسط في مناطق مختلفة من بلده خلال السنة المالية المقبلة، وهي سدود ليست لإنتاج الكهرباء، ولكنها لاستغلال المياه في الزراعة.
يشار إلى أنه في إطار المساعي الدبلوماسية، وقع رؤساء مصر وإثيوبيا والسودان في آذار/مارس 2015، خلال قمة ثلاثية بالخرطوم، وثيقة إعلان تضمن إنشاء آلية تنسيقية دائمة من الدول الثلاث، للتعاون في عملية تشغيل السد بشكل يمنع عدم الإضرار بمصالح دول المصب، وكان ذلك كفيلا بحل الأزمة إذا ما التزمت به الأطراف الموقعة.
ودخلت الأزمة مرحلة جديدة حينما تمسكت إثيوبيا بالاتحاد الأفريقي وسيطا وحيدا، ورفضت مشاركة أي وسيط آخر. لاحقا أعلنت جامعة الدول العربية أنها قد تتخذ "إجراءات تدريجية" لدعم موقف مصر والسودان في خلافهما مع إثيوبيا. لكن إثيوبيا رفضت ذلك في حين لم ترفض مصر والسودان وساطة الاتحاد الأفريقي، لكنهما اقترحا مشاركة أطراف أخرى في وساطته. وهنا بدأ موقف مصر والسودان أكثر مرونة وإيجابية من موقف الطرف الآخر.
تاريخيا، كان للاستعمار والقوى الدولية أدوار سالبة في منطقة القرن الأفريقي، أورثت أزمات من بينها أزمة سد النهضة الماثلة؛ إذ يؤكد السودان أن المنطقة التي أقيم فيها السد على بعد 40 كيلومترا من الحدود مع السودان، وتسمى بني شنقول، هي أرض سودانية منحتها بريطانيا التي كانت تستعمر السودان إلى إيطاليا التي كانت تستعمر إثيوبيا، بشرط ألا تقام فيها أي سدود، علما بأن المقاول الرئيس لمشروع السد هو شركة ساليني الإيطالية. لاحقا، قام مكتب الاستصلاح الأمريكي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية بين عامي 1956 و1964 خلال فترة حكم الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، بتحديد الموقع النهائي لسد النهضة، متجاهلا اتفاقيتي عامي 1929 و1959 لمياه النيل، التي تنص إحداهما على الرجوع إلى مصر. يذكر أنه بعد يوم واحد من الإعلان عن مشروع السد رسميا في آذار/مارس 2011، مُنحت الشركة الأمريكية وي بيلد عقدا بقيمة 4.8 مليار دولار دون مناقصة تنافسية. ولذا يمكن الربط بين ذلك كله وعدم ضغط واشنطن على أديس التي رفضت في آذار/مارس 2020 التوقيع على اتفاق بين الدول الثلاث، رعته واشنطن نفسها.
(الشرق القطرية)