مقالات مختارة

تحرير العلم من التبعية الاستعمارية

أبو بكر خالد سعد الله
1300x600
1300x600

في أواخر شهر ماي الماضي نشرت “جيس أويرباخ”  من جنوب إفريقيا، خريجة جامعة “ستانفورد”  الأمريكية الشهيرة، بمعية زميلين لها مقالا في أرقى مجلة علمية، وهي مجلة “نيتشر”  البريطانية. وتناول البحث البيئة والاستعمار والأخلاق، وجاء تحت عنوان ” ممارسات التحرر من الاستعمار الفكري والقمع من أجل بيئة أكثر أخلاقية”. وخلال الأسبوع الماضي، نشرت نفس الباحثة مقالا تحت عنوان “العلم المتحرر من الفكر الاستعماري: نحو ممارسات علمية أكثر إنصافًا”.
امتداد الاستعمار الفكري بعد زوال الاستيطان
واللفظ الأنكليزي “الديكولونيالية” Decoloniality الذي يعني إجمالا “التحرر من الفكر الاستعماري” مصطلح حديث ظهر في أمريكا اللاتينية، ولا يزال مفهومه يحتاج إلى التدقيق، وهو يركّز على ظواهر فكرية طغت في بلدان العالم الثالث عقب استقلالها وزوال الاستعمار الاستيطاني فيها.
فما الفرق بين “إنهاء الاستعمار” و”التحرر من الفكر الاستعماري”؟ في وصف للاستعمار الغربي، قال أحد زعماء جنوب إفريقيا : “لقد جاؤوا بالإنجيل حين كانت الأرض بحوزتنا، ثم أصبحت الأرض بحوزتهم وصار لنا الإنجيل” ! لذلك كان “إنهاء الاستعمار” خلال الحرب الباردة يعني الكفاح من أجل تحرير الأرض في العالم الثالث. وعندما تمّ ذلك، قامت في تلك الأراضي دول قومية تطالب بالسيادة. ثم بحلول التسعينيات من القرن الماضي، أصبح فشل عملية “إنهاء الاستعمار” واضحًا في هذه الدول.
وهكذا باتت معظم دول العالم الثالث بين أيدي نُخَب الأقليات، واستمر العمل بأنماط القوة الاستعمارية سواء في الداخل -من خلال تلك الأقليات- أو في الخارج بحكم تعامل الغرب مع هؤلاء ونتيجة لما ينشئه من هيئات دولية تسيّر وتوجّه السياسات عبر العالم في جميع القطاعات وفق ما تقتضيه حاجة الغرب.
ذلك ما أدى عام 1990 -عند انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة وظهور مفهوم العولمة- إلى ميلاد مفهوم “التحرر من الفكر الاستعماري” لكشف هذا الواقع الذي تعيشه المعمورة. وصاحب هذا المفهوم هو عالم الاجتماع “أنيبال كويخانو”  (1928-2018) الذي كان أستاذا بجامعة نيويوركية، وهو أصيل دولة البيرو.
نشير إلى أن مفهوم “التحرر الفكري من الاستعمار” لا يرفض الإنجازات العلمية والاجتماعية والأخلاقية للعصر الحديث، بل يؤكد على أنه علينا أن نستأصل من منهجية تفكيرنا ما ترسّخ وترسّب فيها خلال عقود، باعتبار أن المسيرة نحو الاستقلال الحقيقي لا تزال قائمة ولم تكتمل بعدُ.
بعد أن عرف هذا المفهوم صدى في دول غربية (مثل ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة)، وفي العالم الثالث (مثل جنوب إفريقيا ودول أمريكا الجنوبية)، نُشر عام 2011، كتاب بعنوان “الوجه الأكثر ظُلمة للحداثة الغربية” للمؤلف الأرجنتيني “والتر مينيولو”  (عمره الآن 80 سنة)، المختص في علم الدلالة (السيميائية) الذي يُعتبر أحد أكبر رواد هذا التيار المهتم بتجريد فكر العالم الثالث من رواسب الاستعمار. وقد تناول المؤلف في كتابه الآفاق العالمية وخيارات التحرر من الاستعمار الفكري.
.. أوروبا هي مركز العالم !
وفي هذا السياق، يرى الكاتب أن خلال عصر النهضة والتنوير، ظهر الاستعمار كهيكل جديد للقوة حيث استعمر الأوروبيون شمال وجنوب القارة الأمريكية، واعتبروا أن الحضارة الغربية تشكل نقطة النهاية في مسار التاريخ؛ وأن أوروبا هي مركز العالم! لكن ما نشهده  في مطلع القرن الحادي والعشرين هو أن دورة الاستعمار هذه تقترب من نهايتها -حسب والتر مينيولو- إذ تتحدى الهيمنةَ الغربيةَ قوتان رئيسيتان : “النأْي عن مقومات الحضارة الغربية” في سياق تحوّل في الصراعات القائمة حول المعرفة والاقتصاد والسياسة. أما القوة الثانية فهي “التحرّر من الاستعمار الفكري”. غير أن القوة الأخيرة تتطلب الانفصال عن حاضنة القوة الاستعمارية الكامنة وراء الحداثة الغربية وذلك لنتخيّل بناء مستقبل عالمي لا يتم فيه استغلال البشر والطبيعة من أجل تراكم الثروة بين أيدي البعض.
ومن المعلوم أن بلدانا عديدة في جنوب إفريقيا، وأمريكا بجنوبها وشمالها، وفي أوروبا قد نظمت وتنظم ندوات وورشات وأنشأت فرق بحث لتدارس هذا الموضوع بالذات. وهناك جامعات ألمانية تتعاون في هذا الإطار مع جامعات بريطانية للقيام بدراسات مشتركة. وهذه جامعة “ديوك” الأمريكية تطلق عام 2018 سلسلة من المؤلفات تحت عنوان “حول تحرير الفكر من الاستعمار”. وافتتح السلسلة والتر مينيولو بالاشتراك مع الباحثة “كاثرين والش” بكتاب ضمّ أزيد من 300 صفحة. كل هذا يؤكد الأهمية التي يوليها عدد من الباحثين والمفكرين لهذا الموضوع الشائك.
.. أمر مُسلَّم به
وإذا ما عدنا إلى ما جاء في مقال الباحثة جيس أويرباخ فإننا نجدها تلاحظ بأننا نتبنى أشكال الممارسة البحثية المعمول بها في الغرب كأمر مُسلَّم به في حين أنها أشكال تمثّل جزءًا لا يتجزأ من عملية الهيمنة الغربية على أنظمة المعرفة العالمية. وتركّز أويرباخ على عدة نقاط منها أن “الاستعمار الفكري” يجعل من الصعب علينا اكتشاف الطرق الأخرى التي قد تكون ممكنة للتعامل مع أسئلة علمية ذات علاقة بالبحث العلمي.
وتشير الباحثة إلى الألقاب الجامعية، مثل “أستاذ” و”دكتور”، لتقول إنها لا تكفي وحدها ليكون حاملُها خبيرا في حقل علمي. وتضرب مثلا بنفسها مصرّحةً : “أنا حاصلة على الدكتوراه من جامعة ستانفورد الراقية، وحسب نظام هذه الجامعة فأنا ‘خبيرة’ في أنغولا – وهو البلد الذي كان موضوع بحثي في الدكتوراه… ومقارنة مع عديد الأشخاص خارج أنغولا، فأنا حقًا أعرف الكثير… ومع ذلك، وبالمقارنة مع معظم الأنغوليين… فإني ما زلت جاهلةً بشكل يرثى له في العديد من المجالات المهمة. فهل أنا حقًا ‘خبيرة’؟ أم أنني مجرد شخص يستطيع نظام الجامعات الغربية الاستماع إليه لأنني أكتب باللغة الإنكليزية؟ ماذا لو لم أتمكّن من الكتابة على الإطلاق؟ لا شكّ أنه من المهم أن يكون هناك جسر، غير أنه يجب أن ندرك هذا الجسر على حقيقته، وأن نراه كحلقة وصل في سلسلة اتصال، وليس كخبرة”.
وتعيب أويرباخ على الجامعات الأفريقية حرصها الشديد، مثل غيرها من الجامعات، لترتقي في سلم تصنيف الجامعات دون أن تفكر في المضمون الذي تقيّمه هيئات التصنيف:  هل تقيّم العناصر التي سنحتاجها للبقاء على قيد الحياة خلال القرن الحالي؟ هل تقيّمنا بناء على ما نغطي به احتياجات مجتمعاتنا؟ أو ما نقدمه لطلابنا؟
يتبيّن من أصحاب هذه المواقف أن جامعات العالم الثالث تحتاج إلى المزيد من القوة والفطنة لأن نهْب الخيرات البشرية والمادية لهذا العالم لايزال متواصلا… لأن البيئة الفكرية المحلية تتيح ذلك.

(الشروق الجزائرية)

0
التعليقات (0)