هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
«جئت، رأيت، انتصرت». هل لهذه العبارة الشائعة باللغة اللاتينية، المنسوبة إلى يوليوس قيصر، وكان قد استخدمها في رسالة إلى مجلس الشيوخ الروماني، عام 47 قبل الميلاد، لإبلاغهم عن انتصاره السريع ضد عدوه، علاقة بزيارة البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، الى العراق في 5 مارس/ آذار، والانتصار هنا بمعنى تحقيق هدف ما، أم إن الاقتباس الاصح هو «جئت. رأيت. غادرت» ولم يتحقق شيء؟ وهل كانت الزيارة، كما وصفت من قبل آلاف المواقع واجهزة الإعلام والناطقين الرسميين، في جميع أنحاء العالم، بأنها «حدث تاريخي» فعلا؟
إن وصف حدث ما بأنه «تاريخي» يعني بأنه حدث مهم للمستقبل، أو من المحتمل أن يكون مهما، مستقبلا، أي أنه يؤدي إلى تغيير كبير، على مدى فترات زمنية طويلة، لأعداد كبيرة من الناس.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الحرب العالمية الثانية هي حدث تاريخي كما هو الغزو الأنكلو أمريكي للعراق.
حيث تعتمد تاريخية الحدث على ربطه بتغيرات تتكشف بسردية أكبر من «أهميته» في اللحظة الآنية، ولا تعتمد على المنظور الشخصي أو لاستيفائه الغرض منه في الوقت الراهن.
فالتاريخ، كما هو معروف، ليس سلسلة من احداث بل استمرارية وتغيير. من هنا، سيكون مدى التغيير، بمقياس التقدم والتراجع، الذي ستؤدي اليه زيارة البابا فرانسيس هو المحك الحقيقي لتاريخية الحدث.
لا ان يلتقي بالمرجع الديني السيستاني، وان كان يحظى بالاحترام والتقدير، أو يزور موقعا أثريا لاداء صلاة جماعية، مع عدد من رجال الدين العراقيين والتقاط الصور معهم، والقاء الخطب، واطلاق التصريحات عن «السلام والوحدة والتآخي والتسامح بين جميع مكونات الطيف العراقي الملون والجميل».
كما ان علاقة الحدث بالإعلام وتغطيته، مهما كانت مكثفة، وصبه قطرة قطرة، تدريجيا، في دماغ الجمهور، لا يعني انه حدث تاريخي.
فمقابلة لزوجين ميغان ماركل والأمير هاري مع الإعلامية الأمريكية أوبرا وينفري استقطبت ملايين الناس من جميع انحاء العالم لأن التسويق الناجح وبشكل مقتطفات يومية وبمهارة في صياغة وكيفية تقديم الحبكة جعلت المقابلة «حدثا» يترقبه الكثيرون لكنه ليس حدثا تاريخيا.
فالحدث التاريخي هو ما سيغير حياة الناس في المدى البعيد وبعد غربلته من البهرجة والتلوينات المزركشة وكثير منها نفسي وذكي إعلاميا.
فاضراب العمال، في منطقة نائية بالهند، مطالبين بحقوقهم، لا اهمية له جماهيريا ما لم يغط إعلاميا بطريقة توصله الى بقية الناس، كما تقول الكاتبة والناشطة الهندية أرونداتي راي.
بعيدا عن البهرجة الإعلامية المبتذلة التي استهلها النظام العراقي بسير البابا ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بين صفين من رجال البادية الذين أشهروا سيوفهم عاليا في الهواء، برمزية مقلقة، أقرب ما تكون الى وحشية داعش، لم يلتق البابا الا بقلة من الناس العاديين، وان كان قد خاطب الكل قبل مجيئه، قائلا «لقد فكرت فيكم كثيرا منذ عدة سنين» إذ كان محاطا، طوال الوقت، بفرق الحماية والساسة الفاسدين.
ساسة جعلوا من مقايضة الوطن والشعب، عملة لبقائهم الطائفي والعرقي، وادخلوا بتعاونهم مع قوى الاحتلال الارهاب، بابشع صوره، ضد كل المواطنين، وأولهم الأقليات، ثم وقفوا يتباكون استجداء للدعم المادي الدولي لانقاذ البلد المهدد بالارهاب، من جهة، ويتشدقون بالسلام والمحبة من جهة أخرى.
«لتصمت الأسلحة! ولنضع حدا لانتشارها هنا وفي كل مكان! ولتتوقف المصالح الخاصة، المصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين. ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام!» قال البابا.
لعله أراد بذلك انقاذ حياة البقية الباقية من المسيحيين الذين تراجع عددهم من مليون ونصف قبل الاحتلال عام 2003 إلى 400 ألف أو أقل من ذلك اليوم (لأن العراق بدون تعداد سكاني منذ ربع قرن) واقناعهم بالبقاء في بلد هو بلدهم.
وهو خيار صعب جدا اذا ما ادركنا حجم التهديد والخطر الذي يتعرضون له، يوميا، من كل الجهات الهادفة الى تفتيت العراق، خاصة مع عدم وجود ما يشير إلى أي تغيير ايجابي، ولو بشكل الارتفاع درجة واحدة من الحضيض الذي انحدر اليه البلد جراء الاحتلال والفساد والطائفية والميليشيات المسلحة.
في كلمته المذاعة قبل وصوله العراق، قال البابا ان هدف زيارته هو «لكي التمس من الرب المغفرة. والمصالحة بعد سنين الحرب والإرهاب. ولاسال الله عزاء القلوب وشفاء الجراح». وهي أهداف انسانية فعلا لولا أنه كان بالامكان تحقيقها وهو موجود في دولة الفاتيكان بدون ان يتكلف، وهو المسن، عناء السفر، ويعرض حياة الآخرين لخطر الوباء المنتشر في بلد يعيش خراب الاحتلال والفساد المنعكس على خدماته الصحية المنهارة.
كان بامكانه الاطلاع على حجم الظلم الذي يعيشه العراق وأهله منذ عام 2003 وان يطلع، في آلاف التقارير الحقوقية المحلية والدولية، بضمنها تقارير الأمم المتحدة، على المسؤول الحقيقي عن الانتهاكات والجرائم التي استهدفت المسيحيين والإيزيديين وكل من يرفع صوته احتجاجا، وآخرها حملة التهديد والاختطاف والقتل العلني للمتظاهرين السلميين.
صحيح انه أشار الى ضرورة «التصدي لآفة الفساد» و«سوء استعمال السلطة» ولكن هذا هو بالضبط ما يكرره الساسة اللصوص. وكما كتب احد المعلقين على الفيسبوك: « لسنا بحاجة لأن يخبرنا البابا بذلك. بارك الله فيه».
إلا ان البابا نفذ مهمة ما كان بامكانه تنفيذها عن مبعدة وهي زيارة المرجع الديني الشيعي علي السيستاني في داره، بالنجف.
وفي الوقت الذي لم يكف فيه البابا عن الصلاة والقاء الخطب طوال ايام زيارته، وبضمنها رأيه باللقاء، اطلعنا على رأي السيستاني من خلال بيان أصدره مكتبه. وهو أمر معهود اذ لم يُسمع السيستاني يوما وهو يخطب او ينطق او يتواصل حتى مع أتباعه.
جاء في البيان ان سماحة السيد تحدث عن معاناة « شعوب منطقتنا.. ولا سيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة». وبصدد معاناة المسيحيين «أكّد اهتمامه بأن يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام وبكامل حقوقهم الدستورية». وكما نعلم أن هناك فرقا كبيرا بين «الاهتمام» و«التنفيذ».
اختتم البابا زيارته بالتجول في مدينة الموصل المهدمة ووقف متأملا بحزن الخراب الذي ألحقه تنظيم داعش باحدى الكنائس القديمة، كما التقى بعدد من اهل الضحايا الإيزيديين والمسيحيين والكرد.
ولا ندري إن كان أحدا ما قد اخبره عن الخراب والموت الذي سببه القصف الأمريكي للموصل. ولعله اختار أن يتجاهل توقيت زيارته المصادف في الأيام السابقة لشن الحرب العدوانية ضد العراق التي سببت قتل مليون شخص.
أما مدى «تاريخية» الزيارة فلنترك الحكم عليها للشهورالمقبلة، أن ترينا فيما لو نجح البابا في إحداث تغيير في حياة من أعلن حبه لهم أو أن زيارته لا تزيد عن كونها « جئت. رأيت. غادرت».
عن القدس العربي