مثلت
مسيرة حركة النهضة السبت (27 شباط/ فبراير2021) حدثا وطنيا بل وعالميا، إذ تناقلته وسائل إعلام داخلية وخارجية وتناوله بالتحليل متابعون تونسيون وأجانب.
أهمية الحدث تكمن أولا في الحضور الجماهيري غير المسبوق، حيث تراوحت التقديرات بين 50 ألف مشارك و100 ألف، وهو عدد لم يحصل حتى يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011 حين أجبرت الجماهير المحتشدة أمام وزارة الداخلية الرئيس السابق ابن علي على مغادرة البلاد، وتكمن ثانيا في كونها تأتي في أجواء سياسية ساخنة حيث خلاف بين الرؤساء الثلاثة وبين حركة النهضة وجل الأحزاب السياسية.
التحركات الاحتجاجية التي حدثت منذ أيام بل ومسيرة حزب العمال المقابلة لمسيرة حركة النهضة، وكذلك الوقفات الاحتجاجية المتتالية للحزب الحر الدستوري، كلها ستكون محل مقارنة مع مسيرة حركة النهضة الحاشدة التي امتدت على طول وعرض شارع محمد الخامس في العاصمة.
التحركات الاحتجاجية التي حدثت منذ أيام بل ومسيرة حزب العمال المقابلة لمسيرة حركة النهضة، وكذلك الوقفات الاحتجاجية المتتالية للحزب الحر الدستوري، كلها ستكون محل مقارنة مع مسيرة حركة النهضة الحاشدة
منذ حوالي شهر، وتحديدا مساء 27 كانون الثاني/ يناير 2021 عند تقديمي كتاب الأستاذ راشد الغنوشي "
الحريات العامة في الدولة الإسلامية" في منتدى الزيتونة للفكر والسياسة في جنيف عن طريق تطبيقة "زوم"، وبمشاركة صاحب الكتاب، كنت وقفت طويلا على فقرة في الكتاب بالصفحة 257 تتحدث عن الضمانة الشعبية لمنع عودة الاستبداد، توجهت للأستاذ راشد الغنوشي بسؤال حول لماذا يغيب جمهور النهضة عن الاحتجاجات الشعبية؟ لماذا لا يكون رموز النهضة مع الناس في الشوارع عند الاحتجاجات الشعبية؟ لماذا تحول أبناء النهضة إلى مستهدَفين تُرفع ضدهم الشعارات كما لو أنهم هم أعداء الشعب؟ لماذا لم نر قادة من النهضة يخطبون في جماهير الأحياء الشعبية يعبرون عن مطالبهم؟ ألستم أنتم فرسان المظاهرات والاحتجاجات؟ وسألته سؤالا دقيقا: ماذا تفعل مكاتب الحركة الآن في علاقة بالتواصل مع الناس والتوعية والتعبئة؟ وذكرته بمقالي بجريدة الفجر في 2013: "حركة النهضة وشبكة العنكبوت"، تحدثت فيه عن المخاطر المستقبلية لملازمة القيادات المكاتب المعلقة وترك الشارع للمنافسين، ونبهت إلى خطورة استيلاء خصوم حركة النهضة على "شرف المعارضة" حين اعتبروا أنفسهم هم "المعارضة" وما تحيل إليه المفردة من نضال وتضحية، واعتبروا حركة النهضة هي "السلطة" بما تحيل إليه المفردة من تسلط وفساد وظلم.
تعليق الغنوشي كان أنه ليس لمناضلي الحركة ترك الشارع والابتعاد عن الناس (كان يدون تلك الملاحظات).
أعتقد أن قرار خروج جمهور النهضة وأبرز قياداتها إلى الشارع في نسيرة حاشدة كان له عدة أهداف:
1- تحسس الحركة لأطرافها للتأكد من كونها ما زالت حاضرة في أذهان ووجدان جمهورها الذي تعرض لحملات تشكيك وترذيل في حركته وقيادييها، بسبب اضطرارها لتقديم التنازلات وبسبب عدم قدرتها على الإيفاء بتعهداتها لأبنائها وللتونسيين، رغم ما تقدمه من تبريرات، كون الخصوم عطلوها عن العمل ووضعوا أمامها العراقيل وحرضوا ضدها واستعانوا باتحاد الشغل لخوض الإضرابات والاعتصامات.
2- تعهد قواعدها وتذكيرها بمفردات الثورة والحرية والديمقراطية والمستقبل والأمل في كون الغد سيكون أفضل للبلاد والعباد، وهو ما حرص الأستاذ
راشد الغنوشي على تأكيده؛ من كون النهضة قوة ثورية وأن جمهورها الذي حضر بكثافة هو التعبير الأبلغ عن شعار "الشعب يريد".
3- توجيه رسالة إلى الداخل والخارج مفادها أن حركة النهضة تظل رقما سياسيا بارزا، بل والأبرز في المشهد السياسي لا يمكن تجاوزه أو التفكير في إقصائه. وقد ارتفعت في المدة الأخيرة دعواتٌ من جهات مختلفة تدعو إلى إقصاء حركة النهضة من المشهد السياسي، بل إن البعض يدعو إلى محاكمة قادتها وإعادتهم إلى المنافي والسجون. وقد توهم خصوم النهضة أنها - وبسبب هدوئها - قد تداعت للسقوط والانهيار، فتسابقوا للنيل منها ظنا منهم أنها جسد منهك يلفظ أنفاسه.
ارتفعت في المدة الأخيرة دعواتٌ من جهات مختلفة تدعو إلى إقصاء حركة النهضة من المشهد السياسي، بل إن البعض يدعو إلى محاكمة قادتها وإعادتهم إلى المنافي والسجون. وقد توهم خصوم النهضة أنها - وبسبب هدوئها - قد تداعت للسقوط والانهيار
4- تنشيط كيمياء "الانتماء" في معانيه الوطنية والثورية والحزبية حفاظا على تماسك القيادة، وعلى وفاء جمهور انتابت صفوفه أسئلة وشكوك وبرود وحالات تسرب نحو فضاءات سياسية أخرى يراها أكثر تعبيرا عن ثوريته وأشجع في مقاومة رموز النظام القديم.
5- كبح أطماع أطراف تظن أنها ستنتزع المشهد برمته أو في أغلبيته لصالحها وستنهي حركة النهضة أو تجعلها أقلية، وخاصة المشتغلين على سبر الآراء التي تقدم النهضة في كل مرة على أنها في حالة تراجع مستمر مقابل صعود الحزب الحر الدستوري وزعيمته عبير موسي.
أعتقد أن الوعي بهذه الأبعاد واستحضار هذه الأهداف هو الذي جعل أغلب جمهور النهضة والمتعاطفين معها والمقتنعين بشعارات المسيرة - وحتى المعترضين على مبدأ التظاهر - يحضرون بكثافة يوم السبت تجديدا للعهد مع الشارع وتأكيدا للحضور وإبرازا للحضورية، وردا على الذين توهموا أنهم سيطروا على الشارع الشارع واستمالوا الناس وصرفوهم عن حركة عمرها خمسين عاما؛ مارست خلالها جدلية الخطأ والصواب، الفشل والنجاح، القوة والضعف.
ملاحظات:
- التظاهر في الشارع حق يضمنه الدستور وتكفله الحرية لكل حزب أو جماعة، سواء لمن هو في المعارضة أو في الحكم، طالما التزم المتظاهرون بالقانون، ولم يمارسوا عنفا ولم يعطلوا المرافق العامة ولم يهددوا السلم الأهلي.
ردود فعل خصوم الحركة كانت غير إيجابية، وخاصة رد فعل رئيس الجمهورية الذي واصل كعادته استعمال مفردات الوصم بالنفاق والفساد
- من يعتبر مسيرة حركة النهضة موجهة ضده فهو من يُضمر توجيه مسيراته ضد غيره أو ضد حركة النهضة تحديدا، ومن يبالغون في استعداء النهضة واستضعافها عليهم أن يعوا بأنهم هم من دفعها إلى الاستقواء بالشارع؛ ليس في عملية استعراض القوة كما يقولون، وإنما في عملية تذكير لمن يستهدفونها بكونها ليست في متناول دعاة الإقصاء.
- رغم ما عبر عنه قادة النهضة (راشد الغنوشي وعبد الكريم الهاروني والعجمي الوريمي) أثناء المسيرة، من دعوة للحوار والتعاون من أجل المصلحة الوطنية ومصالح الناس، فإن ردود فعل خصوم الحركة كانت غير إيجابية، وخاصة رد فعل
رئيس الجمهورية الذي واصل كعادته استعمال مفردات الوصم بالنفاق والفساد، قائلا: "لا هم مني ولا أنا منهم"، وهو خطاب يُضعف كل أمل في التوصل إلى حلحلة للأزمة السياسية الحادة.
فهل سنحتاج وساطات خارجية بعد فشل كل الوساطات الداخلية؟ وهل يكون من المناسب عجز التونسيين عن تسوية خلافاتهم زمن أشواق الثورة وشعارات السيادة الوطنية و"الشعب يريد"، فيسمحون بتدخل جهات أجنبية لها مصالحها في استقرار تونس؟
twitter.com/bahriarfaoui1