هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أشعل الربيع العربي ومعاركه الكثيرة سيلا من الأسئلة؛ بعضها يدخل في نطاق المحوري، بل حتى الوجودي بالنسبة للبعض، فضلا عن الأخلاقي والسياسي، وساق كل طرف مبرراته لتفسير الأحداث وفق هواه.
وإذا جئنا نضع العنوان الأبرز لهذه الجدليات أعلاه، فإن سؤال الهزيمة والانتصار هو الذي طرح نفسه بقوة في أوساط الناس، بخاصة فئات شبابية؛ صدمتها بعض وقائع الربيع العربي، بما انطوت عليه من ظلم وموت ومعاناة ودمار.
والحال أن هذه الأسئلة لم تكن جديدة في السياق الإنساني، فهي دائما ما تطرح في اللحظات الفارقة والحساسة، بخاصة في أجواء الهزائم التي تعيشها الشعوب أو حركات التحرر، أو حتى الدعوات الدينية (مع أنبياء أو مصلحين).
من العبث السائد في الأوساط الإسلامية هو ربط معادلة الانتصار والهزيمة بمستوى الإيمان، وهو أمر تنسفه ابتداءً سيرة الأنبياء قبل محمد عليه الصلاة والسلام، والذين عُذّبوا، ومنهم من قتل، ومنهم من انتصر، وكذلك حال جحافل من الدعاة والمصلحين الذين لا يشكّك عاقل في دينهم وتقواهم. وفي حالة النبي عليه الصلاة والسلام، والصحابة من بعده، هناك انتصارات وهناك هزائم، وهناك تقدم وتراجع وانسحاب، إلى غير ذلك من معادلات الحرب.
الإيمان يمنح المؤمنين مزيدا من القوة والعطاء والتضحية؛ (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ". (الأنفال،66)، لكنه (الإيمان) لا يكسر كل موازين القوى، ولو أعلن اليوم آلاف القدّيسين الحرب على أمريكا بإمكانات محدودة، لما انتصروا.
نتذكّر هنا نموذج "طالبان" التي لم يكن سبب سقوط دولتها في 2001، وخلال أسابيع معدودة، هو نقص الإيمان، بل خلل ميزان القوى بشكل هائل لصالح أمريكا وطيرانها الذي يحرق كل شيء، لكن الأخيرة لم تنتصر على الحركة منذ ذلك الحين ولغاية الآن في حرب عصابات لها موازينها المختلفة عن حروب الدول والجيوش. وها هي أمريكا تضطر إلى تسوية مع الحركة.
ثم إن تغلّب الفئة القليلة على الكثيرة، ليس حكرا على المسلمين، إذ يشمل سواهم أيضا حين تتوفر الظروف الموضوعية لذلك.
ولا شك أن معادلة موازين القوى لا تتعلق فقط بالحروب العسكرية، بل تشمل المعارك السياسية أيضا.
لو جئنا نعدد الأمثلة، لطالت السطور، وقد توقفت شخصيا مع هذه القضية بشيء من الإسهاب في كتابي "لماذا يفشل الإسلاميون سياسيا؟". وما يجري في سوريا واليمن وليبيا، وما جرى في مصر، وسائر التجارب، إنما يؤكد هذه الحقيقة التي نتحدث عنها.
نفتح قوسا كي نشير إلى تفسير أتباع إيران لتفوقهم في سوريا والعراق واليمن، ممثلا في القول إنه يعود إلى أنهم أهل الحق، وهو تفسير يثير الازدراء، بدليل أنه ينطوي على إدانة لأئمتهم وأئمة المسلمين. وإلا فهل كان الإمام علي والحسين والحسن ومنْ بعدهم على باطل حين هُزموا؟!
خطل التقييم لمعادلة الهزيمة والانتصار لا يشمل الإسلاميين وحدهم، بل يشمل أصحاب الأيديولوجيات الأخرى المناهضة لهم. ولك أن تتذكّر هنا تلك التفسيرات السخيفة لمعسكر "الممانعة" بشأن سوريا (يشمل ذلك مصر وسواها)، والتي تعيد تفوق معسكر النظام إلى التفاف الشعب من حوله، لكأن إيران لم تحضر بقوة حين ترنّح، ومن بعدها روسيا التي حرقت الأخضر واليابس، أو لكأن المعادلة الدولية برمتها لم تكن مع بقائه، بما في ذلك الإرادة الصهيونية التي وجّهت المواقف الغربية.
تلك سنن الله في الخلق والكون، وأن يعجز البعض عن فهمها، فتلك مشكلته؛ وإن ساهم بعض الدعاة والقادة في الحالة الإسلامية في تزييف المعادلة؛ بحُسن نية بالطبع، الأمر الذي أفضى إلى حالة من الإحباط في أوساط الشباب.
قرار المواجهة إن كانت عسكرية أم سياسية ينبغي أن يخضع لتقدير موقف دقيق، ولقراءة واعية لموازين القوى، ومن يخطئ في ذلك؛ يتحمّل وزر الخطأ، وليس من قاتلوا أو واجهوا، حتى لو ذهبوا يبحثون عن تفاصيل أخرى لتفسير الهزيمة؛ تاركين سببها الأصلي.
الحديث طويل، لكنها سطور محدودة في توصيف جدل يتكرر يوميا منذ اندلاع الربيع العربي، ولغاية الآن، وإن تابعناه في محطات كثيرة، ويبدو أنه لن يتوقف مع الأسف، ما لم يفهم المعنيون جوهر المعادلة على نحو صائب، سواءً كانوا قادة أم أفرادا؛ أعضاء في تجمعات أم أفرادا مستقلين.