اتساع الفجوة ونمو الجفوة بين جيل الأبناء والآباء، وتطورها إلى عقوق، وأحيانا إلى شذوذ أخلاقي مخالف لفطرة العلاقة الأسرية الطبيعية، وخلل نفسي من الأبناء تجاه الوالدين، ظاهرة خطيرة تحتاج إلى إبحار من نوع جديد في أعماقها لكشف أسبار الظاهرة والتعاطي معها وعلاجها والوقاية المبكرة منها.
1- مفهوم
العقوق.
2- مخاطر العقوق القريبة والبعيدة، الفردية والاجتماعية.
3- الواجبات الشرعية على الوالدين تجاه الأبناء.
4- استحقاقات الوفاء بحقوق الأبناء.
5- أهم وأخطر أشكال عقوق الوالدين في واقعنا المعاصر.
6- سؤال الوقاية والعلاج.
1- مفهوم العقوق ومخاطره القريبة والبعيدة، الفردية والاجتماعية
العقوق هو القطع والعصيان والجحود ونسيان الفضل، وأصل وواجبات وحقوق العلاقة ومنه:
أ- عقوق الابن لوالديه بعدم الوفاء - بمعنى التقصير- بحقوقهما الشرعية والإنسانية الواجبة عليه تجاههما، حيين وميتين، ناهيك عن الإساءة إليهما.
ب- عقوق الوالدين للأبناء وعدم الوفاء بحقوقهما الشرعية في الرعاية والتربية والتنشئة. وتختلف وتتطور أشكال العقوق بتطور حركة وواقع الحياة وتغير معطيات الحياة وأشكال الواجبات والحقوق المستحقة بين الوالدين والأبناء.
وحديثنا هنا عن الشكل الثاني للعقوق وهو عقوق الوالدين للأبناء.
2- المخاطر القريبة والبعيدة، الفردية والاجتماعية
بطبيعة الحال يتخلف الأثر الناتج عن العقوق بطبيعة وشكل هذا العقوق، ولكن بشكل عام يمكننا حصر عدد من النتائج العامة متكررة الحدوث لعقوق الوالدين للأبناء:
- ضعف وقصور تربية الأبناء وضعف وخلل؛ وربما انحراف في شخصيتهم وسلوكهم.
- ضعف فرصتهم في النجاح في الحياة.
- سوء العلاقة بين الوالدين والأبناء، وتفكك وتباعد
الأسرة وجدانيا ونفسيا وعضويا.
- رد الفعل العكسي المباشر بعقوق هؤلاء الأبناء لوالديهم.
- تفكك البناء الأسري والاجتماعي للمجتمع ونمو معدلات الانحراف والجريمة، وضعف الأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع.
3- الواجبات الشرعية على الوالدين تجاه الأبناء
مهمة
التربية والتزكية وإصلاح الذات، وتمكينها بأدوات الفعل والإنجاز والنجاح في الحياة لبناء الإنسان والمجتمع الصالح المصلح، هي مهمة كل مسلم في الحياة بداية من تربيته لنفسه، ثم يضاف إليها من يعول من زوجة وأبناء، أو من يعول في نطاق عمله المهني إن كان من العاملين في مجال بناء الإنسان في التربية أو الثفافة والإعلام والشباب.. الخ.
حيث قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: "ألا كُلّكُم راعٍ، وكلّكُم مسؤولٌ عن رعيّتهِ، فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ، وهو مسؤولٌ عن رعيّتهِ، والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتهِ، وهو مسؤولٌ عنهم".
4- استحقاقات الوفاء بحقوق الأبناء
في هذا السياق يمكن تحديد أهم حقوق الأبناء على الآباء والأمهات، أو ما نسميه أهم الواجبات الأساسية الكبرى اللازمة على الوالدين تجاه الأبناء وكل قدر الاستطاعة المتوفرة:
أولا: واجبات التأسيس: بداية من حسن اختيار الزوج والزوجة، وحسن التسمية، والعدل بين الأبناء.
ثانيا: واجب الرعاية الفسيولوجية الكاملة قدر الاستطاعة من مأوى ومأكل وملبس وعلاج.
ثالثا: واجب التربية والتنشئة الإسلامية المبكرة منذ العام الأول، وصولا إلى سن البلوغ والتكليف. ولكل مرحلة استحقاقاتها التي يجب الوفاء بها، والتي تتطلب أهلية الوالدين لهذه المهمة خاصة في ظل الواقع المعاصر المليء بالتحديات والتعقيدات المختلفة.
رابعا: واجب بناء العلاقة الأسرية والإيمانية الدقيقة العميقة القوية.
خامسا: واجب التربية المبكرة على تحمل المسؤولية ومواجهة مطالب وتحديات الحياة المعاصرة بثقة وكفاءة واقتدار.
والتي يحتاج كل منها إلى استحقاقات يجب توفرها لدى الوالدين، وبطبيعة الحال هي استحقاقات نسبية.
ولكن لا بد أن يتوفر منها الحد الأدنى اللازم لتحقيق الواجبات المطلوبة، وإلا وقع الخلل وحدث العقوق. وسأضع هنا ثلاثة استحقاقات لازمة لضمان تحقيق الحد الأدنى من هذه الواجبات اللازمة.
أولا: واجبات التأسيس: بداية من حسن اختيار الزوج والزوجة، وحسن التسمية، والعدل بين الأبناء
1- حسن اختيار شخصية الزوج والزوجة، وطبيعة الشخصية ومستوى الفهم والالتزام الديني، وجودة النسب العائلي، والتوافق الثقافي والاجتماعي بين الطرفين، بما يؤسس للتفاهم بين الزوجين وبناء أسرة قوية متماسكة وناجحة، توفر المحضن الأساس للأبناء.
- حيث أكد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن اختيار الزوجة الصالحة يأتي من بين حقوق الأبناء على آبائهم، فإذا صلحت الأم صلح البيت. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "تُنكَحُ المرأةُ لأربَعٍ: لمالِها ولحَسَبِها ولجَمالِها ولدينها، فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَداكَ".
2- حسن اختيار الأسماء التي سيعرفون بها طيلة حياتهم ودلالتها في بناء وتكوين شخصيتهم.
3- العدل بين البنين والبنات، وبينهم جميعا، بجودة توزيع الاهتمام والرعاية المعنوية والمادية بينهم جميعا.
– حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "اتَّقوا اللهَ، واعْدِلُوا بينَ أولادِكمْ، كما تحبونَ أن يَبَرُّوكُم".
ثانيا: واجب الرعاية الفسيولوجية الكاملة قدر الاستطاعة من مأوى ومأكل وملبس وعلاج.
– قال تعالى: "وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة).
1- توفير المسكن المناسب بحد أدنى غرفة أو سرير خاص لكل ابن، وغرفة خاصة لكل بنت أو بنتين، ومنزل أو شقة في عمارة ومكان وبيئة مناسبة أخلاقيا واجتماعيا، بعيدا عن الأماكن الموبوءة أخلاقيا واجتماعيا لأنها تشكل عاملا أساسيا في بناء شخصية الأبناء.
2- توفير المأكل الصحي المناسب قدر الاستطاعة، والذي يتطلب من الأم حدا مناسبا من الثقافة الغذائية اللازمة لتلبية الاحتياجات الغذائية للأبناء وفق الدخل المتاح.
3- الملبس المحتشم المناسب وفق قدرات الأسرة، والرعاية الصحية الوقائية والعلاجية اللازمة بحسب احتياجات كل مرحلة عمرية، والتي تتطلب من الوالدين ثقافة طبية مناسبة للوفاء بالحد الأدنى من وقاية الأبناء من الأمراض وعلاجهم.
ثالثا: واجب التربية والتنشئة الإسلامية المبكرة منذ العام الأول، وصولا إلى سن البلوغ والتكليف.
– قال تعالى: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ" (طه).
1- صلاح الوالدين ومساحات المعايشة اليومية اللازمة لتقديم القدوة والنموذج العملي لمعتقدات وقيم ومفاهيم وتعاليم الإسلام، والبيئة النوعية الحاضنة داخل المنزل (أوراد قرآن وذكر وتدبر وتعلم قرآن وسنة + شعائر تعبدية منتظمة + ثقافة ونمط حياة في كل شيء + أدوات ثقافة ومعرفة نظام ومعايير محددة في التعامل مع وسائل الإعلام المختلفة.. الخ).
- "وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً" (الكهف).
- "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً" (النساء).
- حديث "إن الله يُصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل دويرته وأهل الدويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم".
2- التأهيل التربوي المتخصص للوالدين في بناء القيم وتربية الأبناء في المراحل المختلفة.
3- توفير التعليم المناسب قدر الاستطاعة، والصحبة الداعمة، ومراكز النشاط المتنوعة المساعدة على اكتشاف مواهب الأبناء وتنميتها وصقلها مبكرا.
رابعا: واجب بناء العلاقة الأسرية والإيمانية الدقيقة العميقة القوية.
1- المحافظة على جودة العلاقة النموذجية بين الأب والأم، من احترام وتقدير متبادل يمنح الأبناء الاستقرار الوجداني والنفسي والإيماني الأساسي.
2- جودة العلاقة بين الوالدين والأبناء على قاعدة الحب والرحمة والتودد واللين والاحترام والمصاحبة والحوار والنقاش.
– عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قبَّل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحسنَ بنَ عليٍّ وعِندَه الأقرَعُ بنُ حابسٍ التميميُّ جالساً، فقال الأقرَعُ: إن لي عشَرةً من الولَدِ ما قبَّلتُ منهم أحداً، فنظَر إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثم قال: (مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ)" (رواه البخاري).
3- تأسيس العلاقة بين الوالدين والأبناء على أسس عقلية وعاطفية ونفسية واجتماعية ودينية متتالية ومتراكمة ومتكاملة، ومتناقسة تصنع صلابتها الذاتية.
خامسا: واجب التربية المبكرة على تحمل المسؤولية ومواجهة مطالب وتحديات الحياة المعاصرة بكفاءة واقتدار، والذي فرضه واقع الحياة الحديثة، وما تمر به المنطقة العربية من ظروف استثنائية خاصة تتطلب نوعا ومستوى معينا من الأبناء القادرين على المحافظة على الحد الأدنى من الحياة والعيش الحر الكريم.
1- الوسطية والاعتدال والرشد في البناء العاطفي والنفسي للأبناء، ومع مراعاة خصوصية النوع والفروق الفردية بين شخصيات الأبناء.
2- تدريب الأبناء منذ المراحل الأولى (ثلاث سنوات) على تحمل المسؤولية بما يناسب عمر الطفل وقدراته الذهنية والحركية، بداية من تدبير شؤونه من نظافة وتنظيم سريره وغرفته ومكتبه وواجباته، ومواعيده وعلاقاته وإدارته لمصروفه.. الخ، مع مشاركته تدريجيا في تحمل أعباء الإدارة المنزلية من مساعدة الأم وتدبير شؤون الأسرة، والمشاركة في قراراتها.. الخ.
3- تدريب الأبناء على مهارات وطرق التفكير المختلفة وصناعة قراراتهم بشكل منهجي صحيح بأنفسهم وتحمل نتائجها.
5- أهم وأخطر أشكال عقوق الوالدين في واقعنا المعاصر
لكل عصر طبيعته وتحدياته الخاصة به، مع ثبات وديمومة الحقوق والواجبات، مما يتطلب التزام المنهج الاستقرائي في فهم الواقع وفهم معطياته وحراكه وبيان أسبابه، مع الإدراك الجيد للحقوق والواجبات الشرعية حتى يتمكن الباحث والمفكر والعالم والمربي من ممارسة دوره الإصلاحي بحكمة واقتدار وفاعلية، عبر فهم الواقع وإنتاج العلاج المناسب له مكانا وزمانا وظرفا، بعيدا عن منهج الاستنباط الفوقي الذي يستند إلى فهم الواجبات والحقوق من نصوص الدين وإسقاطها إسقاطا مباشرا على الواقع وتعميمها من دون دراسته وتحليله وفهم أبعاده، مما يوجد غربة بين المصلح ومجتمعه، تنعكس على ضعف فاعلية الفعل الإصلاحي في
المجتمع.. وعبر تواصلنا مع الواقع ومحاولة تحليه وفهمه واجتهادنا (كمؤسسة قيمية هويتية) في فهم أبعاد أزمة عقوق الوالدين للأبناء وما أنتجتها من مشاكل وظواهر:
1- ضعف المنتج التربوي لهذا الجيل مقارنة بمن قبله وما يجب أن يكون.
2- الفجوة والجفوة بين جيل الأبناء والآباء.
3- انتشار ظاهرة عقوق الوالدين.
وجميعها تأتي كرد فعل ونتيجة مباشرة لعقوق الوالدين من الأساس.
أهم ظواهر عقوق الوالدين:
1- المشاكل الأسرية بين الوالدين وغياب الاستقرار الأسري، وضعف وربما فساد البيئة التربوية الحاضنة.
2- الأخطاء التربوية المتكررة من الوالدين نتيجة لضعف وغياب التأهيل التربوي المعاصر اللازم للوالدين؛ نتيجة نسخ تجاربهم الشخصية في واقع ومع جيل مختلف، وإصرارهم على فرض تصوراتهم وأفكارهم ومن ثم الاتساع المستمر للفجوة بين الوالدين والأبناء. (السيطرة- الشدة- الوعظ والتوبيخ- غياب الحوار- تباين التفكير والمفاهيم والتصورات..).
3- قلة مساحات التعايش مع الأبناء، والتي تصل أحيانا إلى ساعتين في الأسبوع من إجمالي 168 ساعة.
4- ضعف مستوى التقوى والقدوة التربوية المقدمة من الوالدين، وأحيانا وجود انحرافات، وأحيانا دخول مال محرم أو مكروه أو شبهة، وكلها تعد من مدمرات التربية وأخطر أشكال العقوق.
5- الحب والحرص الأعمى والذي ينتج الإفراط والتفريط في الواجبات التربوية الراشدة الواجبة.
6- دفع الأبناء مبكرا لسوق العمل وتعريضهم لمخاطر كبيرة لا قبل لهم بمواجهتها ماديا ونفسيا وأخلاقيا.
7- المفاهيم الخاطة الموروثة التي يورثها الوالدان للأبناء عبر الممارسة الحياتية اليومية المعتادة (الجبن والسلبية- المادة المفرطة- الكذب والمكر والخداع- الفردية والأنانية- التزلف والتملق والتسول.. الخ).
8- خلل الأولويات، وتوزيع الوقت والموارد نحو المأوى والمأكل والشرب والملبس، دون التعليم والتربية والتثقيف.. خلل وارتباك الإنفاق التعليمي والتربوي.
9- التفرقة بين البنين والبنات، وبين الأبناء وبعضهم البعض.
10- الاعتماد على الخدم الأجانب، أو غير المؤهلين في دول الخليج والعائلات الثرية وتلغيم الأسرة بألغام عقائدية وأخلاقية لا حدود لها.
6- سؤال الوقاية والعلاج
الوقاية ببرامج التأهيل المبكرة للمقبلين على الزواج، والعلاج بقناعة الوالدين بتقصيرهم وأخطائهم التلقائية المتكررة، وحاجتهم لتدارك وإعادة التأهيل وتغيير سياسات التعامل مع الأبناء.