مقالات مختارة

في الذكرى العاشرة للثورة المصرية العظيمة – ومضات موجعة

عبد الحميد صيام
1300x600
1300x600

عدت من القاهرة في منتصف شهر أكتوبر عام 2010 بعد زيارة عمل قصيرة. لاحظت أن مصر كانت تغلي وأن شيئا يمور تحت السطح. كل من التقيته يسهب في انتقاداته اللاذعة للحكومة ويتعجل أو يتمنى سقوطها. الانتقادات لم تكن سرية. حركات شبابية بدأت تنتشر. شرور أجهزة الأمن على كل لسان والتعليقات على الانتخابات المقبلة كانت تتسم بالتهكم والازدراء «فالحزب الوطني كان ينافس الحزب الوطني» كما قيل آنذاك.

 

بعد أن رجعت نشرت مقالا في هذه الصحيفة بعنوان: «عن البرادعي والنيل وأكواخ الفقراء» قلت فيه بالحرف، مقتبسا محادثة لي مع أحد الشباب المصريين: «أقسم لك إنني أرى التغيير للأحسن مقبلا من جيلكم – جيل الإنترنت والاتصالات، وهذا التغيير الحقيقي والحضاري لا يمكن إلا أن يبدأ من مصر لتعود إلى دورها التاريخي العريق لقيادة هذه الأمة نحو العزة والكرامة والانتصار». لم يتأخر ذلك التوقع كثيرا فبعد شهرين تقريبا بدأ الحراك الشعبي في مدينة سيدي بوزيد التونسية، وظل متواصلا إلى أن فرّ زين العابدين بن على. وبعد أسبوعين من التحضير، التقط شباب مصر الراية وأطلقوا ثورة 25 يناير العظيمة..

في كل يوم جمعة ابتداء من 25 يناير كان أبناء وبنات الجالية المصرية يتجمعون في الشارع الرئيسي بمدينة باترسون بولاية نيوجرسي، يرفعون شعارات تعكس وقوفهم ودعمهم لثورة شعبهم في مصر. كانت الوجوه كلها مشرقة، تحمل ابتسامات الأمل بعودة مصر إلى دورها التاريخي، وإسدال الستار على مرحلة مبارك التي طالت كثيرا، وبدأت ترتب الأوراق للتوريث على طريقة نظام الأسد في سوريا. الغالبية الساحقة من المتظاهرين كانوا من المصريين، ومعهم كثير من الفلسطينيين فهم أكثر الناس معرفة بدور مصر التاريخي في الوقوف مع فلسطين، ومدى التضحيات التي قدمها الشعب المصري في معارك الشرف والكرامة ضد العدو الصهيوني الذي يشكل خطرا على أمن مصر والأمة العربية، بمقدار ما يشكل خطرا على فلسطين، كما كان يكرر الزعيم الغائب الحاضر جمال عبد الناصر.

في الجمع التالية انتقلت المظاهرات التضامنية إلى ساحة داغ همرشولد أمام مبنى الأمم المتحدة. حجم المشاركة يزداد. الخطباء يرددون شعار الثورات العربية الهادر: «الشعب يريد إسقاط النظام». يوم استقالة مبارك تدفق الآلاف إلى الساحة نفسها للاحتفال. كان الناس يرقصون ويغنون ويهنئون بعضهم بعضا. رقصنا معهم ورقصت قلوب الأمة العربية الشريفة مع انتصار ثورة «كفاية» و6 أبريل و»كلنا خالد سعيد» والحراك الشعبي وشباب ميدان التحرير، ودموع وائل غنيم، وشريط «أسماء محفوظ» الذي حرك مشاعر الأمة كلها.. بدأنا ننتظر الحصاد.

أستاذ زائر من مصر التحق بجامعتنا لتدريس فصلين في موضوع الاقتصاد. ودعناه في نهاية شهر مايو 2010 وعاد إلى جامعته في مصر. كنا نشاهد على التلفزيون أداء اليمين الدستورية لأول حكومة بعد انتصار الثورة في عهد المشير حسين الطنطاوي، وإذا بنا نفاجأ بتعيين زميلنا وزيرا في الحكومة الجديدة. جاء زائرا أثناء توليه الوزارة بدعوة من جامعة أمريكية لإلقاء محاضرة. توقف ليومين في نيويورك، اتصل بنا ودعانا لتناول الفطور معه في الفندق، وهذا ما رواه لنا نقلا عما سمع من المشير الطنطاوي، والله شاهد على صدق ما أقول: «جاءت طائرة خاصة من المملكة العربية السعودية، ولم يكن فيها إلا وزير الخارجية سعود الفيصل ومعه وزير المالية، وقد توجها لاجتماع مغلق مع المشير. قال سعود الفيصل مخاطبا الطنطاوي جئت بطائرة خاصة وأريد أن أصطحب معي الرئيس مبارك. تحضرونه من السجن الآن وأعود به إلى السعودية، وهذا وزير المالية، أطلب المبلغ الذي تريد». فرد عليه المشير، والكلام لزميلنا الأستاذ، لا أستطيع يا سيادة الوزير، لو أخرجناه من السجن وسلمناه لكم «حتولع القاهرة الليلة».

 

الثورة ما زالت في الشوارع. وعاد الوزيران إلى بلدهما بخفي حنين». قلت لزميلي أتظن أن المشير حكى لك القصة كاملة؟ قال لا نعرف هذا ما سمعناه فقط. قلت في نفسي لقد تم الاتفاق مع الجيش إذن، اللهم احم الثورة المصرية مما يحاك لها.

حملة الانتخابات الرئاسية في مصر الأولى من نوعها، منافسة حقيقية في الجولة الأولى في مايو 2012 تنافس فيها 13 مرشحا. والجولة الثانية عقدت بين محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة (الإخوان المسلمون) وأحمد شفيق آخر رئيس وزراء مبارك. الخيار الذي تركه الجيش للشعب المصري: اختاروا بين الإخوان المسلمين أو امتدادات مبارك الذي ثرتم عليه. قالت لي صديقتي المصرية مسؤولة مكتب الإعلام التابع للبعثة المصرية لدى الأمم المتحدة، ونحن نبحث موضوع الانتخابات «إذا فاز مرسي سيقوم الجيش بانقلاب، وإذا فاز شفيق ستنطلق الثورة من جديد ولكن بشكل أكثر عنفا». كيف؟ سألتها. قالت القوات المسلحة لن تقبل أن يحكم البلاد «الإخوان المسلمون» ليحولوها إلى دولة دينية تعامل الناس على أساس رؤيتهم هم للدين. الشعب المصري كله متدين بالسليقة، لكنه لا يقبل أن يحكمه من يقول له يجب أن تتلقى معلوماتك عن الدين مني.

 

ثم متى يقبل الإخوان المسلمون التخلي عن السلطة، ألم تتحكم حماس بقطاع غزة؟ هل ترك الترابي وجماعته خناق السودان، ألم تعلن الجماعة الإسلامية في الجزائر وهي تستعد للفوز بالانتخابات بأن لا ديمقراطية في الإسلام. الإخوان المسلمون يستعملون الانتخابات سلّما يصعدون بواسطته إلى سدة الحكم ثم يكسرون ذلك السلم وهذا لن يقبل به الجيش. أما إذا فاز أحمد شفيق فسيعتبر الشعب المصري أن الجيش طعنه في كرامته، حيث أخرج مبارك من الباب وأعاد مبارك بصيغة معدلة من الشباك. وستنطلق الثورة من جديد. كلما التقيت مع زميلتي المصرية التي انتقلت لتعمل في المنظمة الدولية، ذكرتها بما قالته لي وبدقة تحليلها عشية الانتخابات.

في الدورة السابعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2012 كان الجميع ينتظر خطابات أربعة رؤساء دول عربية أفرزتهم ثورات الربيع العربي: التونسي المنصف المرزوقي والليبي مصطفى عبد الجليل واليمني عبد ربه منصور هادي والمصري محمد مرسي. مرسي أول رئيس مدني ينتخب لرئاسة دول مهمة مثل مصر بنسبة 51.73%.

 

كان خطابه رصينا ومحكما وغير مألوف، خاصة في بدايته حيث استغرق نحو دقيقتين وهو يسبح ويحمدل ويحوقل ويدعو ويستذكر الآيات والأحاديث والرد على منتقدي الرسول العظيم، مذكرا بوصف رب العالمين له. لكن الأهم أن قضية فلسطين أخذت الحيز الأكبر من كلمته واستعمل أكثر من مرة مصطلح جهاد الشعب الفلسطيني، ووعد أن يقف إلى جانب هذا الشعب المظلوم، وحمّل المجتمع الدولي عار فشل تحقيق السلام العادل والدائم وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

في اليوم التالي للخطاب، وإذا بمكالمة تصلني من مكتب المذيع المشهور شارلي روز يطلب مني، إذا كنت أقبل الحضور في اليوم التالي إلى الأستوديو للترجمة لمقابلة سيجريها روز مع شخصية عربية رفيعة. ذهبت قبل الوقت لأكتشف أن الشخصية الرفيعة هي الرئيس محمد مرسي. لقد لاحظت الفرق بين مرسي في خطابه المعد سلفا أمام الجمعية العامة، ومرسي المتردد الذي يجيب عن أسئلة متلاحقة من صحافي متمرس، ورأيت كيف تكشف المقابلات الإمكانيات والحضور والملكة والفطرة والحنكة وسرعة البديهة. تواضعا من الرجل بعد انتهاء المقابلة وقف معنا وسلم علينا جميعا، وقد انتهزتها فرصة للثناء على كلمته وما قاله عن فلسطين. رحمه الله.

روى لي الشيخ عبد الفتاح مورو، نائب رئيس حزب النهضة التونسي، وهو حي يرزق ومقابلته نشرت في «القدس العربي» قال: بعد فوز حزب الحرية والعدالة بالانتخابات في مصر، بدأ محمد مرسي التشاور لتشكيل الوزارة، دعيت إلى مصر للقاء مكتب الإرشاد وتقديم النصيحة لهم، بعد أن قامت حركة النهضة، رغم فوزها الكاسح في أول انتخابات حرة في تونس بتشكيل ائتلاف مع حزبين علمانيين هما المؤتمر والتكتل. قال دخلت على مكتب الإرشاد وفيه ستة من أعضائه من بينهم عصام العريان ومحمد سعد الكتاتني ومحمد مرسي وخيرت الشاطر وآخران. وبعد أن تكلمت عن تجربة تونس نظرت إليهم وقلت: «إياكم أن تستأثروا بالسلطة» فرد عليّ خيرت الشاطر قائلا بنوع من التهكم «تشرب حاجة؟» ففهمت أن الاجتماع انتهى. قلت لهم وأنا أقف بالباب: «آمل عندما أزوركم في المرة المقبلة ألا يكون بيني وبينكم قضبان».

اتصل بي صديق عزيز من ميدان التحرير بعد منتصف الليل مساء الثالث من يوليو عام 2013، بعيد إعلان وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي عن اعتقال الرئيس محمد مرسي. كان صوته ينم عن بهجة عظيمة. قال لي أسقطنا الرئيس الثاني لمصر خلال سنتين. في مصر الآن رئيسان يقبعان في السجن. لن يجرؤ أحد بعد اليوم أن يقف ضد إرادة الشعب المصري. قلت له أخشى أن يكون تفاؤلك مبكرا.. العسكر يا رفيق لا يؤتمن جانبهم.

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)

خبر عاجل