مقالات مختارة

يناير شهر الثورة وموقعة الجمل.. واستفحال ظاهرة البلطجة!

محمد عبد الحكم دياب
1300x600
1300x600

القضايا الشائكة والأمور العامة الاستثنائية ليس شرطا فيها أن تكون فيها كلمة القضاء هي الحاسمة، فقضية قتل متظاهرين وإصابة آخرين منهم بميدان التحرير في أثناء ثورة 25 يناير 2011، من ذلك النوع المقصود، ففي «الأربعاء الدامي» في الثاني من شهر شباط- فبراير 2011، المتعارف عليه إعلاميا بـ«موقعة الجمل»، وبعد مرور عشر سنوات، ما زال ذلك لغزا.

 

وجاء حكم القضاء الذي صدر ببراءة جميع المتهمين فزاده تلغيزا، مع أن العوار القانوني واضح فيه وضوح الشمس، وعاد معه «الطرف الثالث» الذي صاحب الثورة من البداية؛ بغموضه وألغازه، ويبدو أن المصريين محقون في تسميته «اللهو الخفي»؛ صفة لعفاريت وشياطين الإنس، وذلك ما جعل ثقل وأوزان المتهمين بقتل المتظاهرين تنتهي بهم إلى البراءة.


وبدون حاجة لحكم محكمة ولا لقرار قاضي ببراءة غير مبررة، لجميع المتهمين باقتراف تلك الجرائم في وضح النهار، وعلى رؤوس الأشهاد، ومن خلفهم ملايين المتظاهرين والمحتجين في مصر من أقصاها إلى أقصاها، وتلك جرائم لا تسقط بالقِدَم أو التقادم، فالمنطق يقول ليس من الإنصاف ولا المروءة اختيار منظومة قانونية سقطت، وبالية وقديمة وجائرة، والتعامل بها مع حراك ثوري وصل ذروته في الأيام الثمانية عشر المجيدة من 25 كانون الثاني/يناير حتى 11 شباط/فبراير 2011، ومع أنها وئدت بعد ذلك، لكنها ما زالت كامنة وفي بيات شتوي، حتى تأتي لحظة تاريخية مواتية.


وعلينا أن نعي أن «العدالة الانتقالية» مطلوبة في مثل هذه الظروف الاستثنائية، وخروج ملايين المواطنين إلى الشوارع والميادين للاحتجاج والتظاهر والتعبير عن المطالب المشروعة، وقد غطت مصر من أقصاها إلى أقصاها، ومثل تلك الأحداث الاستثنائية تحتاج معالجات استثنائية.


فـ«العدالة الانتقالية» مطلوبة في التعامل مع حماقات ومظالم وتجاوزات وجرائم مرتَكَبة في فترة حكم طال أكثر من اللازم. ورئاسات تعفنت وجارت وتجبرت، وتختلف العدالة الانتقالية في كل شيء عن العدالة الجنائية والتقليدية، وتفتح أمام الثورة والثوار طريقين، الأول: تأسيس لقواعد وآليات قادرة على إزاحة رواسب وتراكمات مخلفات العنف وشبح الموت المعشش في الأركان، بفعل سياسات وقوانين كرست ما لا يُكرس، ولا يمكن الاعتماد عليها. والثاني: معالجة الآثار التي ترسبت من الانتهاكات الواسعة والممنهجة التي طالت كل ما هو نظيف وصالح ومستقيم ونزيه، ولا يمكن لهذا أن يتم دون مشاركة فعالة من المواطنين؛ أصحاب المصلحة الحقيقية في بناء وطن حر وإقامة حياة كريمة، والاستماع إليهم والتخفيف عنهم وبحث شكاواهم.


وكل ذلك غاب بسبب معالجة أعمال القتل، ومتابعة الإصابات التي نجمت عن الهجوم المباغت من بلطجية جاؤوا من خارج حدود ميدان التحرير؛ أستخدمت في مواجهتهم منظومة قانونية سقطت مع الثورة، ولم تعد آلياتها صالحة للمعطيات الجديدة، وكان ميدان التحرير مكانا مختارا من قِبَل المتظاهرين؛ يتجمعون فيه ويعبرون عن مطالبهم بشكل سلمي؛ شديد الرقي، مع نظائره في باقي أنحاء مصر.


ويبدو أن المحكمة لم يصل إلى سمعها هدير الملايين وهي تؤذن للثورة بصوت واحد «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية»، وسقط في سبيله مئات الشهداء وآلاف المصابين والجرحى، وجاءت حيثيات حكم المحكمة صادمة؛ صدرت في 60 صفحة، معلنة عدم اطمئنانها لصحة الاتهام المُسند إلى المتهمين، وكأنها محكمة من كوكب آخر يبعد عن كوكبنا الأرضي آلاف السنوات الضوئية.


وتصر الحيثيات على «أن أوراق القضية خلت من أي دليل يقيني وجازم على ما نسب إليهم من اتهام بالتحريض على ارتكاب الجريمة أو الاتفاق والمساعدة على ذلك»(!!) وتزيد «إن أوراق القضية تفتقر إلى الأدلة، وأقوال شهود الإثبات لا يوجد بها أي دليل يقيني يؤيدها وتطمئن المحكمة إليه، الأمر الذي يجعلها محل ريب وشكوك ولا تطمئن إليها المحكمة(!!) وأن الشهادات جاءت سمعية وظنية واستنتاجية، ونقلا عن مصدر مجهول، لم تكشف عنه التحقيقات، وأكثرها عما تم ضبطهم بمعرفة المتظاهرين داخل ميدان التحرير»(!!) وما غاب عن المحكمة واضح بأنهم ضبطوا متلبسين والتلبس من أقوى الأدلة الجنائية!!

«العدالة الانتقالية» مطلوبة في التعامل مع حماقات ومظالم وتجاوزات وجرائم مرتَكَبة في فترة حكم طال أكثر من اللازم، ورئاسات تعفنت وجارت وتجبرت

والعوار القانوني والأخلاقي واضح من الحيثيات الصادرة في 11-12-2012 فبرأت 24 متهما؛ يمثلون خليطا من مسؤولي الحزب الوطني المنحل، ومن أعضاء مجلسي الشعب والشورى، ومن رجال الأعمال المتهمين بالقتل والتحريض على قتل المتظاهرين في يومي 2 و3 شباط/فبراير 2011 بميدان التحرير، وهذه صورة مختزلة تبين مناصبهم وأوضاعهم، وإمكانياتهم؛ بما لكل ذلك من تأثيرات سلبية على الثورة، وعلى اعتبار أنفسهم فوق الحساب وفوق القانون، ويملكون القدرة على تعطيل العدالة الناجزة، وإخراجها عن مسارها الصحيح، وجاءت البراءة، وكأنها تطرح سؤال: هل الضحايا هم من قتلوا أنفسهم؟! وكأن ما تناولته الشهادات الشفاهية والموثقة فضلا عن التلبُّس، وكل ذلك تم على رؤوس الأشهاد، وفي مدى رؤية من عاشوا الأحداث، وكانوا شهودا على الجرائم وعلى مقترفيها.


ومن حصلوا على البراءة هم؛ عبدالناصر الجابري عضو مجلس شعب (برلمان) وانقضت الدعوى الجنائية ضده بسبب الوفاة، والباقون الحاضرون هم؛ صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى المنحل، وماجد محمود يونس الشربيني، أمين تنظيم الحزب الوطني المنحل بالجيزة. ومحمد الغمراوي وزير إنتاج حربي أسبق، وداود حسن خليفة، وأحمد فتحي سرور رئيس مجلس شعب أسبق، ومحمد أبوالعنيين، ملياردير، مقرب من عائلة حسني مبارك وعضو بلجنة السياسات.

 

وكانت بمنزلة «حكومة موازية» برئاسة جمال مبارك، ويجد أبو العينين حاليا رعاية خاصة من رئيس الدولة، ويوسف عبداللطيف خطاب عضو مجلس شورى سابق بالجيزة، وشريف حسن أمين والي أمين عام الحزب الوطني بمحافظة الجيزة، ووليد ضياء الدين صالح، وعائشة عبدالهادى وزيرة قوى عاملة وهجرة سابقة، وحسين قاسم مجاور رئيس اتحاد عمال مصر، وإبراهيم كامل أبو العيون، ملياردير، عضو أمانة عامة بالحزب الوطني المنحل، وأحمد شيحة، عضو مجلس شعب سابق عن الدرب الأحمر بالقاهرة، وحسن التونسي، عضو مجلس شعب، بدائرة الخليفة بالقاهرة، وإبراهيم فرحات، ورجب هلال حميدة، عضو مجلس شعب سابق عن دائرة عابدين بالقاهرة. وطلعت القواس، عضو مجلس شعب سابق عن دائرة عابدين، وإيهاب أحمد سيد بدوي وشهرته إيهاب العمدة، عضو مجلس شعب سابق عن الزاوية الحمرا بالقاهرة، وعلي رضوان أحمد محمد، وسعيد سيد علي عبدالخالق، عضو مجلس شعب سابق، بدائرة باب الشعرية بالقاهرة، ومحمد محمد عودة عابد، وحسام الدين علي مصطفى حنفي، وهاني عبدالرؤوف إبراهيم.


ومن برأتهم المحكمة غيابيا هم؛ مرتضى أحمد محمد منصور؛ المتهم بالتحريض ضد المتظاهرين؛ في خطاب مسجل وجهه للمتجمعين في ميدان مصطفى محمود، ولم يمتثل منصور لقرار المحكمة بضبطه وإحضاره، وأحاطت قوات الشرطة مسكنه لنحو ثلاثة أسابيع متواصلة، وفي النهاية عجزت عن تنفيذ قرار المحكمة؛ واعتمد منصور على حصانة قضائية يتمتع بها زوج ابنته (قاضي اسمه هشام الرفاعي) فأقام عنده، وحصل ابنه أحمد مرتضى منصور على البراءة، وبالمثل أحمد وحيد صلاح جمعة نجل شقيقته. وقضت المحكمة برفض الدعاوى المدنية وإلزام رافعيها بالمصاريف وبمبلغ مائتي جنيه وأتعاب المحاماة.


وآلت البلطجة إلى ما يشبه المليشيات المنظمة؛ رعاها وتولى تمويلها وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، المسؤول عن ملف التوريث واستخدمها في التنكيل بالخصوم السياسيين، والاعتداء على الوقفات الاحتجاجية، وزاد ذلك استفحالا بعودة جمال مبارك من الخارج، وعمله على تحقيق تطلعاته السياسية؛ من خلال جمعية «جيل المستقبل» وانتهاء بلجنة السياسات، وكانت أحط أعمال البلطجة؛ ما تم أمام نقابة الصحفيين، في أيار/مايو 2005، واستهداف فتيات وسيدات صحفيات والتحرش بهن جنسيا بطريقة حيوانية.


وأثارت تصريحات لأبو العلا ماضي مؤسس حزب الوسط الإسلامي عن اعتماد الشرطة وأجهزة الأمن على البلطجية؛ أثارت ضجة واسعة وقتها، وفضلا عن هذه التصريحات فثمّة الكثير من ما يمكن أن يُقال عن العلاقة التي ربطت حكم مبارك بالبلطجة، وهناك تقارير مؤكدة عن دور حكمه في تنظيم شبكات مترابطة لها، واستخدامها في الاعتداء على الخصوم السياسيين، أو الإرشاد عنهم وملاحقتهم.

 

وتوظيفها في اختراق أوكار ومواطن الإجرام المتنوعة، خاصة المتعلقة بالسلاح والمخدرات، وذلك سهّل على جهاز أمن الدولة بسط نفوذه وسط تلك الأوكار ومواطن الجريمة. وأشارت تقارير استقصائية إلى مساهمة أفراد من الشرطة، تحت عين القيادات، في أنشطة مخالفة للقانون، منها على سبيل المثال دور أمناء الشرطة في الإشراف على مواقف سيارات الأجرة غير الشرعية.

 

وتوظيف البلطجية في استثمارات أمناء الشرطة في حافلات ركاب تعمل على خطوط داخلية في المدن والأحياء والضواحي وبين القرى!!

 

(عن صحيفة القدس العربي)

التعليقات (0)