هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كتب المحلل البارز في مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل، ناثان ثرول، عن نظام الفصل العنصري لدى الاحتلال الإسرائيلي في تناوله لـ"وهم أنظمة الحكم المنفصلة".
وكتب تحت عنوان "نظام الفصل العنصري في إسرائيل"، في موقع "لندن ريفيو أوف بوكس"، منتقدا خطط الضم لدى رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، مؤكدا أنها تتسبب بانقسام داخلي.
ولفت إلى أن المعارضين لخطط الضم، يؤكدون أنها ستفضي إلى إقامة دولة فصل عنصري "أبارتيد".
وتاليا النص الكامل للتقرير كما ترجمته "عربي21":
في نيسان/ إبريل الماضي، نشرت صحيفة هآريتز بياناً يحذر الحكومة الإسرائيلية من مغبة الضم الرسمي للمستوطنات في الضفة الغربية. وكانت استطلاعات الرأي قد كشفت عن أن الجمهور لا يعبأ كثيراً بهذه القضية، رغم أن النخب السياسية تنهمك في نقاش شديد حولها.
يزعم الطرفان، من يؤيد الضم منهم ومن يعارضه، بأن مستقبل إسرائيل والصهيونية بات على المحك.
يرى الموقعون على البيان أن "الضم يعني توجيه ضربة قاتلة لإمكانية تحقيق السلام وأنه سيفضي إلى إقامة دولة أبارتيد (فصل عنصري)".
وقع على البيان ستة وخمسون عضواً سابقاً من أعضاء الكنيست، من بينهم وزراء سابقون في الداخلية والخارجية والمالية بالإضافة إلى مسؤولين سابقين فيما يزيد عن عشر دوائر أخرى، وكذلك سفراء سابقون وقادة عسكريون سابقون في الجيش الإسرائيلي، ورؤساء أحزاب سياسية سابقون، ورئيس الوكالة اليهودية شبه الحكومية في إسرائيل، ورئيس سابق للكنيست، وفائز بجائزة إسرائيل.
لم تقتصر قائمة الموقعين على من ينتسبون إلى الفصائل اليسارية في إسرائيل بل شملت أيضاً العشرات من أعضاء أحزاب الوسط ويسار الوسط، بل وفيهم أيضاً وزير عدل سابق هو مائيرشتريت الذي ينتمي إلى حزب الليكود اليميني.
في الأسبوع التالي قام الحزبان الأكبر في الكنيست – الليكود وأزرق وأبيض الوسطي، وهما معاً يملكان أغلبية المقاعد البرلمانية – بالتوقيع على اتفاق لتشكيل حكومة ائتلافية بإمكانها أن تطبق السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية في موعد لا يسبق الأول من تموز/ يوليو، بعد أن تكون إسرائيل والولايات المتحدة قد أتمتا إعداد خرائط الضم.
تطالب هذه الخرائط، وهي نسخ مفصلة من تلك التي عرضها ترامب ضمن خطته للسلام، بضم ثلاثين بالمائة من الضفة الغربية، ما يترك للفلسطينيين "دولة" تتشكل من عدد من الكانتونات غير المتصلة والمحاطة كلياً بالأراضي الإسرائيلية.
كما اقترحت خطة ترامب سحب الجنسية من حوالي ربع مليون من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل عبر نقل عشر بلدات إسرائيلية إلى ولاية (نطاق اختصاص) الدولة الفلسطينية المستقبلية. وبنهاية ذلك الأسبوع وافق حزب العمل الإسرائيلي، الذي بدأ مشروع الاستيطان، على الانضمام إلى الحكومة الجديدة وعلى التصويت لصالح الضم.
معظم الصحف الإسرائيلية أساءت تفسير الاتفاق بين حزب الليكود وحزب أزرق وأبيض، حيث عامل الصحفيون الأول من يوليو / تموز ليس على أنه أبكر تاريخ يمكن أن يتم فيه الضم وإنما باعتباره الموعد الأخير لإنجاز ذلك، مما أوجد شعوراً بالإلحاح تجاه الإجراء. وفي الأيام التي تبعت توقيع اتفاقية الائتلاف أطلقت الجماعات الصهيونية الليبرالية صيحاتها للمعركة. وكانت أسبابهم لمعارضة الضم قوية ومعبرة.
كان القلق بشأن حقوق الإنسان يأتي في العادة في المرتبة الثانية بعد القلق إزاء الضرر الذي قد يلحقه الضم بإسرائيل. فقد حذروا من أنه سيقوض الانطباع عن إسرائيل بأنها ديمقراطية. وحثوا الإسرائيليين على عدم توفير مزيد من الزخم للحملات التي تروج للمقاطعة أو تطالب بتقليص المساعدات الاقتصادية والعسكرية، ونبهوا إلى أن الضم سوف لن ينجم عنه سوى توسيع الهوة بين إسرائيل والشتات اليهودي.
ولوحوا بالهاجس الذي ترتعد له فرائص اليسار الصهيوني، والمتمثل في أن إسرائيل سوف تضطر في نهاية المطاف إلى منح الجنسية لجميع الفلسطينيين الذين يعيشون تحت سيطرتها – هناك ما يقرب من خمسة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكلهم الآن بدون جنسية إسرائيلية، وهناك ما يقرب من 360 ألفا في القدس الشرقية التي تم ضمها، وهؤلاء يحمل تسعون بالمائة منهم حق الإقامة الدائمة ولكن ليس الجنسية ولا حق التصويت في الانتخابات العامة – الأمر الذي سيقضي على وجود إسرائيل كدولة يهودية، ويأتي على كل ما يتمتع به اليهود دون غيرهم من امتيازات.
(في عام 2018، ذكر مسؤول في الجيش الإسرائيلي أن الفلسطينيين يتفوقون عددياً على اليهود في المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط). وكانت المجموعة الصهيونية الليبرالية السلام الآن قد أكدت أنه "سواء شمل الضم مستوطنة واحدة أو كافة المستوطنات، فإن تلك الخطوة ستشكل الأساس الذي ستقوم عليه دولة الأبارتيد (الفصل العنصري). إن الضم ضار بإسرائيل وسيء لها." أما جيه ستريت، مجموعة الضغط التي تتخذ من واشنطن مقراً لها والمتحالفة مع الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة فقالت: "بكوننا أمريكيين مناصرين لإسرائيل ومؤيدين للسلام فإننا نعتقد أن الضم سوف يشكل خطراً على مستقبل إسرائيل كوطن ديمقراطي للشعب اليهودي، كما سيشكل خطراً على مستقبل العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية."
كثير ممن يعارضون الضم يقرون بأن المنطقة باتت بحكم المضمومة في واقع الأمر وبأنها لسوف تبقى في قبضة إسرائيل. وفي ذلك يقول يائير لابيد، زعيم المعارضة ورئيس حزب ييش آتيد الوسطي، إن الضم الرسمي لم يعد ضرورياً لأن المساحة الضخمة التي يتم الحديث عنها، وادي الأردن، والتي تشكل ما يزيد عن ربع مساحة الضفة الغربية وتضمن إحاطة إسرائيل الكاملة بالسكان الفلسطينيين من كل الجهات، "غدت الآن جزءاً من إسرائيل، ولا يوجد من يهدد بانتزاعها منا".
أما عاموس جلعاد، الذي كان حتى عام 2017 واحداً من أكبر المسؤولين في وزارة الدفاع، فقال إن أفضل وسيلة لضمان استمرار السيطرة الدائمة لإسرائيل على وادي الأردن هي زيادة المستوطنات اليهودية بدلاً من مجرد الحديث عن الضم، وأضاف: "بإمكان الحكومة اتخاذ إجراءات تضمن أن يصبح وادي الأردن موطناً لعشرات الآلاف من الإسرائيليين وليس فقط عدة آلاف منهم". وهذا يعني أن نقاش الناس في التيار العام لم يكن حول ما إذا وإنما حول كيف يتم تكريس احتفاظ إسرائيل بأراضي الضفة الغربية.
وجد النقاد صعوبة في صياغة سبب مقنع يحول دون أن تمضي إسرائيل في إعلان الضم بشكل رسمي بينما هو متحقق في أرض الواقع. إحدى المحاولات الملتوية وردت في تقرير نشره واحد من مراكز البحث والتفكير الرائدة في إسرائيل – المعهد الوطني للدراسات الأمنية، وهو مؤسسة تابعة لتيار يسار الوسط الذي يدعم مشروع حل الدولتين. تبدأ الورقة البحثية بالقول إن الضم من طرف واحد خطأ جسيم. إلا أنها تنتهي بالقول إن إسرائيل ينبغي عليها مع ذلك أن تمضي في الأمر بمجرد أن يحوز الضم على تأييد الجمهور، وهو الأمر الذي يتحقق بمجرد أن يرفض الفلسطينيون خطة ترامب للسلام.
ورأى المعهد الوطني للدراسات الأمنية أن خطورة الضم تكمن في أنه قد يقوض رؤية التأسيس {لإسرائيل} كدولة يهودية ديمقراطية آمنة وأخلاقية، تسعى للعيش في سلام مع جيرانها. ولذلك فإن من المحبذ أن تدعو الحكومة الجديدة في إسرائيل القيادة الفلسطينية إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، على أن تكون خطة ترامب ضمن عناصر المرجعية التي تستند إليها المفاوضات.
أما إذا استمر الفلسطينيون في رفض مناقشة الخطة، فسوف تتمكن حينها الحكومة من الحصول على تأييد الجمهور في إسرائيل لاتخاذ خطوات باتجاه الانفصال من طرف واحد عن الفلسطينيين، بما في ذلك الضم التدريجي الذي يتم بطريقة تضمن تحقيق مصالح إسرائيل السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
قال يائير غولان، النائب السابق لرئيس أركان الجيش والممثل الحالي لحزب ميريتز، أكثر الأحزاب الصهيونية ميولاً نحو اليسار في إسرائيل، إنه سيصوت لصالح الضم "فيما لو أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن غايتها العليا هي الانفصال عن الفلسطينيين".
كان الفلسطينيون غائبين تماماً تقريباً عن الجدل الذي دار حول الضم. وكانت القرارات بشأن المسائل التي تتعلق بهم تتخذ فقط من قبل مفاوضات الائتلاف بين الحزبين الصهيونيين، مسائل مثل ما إذا كانوا سيحصلون على دولة، وما هي الأرض التي ستقوم عليها هذه الدولة وما الذي ستحظى به من صلاحيات، وما إذا كانوا سيمنحون الجنسية أو الإقامة أو وضعاً آخر داخل المناطق التي سيتم ضمها، وما هي الحقوق التي سيحصلون عليها أو سيحرمون منها، ومن منهم سوف تنتزع منهم الجنسية الإسرائيلية.
ولكن حتى أشرس منتقدي الضم – أولئك الذين حذروا من أنه سوف يحول إسرائيل إلى دولة فصل عنصري – وصفوا إسرائيل بأنها دولة ديمقراطية فعالة قد تكون عرضة ذات يوم لفقد هذه الصفة.
وبناء على هذا المنطق، طالما أن إسرائيل تمتنع عن إضفاء صبغة رسمية على الضم، فإن بإمكانها أن تستمر إلى الأبد في حرمان ملايين الفلسطينيين من حقوقهم المدنية بينما تقدم كل أشكال الدعم للإسرائيليين الذين يعيشون داخل الأراضي المحتلة: بنى تحتية للمدن والبلدات والمناطق الصناعية الإسرائيلية في الضفة الغربية، والمحميات الطبيعية، والمباني البلدية، ومحطات الشرطة والمطافئ، والمدارس والملاعب الحكومية، والمرافق الطبية التابعة للدولة والمقابر. طالما أن إسرائيل تعلن أن ابتلاعها للضفة الغربية مؤقت، فسوف تستمر في التمتع بصفة الدولة الديمقراطية، وهذا يعني أن إسرائيل لن تصبح دولة فصل عنصري حتى تعلن بنفسها أنها غدت كذلك.
فرضية أن إسرائيل دولة ديمقراطية، وهي الفرضية التي تتمسك بها حركة السلام الآن وحزب ميريتز وهيئة تحرير صحيفة هآريتز وغيرهم من منتقدي الاحتلال، تقوم على الاعتقاد بأن بإمكان المرء أن يفصل الدولة ما قبل 1967 عن بقية الأراضي التي تخضع الآن لسيطرتها. لابد من الإبقاء على جدار مفاهيمي للفصل بين نظامين: إسرائيل الديمقراطية (الطيبة) من جهة واحتلالها العابر (الخبيث) من جهة أخرى.
هذا النمط من التفكير جزء لا يتجزأ من الاعتقاد الصهيوني الليبرالي العام بأن من المشروع أن تدين مستوطنات إسرائيل – وبالنسبة للبعض حتى مقاطعة منتجاتها – ولكن ليس من المشروع أن تطالب بتقليص الدعم الذي يقدم للحكومة التي خططت لهذه المستوطنات وأقامتها وتستمر في رعايتها وتقدم كافة الخدمات لها. وما بدا الأكثر إزعاجاً بشأن الضم بالنسبة لهذه المجموعات هو أنه سيوهن ادعاءاتها بأن الاحتلال يجري في مكان ما خارج الدولة وأنه أمر مؤقت، فيما يعتبر نأياً استمر لثلاثة وخمسين عاماً عما تطلق عليه المجموعات الصهيونية الليبرالية، مثل صندوق إسرائيل الجديد، عبارة "القيم الديمقراطية الليبرالية المؤسسة" لإسرائيل.
ليس من الصعب إثبات أن إجراءات إسرائيل داخل الضفة الغربية ترقى إلى الفصل العنصري، فالإسرائيليون والفلسطينيون الذين يعيشون في نفس المنطقة يخضعون لمنظومتين قانونيتين مختلفتين، حيث يمثلون أمام محاكم مختلفة، واحدة عسكرية وأخرى مدنية، على نفس الجريمة التي قد ترتكب في نفس الشارع.
يتمتع اليهود في الضفة الغربية، سواء كانوا مواطنين أو غير مواطنين ممن يسمح لهم بالهجرة، بمعظم الحقوق والامتيازات والحمايات التي يتمتع بها الإسرائيليون في بقية أرجاء البلد. أما الفلسطينيون فيخضعون للحكم العسكري ويحرمون من حرية التعبير وحرية التجمع وحرية التنقل وحتى من حق ألا يعتقل الواحد منهم لأجل غير مسمى دون محاكمة.
لا يقتصر التمييز على الأساس الوطني – أي من قبل الإسرائيليين ضد الفلسطينيين الذين لا يحملون جنسية البلد – وإنما أيضاً على أساس عرقي وقومي، من قبل اليهود ضد الفلسطينيين سواء كانوا رعايا أو مواطنين. بينما تتم محاكمة اليهود في الضفة الغربية، سواء كانوا مواطنين أو غير ذلك، أمام محاكم مدنية إسرائيلية، يمكن أن يرسل المواطنون الإسرائيليون الذين هم فلسطينيون إلى المحاكم العسكرية.
في تقرير صدر عنها في 2014، أشارت رابطة الحقوق المدنية في إسرائيل، أكبر وأقدم مجموعة حقوق إنسان في البلد، إلى أنه منذ ثمانينيات القرن الماضي فإن جميع المواطنين الإسرائيليين الذين جلبوا للمثول أمام المحاكم العسكرية كانوا مواطنين عربا أو مقيمين عربا في إسرائيل.. ولم يرد في أي من الأحكام التي صدرت بحقهم أنه تمت الموافقة على أي طلب تقدم به أي من المواطنين العرب لتحويل قضيته من محكمة عسكرية إلى محكمة مدنية.
بعد حرب 1967، طبقت إسرائيل القانون العسكري على جميع المناطق المحتلة التي لم تضمها رسمياً. أما اليهود الإسرائيليون الذين نقلوا للإقامة في مستوطنات أقامتها الحكومة في الضفة الغربية فأخضعوا للقانون المدني الإسرائيلي، وفصلوا بذلك عن النظام القانوني الذي يُحكم به الفلسطينيون الذين جاء هؤلاء اليهود ليقيموا على أراضيهم.
ما كان بإمكان إسرائيل تطبيق القانون المدني على مواطنيها في الضفة الغربية على أساس مناطقي دون ارتكاب انتهاكات إضافية وفظيعة للقانون الدولي للضم الذي يحظر الضم، ولذلك عدل الكنيست قوانينه وأحكامه بحيث تغدو قابلة للتطبيق على المستوطنين كأفراد يقيمون في الخارج. وبهذه الطريقة أسبغت إسرائيل على اليهود في الضفة الغربية معظم الحقوق ذاتها التي يتمتع بها الإسرائيليون في بقية البلد بخصوص التأمين الصحي والتأمين الوطني وحماية المستهلك والضرائب (سواء كانت ضريبة الدخل أو الضريبة على الممتلكات أو ضريبة القيمة المضافة)، والتعليم العالي، والدخول إلى إسرائيل، وتسجيل السكان، وتنظيم السير والتصويت في الانتخابات، مما جعل المستوطنين المواطنين الإسرائيليين الوحيدين، إلى جانب القلة القليلة التي تقيم في الخارج، الذين يسمح لهم بالتصويت في أماكن إقامة خارج ما يعتبر أراضي الدولة الرسمية. في أيام الانتخابات، يفرض الإغلاق التام على الفلسطينيين الذين يعيشون في الجوار، وبذلك تشدد القيود المفروضة على حركتهم.
نجمت ثغرات عن تطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنين بوصفهم أفراداً، وخاصة فيما يتعلق بالأرض والمباني والتخطيط. وفي سبيل سد هذه الثغرات أصدر الجيش الإسرائيلي مراسيم ميزت المناطق البلدية للمستوطنات – المجالس المحلية والمجالس المناطقية – عن بقية المناطق المحتلة، حتى يتسنى لإسرائيل استخدام مجموعة من النظم (التي تم نسخها ولصقها من التشريعات البلدية في إسرائيل ما قبل عام 1967) لتوسيع التجمعات السكانية اليهودية واستخدام مجموعة أخرى من النظم لتقليص التجمعات السكانية الفلسطينية.
أنشأت إسرائيل على مدى العقدين الماضيين عشرات الآلاف من الوحدات السكنية لليهود الإسرائيليين في الضفة الغربية بينما رفضت أكثر من 96 بالمائة من طلبات البناء الفلسطينية وهدمت آلاف البيوت الفلسطينية. ومن بين الأراضي العامة التي خصصتها إسرائيل لأي نوع من الاستخدام، ذهب 99.76 بالمئة منها للمستوطنات اليهودية. يحظر على الفلسطينيين دخول مناطق المستوطنات إلا إذا حصلوا على تصاريح خاصة، من النوع الذي يمنح في العادة لعمال المهمات اليومية. وكذلك الحال بالنسبة لما يسمى منطقة الغرزة – تلك المناطق في الضفة الغربية التي بترت من بقية الأراضي بسبب جدار الفصل الإسرائيلي – التي لا يتمكن الفلسطينيون من الدخول إليها بدون تصاريح حتى لو كانت الغاية هي فلاحة أراضيهم، بينما يسمح بالدخول إليه بحرية لأي سائح أو أي إسرائيلي يتم تعريفه بأنه مواطن أو مقيم دائم، أو أي يهودي لديه الحق في الهجرة إلى إسرائيل.
ونظراً لأن بعض القوانين الإسرائيلية المطبقة في بعض مناطق الضفة الغربية كانت قد جاءت عبر المنظومة العسكرية – في معظم الحالات من خلال تكرار التشريع الإسرائيلي نفسه – فقد سمح ذلك للمنظمات اليهودية التي تعتبر نفسها تقدمية بأن تقول إنه يوجد نظامان منفصلان في الحيز الذي يخضع للسيطرة الإسرائيلية: نظام عسكري في أراضي الضفة الغربية غير المضمومة وقانون مدني في القدس الشرقية التي تم ضمها وفي إسرائيل ما قبل 1967.
وبموجب هذه النظرية فإن مستوطني الضفة الغربية والفلسطينيين يخضعون لنفس الإدارة العسكرية الجائرة، بينما يُحكم المواطنون الإسرائيليون والمقيمون في إسرائيل ما قبل 1967 وفي القدس الشرقية المضمومة من قبل نظام مدني ديمقراطي.
إلا أنه لا المستوطنون الإسرائيليون ولا الفلسطينيون يعيشون مثل هذه الحياة في الضفة الغربية. والواقع هو أن العكس هو الأقرب إلى الحقيقة، فليس المواطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية وأولئك الذين يعيشون ضمن خطوط ما قبل 1967 هم الذين يعيشون في ظل أنظمة منفصلة، وإنما ذلك هو حال المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين الذين يعيشون بجوارهم. يستخدم الإسرائيليون من كل أنحاء البلاد طرقاً خارجية سريعة تخترق الضفة الغربية طولاً وعرضاً، ولا يوجد إطلاقاً ما يشير إلى أنهم حين يفعلون ذلك يغادرون إسرائيل.
وبإمكان المهاجرين اليهود الجدد الانتقال مباشرة من لندن أو لوس أنجلس إلى مستوطنات الضفة الغربية تماماً كما ينتقلون إلى تل أبيب، ويجنون نفس المكاسب المادية، ويحصلون على نفس دورات تعليم اللغة، وعلى نفس القروض العقارية ذات الفوائد المخفضة. كما يعمل الإسرائيليون الذين يعيشون في إسرائيل ما قبل 1967 في مصانع المستوطنات، ويدرسون في جامعات المستوطنات المعترف بشهاداتها من قبل مجلس التعليم الأعلى في إسرائيل، ويتسوقون في المجمعات التجارية التي توجد داخل المستوطنات، ويزورون الحدائق العامة في الضفة الغربية. ليست الحكومة الإسرائيلية منفصلة عن مؤسساتها الموجودة داخل الضفة الغربية، فلقد سن الكنيست تشريعات تنطبق تحديداً على الضفة الغربية، وعدل قوانين حتى تصبح صالحة للتطبيق تحديداً على اليهود والمواطنين الإسرائيليين الذين يقيمون هناك.
وتنفق الوزارات الإسرائيلية مئات الملايين من الدولارات في العام على المستوطنات وعلى البنى التحتية التابعة لها في الضفة الغربية. وهناك لجنة وزارية تابعة للسلطة التنفيذية هي التي تقر إنشاء المستوطنات في الضفة الغربية بينما تناط بلجنة أخرى تابعة للسلطة التنفيذية مهمة تطوير وتحسين بناها التحتية وتنميتها.
ومراقب الدولة هو الذي يشرف على سياسة الحكومة في الضفة الغربية، ويدقق في كل شيء من معالجة المياه العادمة إلى التأكد من السلامة على الطرق. ويقوم المدعي العام بمتابعة تنفيذ الإرشادات التي توجه السلطة التشريعية نحو تفسير كيف تنطبق كل مسودة قانون على المستوطنات.
ومحكمة العدل العليا في إسرائيل هي المحكمة التي يتم اللجوء إليها في استئناف أخير من قبل جميع المواطنين الإسرائيليين والرعايا الفلسطينيين في كل أرجاء المناطق التي تخضع لسيطرة إسرائيل. ويقوم ضباط القوة الوطنية للشرطة في إسرائيل بإصدار المخالفات المرورية للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء داخل الضفة الغربية. والخلاصة هي أن ابتلاع إسرائيل للضفة الغربية ما هو إلا عمل مشترك يساهم فيه كل فرع من فروع الحكومة – التشريعي والتنفيذي والقضائي.
بينما يتمكن الإسرائيليون من الانتقال بحرية في كافة أرجاء إسرائيل ومستوطناتها المقامة في الضفة الغربية، يخضع الفلسطينيون داخل الأراضي المحتلة للعيش تحت سلطات منفصلة، بحيث يحتاج الواحد منهم إلى تصريح إسرائيلي لكي يعبر من المناطق غير المضمومة في الضفة الغربية إلى القدس المضمومة أو إلى غزة أو إلى ما يزيد عن ثلاثين بالمائة من أراضي الضفة الغربية التي يحظر عليهم الدخول إليها، وهي: منطقة الغرزة، والمناطق الخاضعة لولاية المستوطنات، وما يسمى مناطق التدريب العسكري، والتي وجدت المنظمة غير الحكومية الإسرائيلية كرم نافوت أن ما لا يقل عن ثلاثة أرباعها لا يستخدم في الواقع لأي تدريبات عسكرية وإنما صنفت كذلك بغية الحيلولة دون أن يتمكن الفلسطينيون من تطويرها، وبذلك تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة.
خذ على سبيل المثال حالة امرأة فلسطينية تعيش في ظاهر الأمر داخل واحدة من الجيوب الـ 165 التي تحكمها السلطة الفلسطينية وتشكل معاً أقل من 40 بالمائة من مساحة الضفة الغربية. إلا أن هذه المرأة تخضع هي الأخرى لسلطة إسرائيلية واحدة، وليس لنظام منفصل خاص بالضفة الغربية. ولو كانت هذه المرأة عضواً في واحدة من المنظمات غير القانونية، والتي يزيد عددها عن أربعمائة– وقائمة الأسماء في نمو دائم وتشمل كل حزب سياسي فلسطيني رئيسي بما في ذلك حركة فتح نفسها – فإنها تكون عرضة للتوقيف من قبل القوات الإسرائيلية في داخل أي منطقة تابعة للحكم الذاتي الفلسطيني. وذلك هو الذي حدث في عام 2019 مع السياسية ليلى جرار، العضو رفيع المستوى في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي اعتقلتها القوات الإسرائيلية من بيتها بالقرب من رام الله في الساعة الثالثة فجراً.
والواقع هو أن سلطات الحكم الذاتي الفلسطيني محدودة جداً لدرجة أن إسرائيل هي التي تتحكم بالطرق المؤدية إلى المناطق التي من المفروض أنها تخضع لحكم السلطة الفلسطينية، وتقوم القوات الإسرائيلية باجتياح البيوت الواقعة داخل هذه المناطق في كل يوم وفي كل ليلة، ويسمح لها بالدخول حتى لأسباب لا علاقة لها بأمن المواطنين الإسرائيليين، مثل إلقاء القبض على لصوص السيارات. ومن بين من يقومون بتوقيف الفلسطينيين داخل أحيائهم ياماس ويامام، وهما وحدتان تابعتان للشرطة الوطنية في إسرائيل.
وقد تؤخذ السيدة المقيمة في رام الله من بيتها في رام الله إلى المجمع الروسي في الضفة الغربية لكي تستجوب ويحقق معها من قبل عناصر من وكالة الأمن الإسرائيلية التي تقع مكاتبها الرئيسية في تل أبيب ولكنها تعمل في كل المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
وقد تحتجز لستة شهور بلا محاكمة أو توجيه تهم، ويمكن لفترة اعتقالها أن تمدد مراراً، لستة شهور في كل مرة، وإلى ما لا نهاية. وإذا ما أتيح لها أخيراً المثول أمام المحكمة فقد يتم نقلها إلى ما يفترض أنه نظام مختلف في القدس الغربية حيث توجد محكمة عوفر العسكرية بالقرب من رام الله.
ونظراً لأن جميع من يمثلون أمام المحاكم العسكرية الإسرائيلية تقريباً يدانون، فمن المؤكد أنها ستذهب إلى السجن، وسيكون ذلك السجن واحداً من تسعة وعشرين تديرهم مصلحة السجون الإسرائيلية، والتي تعمل في كافة المناطق التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية. ودون أن يحصل أفراد عائلتها على تصاريح تمكنهم من زيارة السجون الواقعة داخل خطوط ما قبل 1967، فلن يتمكنوا من زيارتها على الإطلاق.
قد يكون بإمكانها الاستئناف لدى المحكمة العليا الإسرائيلية ضد الحكم الصادر بحقها إلا أن الفرص في أن يصدر حكم الاستئناف لصالحها تكاد تكون معدومة. من المعروف عن المحكمة العليا الإسرائيلية أنها أقرت تقريباً كل ما هو محظور دولياً من سياسات تمارسها إسرائيل داخل الأراضي المحتلة بما في ذلك الإبعاد والاغتيال والسجن بدون محاكمة وهدم المنازل ومصادرة الأراضي ونهب الموارد الطبيعية والعقوبات الجماعية مثل حظر التجول وإغلاق المدارس وحرمان مناطق كاملة من التيار الكهربائي.
وقد تستعين في استئنافها بمحام إسرائيلي متخصص في حقوق الإنسان، الذي يترافع عنها في مواجهة وكيل نيابة من وزارة العدل أمام لجنة من قضاة المحكمة العليا، يعيش اثنان منهم داخل الضفة الغربية. وبموجب تحليل "الأنظمة المنفصلة" من المفروض أنها لا تختلف في شيء عن أي من هذين القاضيين، فجميعهم يخضعون لنظام عسكري منفصل يحكم الضفة الغربية.
إن الإصرار على وجود نظامين منفصلين مستمد من اعتبارات سياسية وليس من اعتبارات قانونية. فمن خلال التأكيد على وجود النظامين، بإمكان المجموعات الصهيونية الليبرالية مثل جيه ستريت أن تقول للجهات المانحة والمشرعين وطلاب الجامعات إنهم يؤيدون إسرائيل ولكنهم ينتقدون الاحتلال الذي يوجد بزعمهم في مكان بعيد عن الدولة.
إلا أن محاولة فصل إسرائيل عن الانتقادات التي توجه إلى السياسات التي تمارسها في الضفة الغربية، وما يترتب على هذه الانتقادات، يقود إلى تصريحات سخيفة وباطلة مثل ما زعمته جيه ستريت مؤخراً من أن المستوطنين الإسرائيليين هم من يهدم بيوت الفلسطينيين. والحقيقة هي أن المستوطنين – الذين يشكلون عشر اليهود الإسرائيليين – ليسوا هم من يهدم منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية وإنما الحكومة الإسرائيلية التي تؤيدها جيه ستريت. وعندما تهدم الحكومة الإسرائيلية بيوت الفلسطينيين فإنها إنما تفعل ذلك بتفويض من الوزراء والمشرعين الذين اختارهم الناخبون الإسرائيليون.
كما تسمح أسطورة وجود نظامين منفصلين للصهاينة الليبراليين بالترويج لفكرة حل الدولتين على حدود ما قبل 1967 من باب التمسك بما هو صواب سياسياً، وبتجنب العلاج الأكثر إنصافاً والذي يتطلبه الاعتراف بأن الدولة الإسرائيلية تتمدد في كل الأرض التي تقع تحت سيطرتها. مثل هذا العلاج لا يتطلب فقط إنهاء الاحتلال وإنما أيضاً إنهاء التمييز العرقي في أرجاء البلاد.
لا يطالب اليسار الصهيوني بالمساواة التامة بين المواطنين اليهود والفلسطينيين في إسرائيل ما قبل 1967. بدلاً من ذلك، تسعى المنظمات الصهيونية الليبرالية إلى ضمان بقاء إسرائيل دولة ذات أغلبية يهودية بإمكانها الاستمرار في منح مواطنيها اليهود أرضاً وحقاً في الهجرة بينما تحرم من ذلك الأقلية الفلسطينية التي تنحدر من أصلاب أهل البلاد الأصليين.
إن الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها لليسار الصهيوني أن يعارض الهيمنة العرقية في الضفة الغربية بينما يتمسك بالامتيازات العرقية الممنوحة في إسرائيل ما قبل 1967 هو التأكيد على أنه "يوجد نظام فصل عنصري" في الضفة الغربية وأنه منفصل عن الدولة الإسرائيلية. ولذلك حتى تكون إسرائيل ما قبل 1967 جزءاً من دولة فصل عنصري، فإن ذلك يتطلب ضم الضفة الغربية حتى يتم دمج النظامين معاً.
إلا أن ذلك ينم عن سوء فهم لجريمة الفصل العنصري كما يرد توصيفها في القانون الدولي. فمثله مثل التعذيب، لا يحتاج الفصل العنصري لأن يطبق بشكل منتظم أو في كل مكان في البلاد حتى يعتبر سلوكاً إجرامياً، ففي القانون الدولي لا يوجد شيء اسمه نظام الفصل العنصري، تماماً كما أنه لا يوجد شيء اسمه نظام التعذيب.
بل إن كلمة النظام لا تظهر في أي جزء من النص الأصلي للمعاهدة الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها الصادر في 1973. ومع أن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لا يستخدم كلمة "نظام" في تعريفه (وإنما أضيفت الكلمة لإرضاء وفد الولايات المتحدة، الذي كان قلقاً من احتمال أن تتم ملاحقة مواطني الولايات المتحدة الذين ينتمون إلى مجموعات تعتقد بتفوق البيض على غيرهم) من الواضح أن الكلمة لم تدرج في التعريف حتى يُسمح بقصر الفصل العنصري على الأنظمة أو الوحدات التي تتكون منها الدولة.
إلا أن فكرة أن الضم الرسمي وحده بإمكانه أن يحول إسرائيل إلى دولة فصل عنصري غدت جزءاً لا يتجزأ من أيديولوجية اليسار الصهيوني. في شهر حزيران/ يونيو من العام الماضي، وقع ما يزيد عن خمسمائة من العلماء المختصين في الدراسات اليهودية، وكثيرون منهم من مؤيدي إسرائيل البارزين مثل الفيلسوف اليهودي الأمريكي مايكل والزر، على خطاب ينصون فيه على أن "ضم الأراضي الفلسطينية سوف يكرس نظاماً معادياً للديمقراطية يخلو من المساواة القانونية ويمارس التمييز ضد السكان الفلسطينيين. مثل هذا التمييز القائم على أساس العنصر أو العرق أو الدين أو الخلفية القومية يعرف على أنه "أحوال الفصل العنصري" وعلى أنه "جريمة ضد الإنسانية".
في نفس الشهر نشر مركز دراسات جديد اسمه زولات، تديره الرئيسة السابقة لحزب ميريتز الصهيوني الليبرالي زيهافا غالون، تقريراً بعنوان "تبييض الفصل العنصري". إلا أن التقرير مارس نوعاً من التبييض في قسم منه يتحدث عن عواقب الضم بحكم القانون، حيث زعم أن الفصل العنصري في الضفة الغربية يمارس حالياً ليس من قبل إسرائيل وإنما من قبل نظام منفصل: "حتى لو ضممنا متراً مربعاً واحداً، فإن دولة إسرائيل ستكون بذلك قد أقلعت عن زعمها بأنها دولة ديمقراطية وتخلت عن نيتها المعلنة منذ ثلاثة وخمسين عاماً بأنها ترغب في إنهاء الصراع والتوصل إلى تسوية متفق عليها مع الفلسطينيين والتوقف عن فرض نفسها عليهم".
فحتى الضم، مع ذلك، "لا يجعل من إسرائيل بالضرورة دولة فصل عنصري وإنما يبقي عليها دولة تشغل نظاماً له مواصفات الفصل العنصري في الضفة الغربية." وبهذا المعيار يصبح نظام الفصل العنصري الذي كان موجوداً في جنوب أفريقيا دولة ديمقراطية – مثلها مثل كل الديمقراطيات الأخرى ليست بلا عيب – تشغل نظاماً له مواصفات الفصل العنصري في البلدات والبانتوستانات. وهذه البانتوستانات، بالمناسبة، كان لها أعلامها الخاصة بها وأناشيدها الوطنية وفيها قطاع من الموظفين، وبرلمانات، وتجري فيها انتخابات، وتتمتع بدرجة محدودة من الاستقلال الذاتي لا يختلف كثيراً عن حال السلطة الفلسطينية.
لربما لا توجد منظمة قامت بالترويج لفكرة الأنظمة المنفصلة أكثر من ييش دين، منظمة حقوق الإنسان التي قامت بجهود مهمة في الترافع قانونياً نيابة عن الفلسطينيين الذين يتعرضون لعنف المستوطنين وللقتل خارج القانون ولتدمير الممتلكات على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية، ولمصادرة إسرائيل لأراضيهم ولما تفرضه عليهم من قيود تحول دون وصولهم إلى مزارعهم.
في العام الماضي، أصبحت ييش دين أول منظمة إسرائيلية تنشر تقريراً كبيراً يتهم مسؤولي الحكومة بممارسة الفصل العنصري. وهي في نفس الوقت واحدة من أشد المدافعين عن نظرية الأنظمة المنفصلة. هذا التبدل والتهافت في أجوبة ييش دين على سؤال عند أي نقطة تنتفي صفة الديمقراطية عن إسرائيل يرمز إلى الضعف العام الذي ينتاب مقولة الأنظمة المنفصلة.
في الأمسية التي وقع فيها حزب الليكود اتفاقية التحالف مع حزب أزرق وأبيض، نشرت ييش دين ورقة موقف حول الأثر المحتمل للضم، وخلصت الورقة إلى القول إن الضم القادم سوف يسحب البساط من تحت أرجل المقولة السائدة حالياً في كثير من الأوساط، ومفادها أنه بينما يمارس الفصل العنصري، أو على الأقل النظام الشبيه بالفصل العنصري، حالياً في الضفة الغربية فإن دولة إسرائيل ذات السيادة دولة ديمقراطية. وإن فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية سيكون بمثابة الإعلان عن وجود نظام واحد بدلاً من إدارتين منفصلتين.
وذلك أن الضم بدون منح الجنسية الكاملة والحقوق المتساوية للفلسطينيين المقيمين في المناطق التي يتم ضمها سوف ينتج نظام فصل عنصري حقيقي ستجد إسرائيل عناء في إنكاره. ولسوف يديم مثل ذلك النظام انتهاكات حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين، ويتركهم إلى الأبد محرومين من الحرية والمساواة.
وبهذا المنطق سيكون بإمكان إسرائيل فقط ضم المناطق المأهولة من قبل اليهود داخل الضفة الغربية وإبقاء احتلالها لملايين الفلسطينيين في المناطق المجاورة غير المضمومة ومع ذلك تبقى دولة ديمقراطية.
ربما انطلاقاً من إدراكها بما يعتور هذه المقولة من عيب، عدلت ييش دين ورقتها في وقت لاحق. تنص النسخة المعدلة، والتي صدرت بدون تفسير أو توضيح حول التصحيح، على أن إسرائيل بعد الضم ستغدو دولة فصل عنصري ما لم تمنح حقوقاً كاملة ومتساوية للفلسطينيين، ليس في المناطق المضمومة، كما ورد النص عليه في النسخة الأصلية، وإنما في كل أرجاء الضفة الغربية.
تسمح هذه الصياغة لإسرائيل بالبقاء دولة ديمقراطية، على الأقل في عيون ييش دين ومن على شاكلتها من المجموعات التي تفكر مثلها، حتى مع استمرار حصار إسرائيل لأكثر من مليوني فلسطيني في غزة، أكبر جيوبها العرقية، وإبقائهم بدون مياه شرب ولا شبكة مجاري صالحة، ولا تيار كهربائي منتظم، وبدون حق الدخول والمغادرة بحرية.
على الرغم من أن إسرائيل تزعم أنها أنهت احتلالها لقطاع غزة في 2005، إلا أنها ما تزال تتحكم بالصادرات والواردات وبالمجالين البحري والجوي، وحتى بسجل السكان، لدرجة أنها هي التي تصدر لجميع المواطنين في المناطق أرقام الهويات الخاصة بهم، والتي لا يمكنهم بدونها الخروج أو حتى عبور الحدود مع مصر.
وما يلاحظ في ورقة ييش دين غياب أي اقترح بأنه يتوجب على إسرائيل منح حقوق كاملة ومتساوية للفلسطينيين الذين يقيمون في المناطق التي تم ضمها بشكل رسمي في عام 1967: القدس الشرقية وثمانية وعشرون قرية محيطة بها من قرى الضفة الغربية. فما يزال سكان تلك المناطق من الفلسطينيين بدون مواطنة كاملة وبدون حقوق متساوية. كما لم تجر أي محاولة لتفسير لماذا من شأن ضم جزئي للضفة الغربية جرى في 2020 أن يجعل إسرائيل دولة فصل عنصري بينما لم تغد كذلك بعدما أقدمت عليه من ضم في 1967.
في شهر تموز/ يوليو نشرت ييش دين رأياً قانونياً في خمسين صفحة كتبه محامي حقوق الإنسان مايكل سفارد، والذي خلص إلى إدانة المسؤولين الإسرائيليين بممارسة الفصل العنصري، كما تم تعريفه في معاهدة عام 1973 على أنه "الممارسات غير الإنسانية بهدف إقامة وإدامة الهيمنة من قبل مجموعة عرقية من الأفراد على مجموعة عرقية أخرى من الأفراد واضطهادهم بشكل منتظم".
ينظر القانون الجنائي الدولي إلى المجموعات العرقية باعتبارها تكتلات اجتماعية لا بيولوجية: في الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري، والتي ورد النص عليها في ديباجة مؤتمر الأبارتيد (الفصل العنصري) لعام 1973، يعرف "التمييز العنصري" على أنه أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفصيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني".
وبعد عقود، خلصت المحاكم الجنائية الدولية حول رواندا وحول يوغسلافيا السابقة إلى أن تعريف الجماعة المضطهدة ليس مسألة ذات علاقة بالوراثة وإنما بالوصم والانطباعات الشخصية لمن يمارس الاضطهاد. ينطبق القانون الجنائي الدولي على الأفراد وليس على الدول، وبذلك ليست الحكومة الإسرائيلية وإنما المسؤولون فيها من يمكن أن يلاحقوا ويحاكموا لممارستهم الفصل العنصري.
ويذكر في هذا الشأن أن بيتسيليم وعدالة، من بين كل المجموعات الحقوقية الكبيرة، في إسرائيل هما المنظمتان الوحيدتان اللتان طالبتا محكمة الجنايات الدولية بفتح تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها مسؤولون إسرائيليون. وعندما تكلم المدير التنفيذي لمنظمة بيتسيليم هاغاي إلعاد ضد المستوطنات أمام مجلس الأمن الدولي في 2016 ندد به نواب البرلمان الإسرائيلي من أحزاب الوسط ويسار الوسط. وهدد رئيس التحالف من حزب الليكود بنزع الجنسية عنه وشكاه نشطاء حزب العمال إلى الشرطة زاعمين أنه ارتكب جريمة الخيانة.
ركز الرأي القانوني لمنظمة ييش دين فقط على ما إذا كان ثمة ممارسة للفصل العنصري وليس على من هو الذي يتحمل المسؤولية عن تلك الممارسة، وقصر اهتمامه على المناطق غير المضمومة في الضفة الغربية (وهو مجال خبرة ييش دين الأول)، تاركة بذلك ليس فقط قطاع غزة وإسرائيل داخل خطوط ما قبل 1967 وإنما أيضاً الأراضي التي تم ضمها في 1967.
ولم يكن ذلك لأن البحث في مسألة اضطهاد الفلسطينيين في كل المنطقة الخاضعة لسيطرة إسرائيل ليس إجراءً سليماً، كما زعم سفارد، وإنما لأنه كان ما يزال من الممكن، على الرغم من زحف الضم غير القانوني، النظر إلى الضفة الغربية باعتبارها محكومة من قبل نظام مختلف أو على الأقل من قبل نظام متفرع عن ذلك النظام الموجود داخل إسرائيل.
من مصاعب التعامل مع الضفة الغربية باعتبارها نظاماً منفصلاً، كما اعترف هو، ذلك الجزء من الضفة الغربية الذي تم ضمه بشكل رسمي. تشترك المساحة التي تم ضمها من القدس الشرقية والقرى المحيطة بها في كثير من الأمور مع الضفة الغربية، ومن ذلك أن سكانها الفلسطينيين ليسوا مواطنين إسرائيليين، وبناء على ذلك لا يحق لهم التصويت ولا يحظون بتمثيل سياسي.
إضافة إلى ذلك، نفذت إسرائيل عدداً من السياسات في القدس الشرقية تتجانس، وفي بعض الأوقات تتماثل تماماً، مع تلك التي يتم تبنيها في الضفة الغربية: استعمار شامل من خلال تنمية تعود بالنفع على إسرائيل، تحفيز عشرات الآلاف من المواطنين الإسرائيليين على الإقامة في المنطقة، المصادرة الجماعية لممتلكات وأراضي الفلسطينيين، منع التنمية الفلسطينية وتحويل الموارد لفائدة الإسرائيليين الذين ينتقلون للعيش في المدينة. كل هذه الإجراءات، وبشكل رئيسي الضم غير القانوني الذي ينبغي عدم الاعتراف به، تبرر معاملة القدس الشرقية والضفة الغربية كوحدة واحدة.
إلا أن رأي ييش دين القانوني لم يفعل ذلك، كما لم يمحص في السياسات التمييزية داخل إسرائيل حيث يعيش عشرات الآلاف من الفلسطينيين في قرى ترفض إسرائيل الاعتراف بها أو ترفض مدها بالمياه والكهرباء، وحيث تتواجد المئات من البلدات المخصصة حصرياً لليهود والتي لديها لجان قبول يسمح لها بموجب القانون رفض الفلسطينيين بحجة انعدام المواءمة الاجتماعية، وهي التي من صلاحياتها كذلك استبعاد طلبات من لم يخدموا في الجيش الإسرائيلي ومن ليسوا صهاينة أو من لا ينوون إرسال أطفالهم إلى مدارس التعليم فيها باللغة العبرية.
لقد استولت إسرائيل على ثلاثة أرباع أراضي مواطنيها الفلسطينيين. ولقد غدت تلك المصادرة مشروعاً دائماً، وخاصة في النقب والجليل، وإن كان معظمها قد حصل، كما هو الحال في الضفة الغربية اليوم، بينما كان الفلسطينيون تحت الحكم العسكري. خلال العقود السبعة من حياة إسرائيل، كان هناك فقط ستة شهور في الفترة 1966-1967 لم تُخضع إسرائيل فيها أعضاء من مجموعة عرقية واحدة للحكم العسكري وهي تصادر أراضيهم. وكما أشار المؤرخ الإسرائيلي أمنون راز كراكوتزكين، تبقى تلك الشهور الستة، والتي تمثل أقل من واحد بالمائة من عمر إسرائيل، هي المرجع لكل نقاش يدور حول كون إسرائيل "دولة يهودية ديمقراطية". ومع ذلك يغدو الاستثناء هو القاعدة، بينما القاعدة – المتمثلة بالاحتلال – يتم تصويرها على أنها الاستثناء.
ما كان ليتسنى الإبقاء على الفصل العنصري لعقود بدون مساعدة الكثير من الممولين والحماة والمتآمرين الخارجيين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة التي قدمت مساعدات تزيد قيمتها عن 110 مليارات دولار لقوة الاحتلال العسكرية وأنفقت مئات الملايين على تحسين وتطوير وتحديث البنية التحتية للفصل العنصري، وعلى إعادة ترميم وتجهيز نقاط التفتيش وإنشاء الطرق في مختلف أرجاء الضفة الغربية.
أما الاتحاد الأوروبي فهو الممول الرئيسي لكانتونات الحكم الذاتي الفلسطيني وهو المستورد الأكبر لما تنتجه المستوطنات من سلع. ومعاً ظلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون يبذلون كل ما في وسعهم، دونما كلل أو ملل، من أجل منع مجلس الأمن الدولي ومحكمة الجنايات الدولية من مساءلة ومحاسبة إسرائيل.
وحتى أولئك الذين يقدمون أنفسهم على أنهم الأبطال الذين يتصدرون للدفاع عن حرية الفلسطينيين وعن حقوقهم الإنسانية تجدهم يدعمون الوضع الراهن. ومن أمثلة ذلك ما صرح به مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن خطة ترامب حين قال: "إننا نرى ما تنضوي عليه من مزايا" وقال عنها أيضاً: "لعلها تشكل نقطة البدء في المفاوضات".
أما مكتب المنسق الخاص للشرق الأوسط التابع للأمم المتحدة فلم يفتأ يتجاهل بانتظام توصيات الأمم المتحدة بشأن حماية حقوق الإنسان والالتزام بالقانون الدولي، مفضلاً القيام بدور الممثل الثانوي في عملية السلام التي تتزعمها الولايات المتحدة. ففي أكتوبر / تشرين الأول، وبعد أن مضت إسرائيل قدماً في تنفيذ خطة لبناء خمسة آلاف مسكن داخل مستوطنات الضفة الغربية، أصدر مبعوث الأمم المتحدة الذي توشك فترة عمله في هذا المنصب على الانتهاء، نيكولاي ملادينوف، بياناً تافهاً كعادته أشار فيه إلى أن معظم تلك المساكن توجد في مواقع نائية في العمق من الضفة الغربية وأن هذا العدد الكبير والموقع الذي تقام فيه يشكلان مصدر قلق عظيم لأن من شأن ذلك أن يقوض فرص التوصل إلى حل الدولتين.
فهل يكمن دور مبعوث الأمم المتحدة في التمييز بين المستوطنات غير القانونية التي تقام في العمق من الضفة الغربية والمستوطنات غير القانونية التي تقام قريباً من خط ما قبل 1967؟ بمساعدة "صانعي السلام" بات تعريف "النائي" أو "البعيد" يمتد تدريجياً نحو الشرق. وبذلك تكون الأمم المتحدة، مثلها مثل الولايات المتحدة وأوروبا والمجموعات الصهيونية الليبرالية، قد أخضعت القانون الدولي وحقوق الإنسان لفكرة تقديس حل الدولتين، والذي لا يعامل كما لو كان أحد الوسائل الممكنة لتحقيق ما يفترض أنه الغاية الجوهرية – أي إنهاء القهر الذي يتعرض له ملايين الناس بسبب انتمائهم العرقي – وإنما يعامل كما لو كان هو الغاية ذاتها.
لا يفتر الدبلوماسيون وأصحاب النوايا الحسنة من الجماعات التي تعارض الاحتلال عن الرد على كل إجراء توسعي إسرائيلي جديد بإصدار التحذيرات المغلظة من أن ذلك سيوجه "ضربة قاتلة" لحل الدولتين، وأن "النافذة تضيق" أمام فرصة إقامة دولة فلسطينية، وأنه الآن، وعشية هذا الاستيلاء الأخير، تكاد تتلاشى تماماً فرص تحقيق السلام.
صدر خلال العقدين الماضيين ما لا يحصى عدده من مثل هذه التحذيرات والإنذارات، وكان من المفروض أن يفلح كل واحد منها في إقناع إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا وبقية العالم بالحاجة إلى وقف، أو على الأقل إبطاء، الضم الذي تقوم به إسرائيل والذي أصبح بحكم الأمر الواقع. إلا أن هذه التحذيرات والإنذارات كان لها تأثير معاكس تماماً: وهو إثبات أن الوقت يمضي وأن الفرص تتلاشى.
وبهذا الشكل بإمكان صناع السياسة في أوروبا والولايات المتحدة ومعهم الجماعات الصهيونية الليبرالية التي تمارس ضغطاً سياسياً عليهم أن يقولوا إن حل الدولتين لم يمت وإنما هو تحت الحصار – ولذلك فهو حي يرزق. في هذه الأثناء يظل ملايين الفلسطينيين محرومين من حقوقهم المدنية الأساسية ويبقون خاضعين للحكم العسكري.
وفيما عدا تلك الشهور الستة في الفترة 1966-1967، لم يزل ذلك هو الواقع بالنسبة لمعظم الفلسطينيين الذين ما لبثوا يعيشون تحت الهيمنة الإسرائيلية طوال تاريخ الدولة. دام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لستة وأربعين عاماً بينما الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل مستمر منذ اثنين وسبعين عاماً، والعد مستمر.
(عن "لندن ريفيو أوف بوكس" مترجم خصيصا لـ"عربي21")