قضايا وآراء

إنسانيَّة المعارف الكليَّة

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600
إن المعرفة الإنسانية "الحقيقية" هي المعرفة بالكليَّات؛ لأنها معرفة إلهيَّة المصدَر تنفي الطوبيا والفردوس الأرضي تلقائيّا، وتؤنسِنُ الرؤية، أي تجعلها رؤية إنسانيَّة مُركَّبة تركيب الوجود الإنساني الفطري؛ فتُضفي على الحركة الإنسانيَّة بذلك معناها التاريخي بوصفها مجالا لمكابدة المكلَّف، ولذلك سببان:

أولهما أن هذه المعرفة الإطاريَّة الجامِعَة مصدرها متجاوز للطبيعة/ المادة وللإنسان، إنها معرفة لا يُفرِزها الجدل الدائري (وإن أمكن إكسابها طبيعة جدليَّة/ لاهوتيَّة حين تتكلَّس، كما في "علم الكلام الإسلامي")، ولا يُفرِزها التراكُم الذي تولِّده الحاجة أو السعي إلى بناء "حضارة ماديَّة"، حتى إن تطوَّرت بعض صيغها وتبلوَرَت جمهرة من تجلياتها (من خلال مكابدة الإنسان لتعاليم الوحي المنزَّل) في هيئة "ملموسة" تنعَقِدُ عليها اليد؛ إلا أنها تظل في أصلها معرفة مُنزَّلة لصياغة الإنسان نفسه وبناء وجدانه.

أما السبب الثاني لقُدرة هذه المعارف الإلهيَّة على نفي الفردوس الأرضي، فهو أن تجسُّدها الجواني، وإن كان يتحقَّق من خلال المكابدة الفردية للمستخلَف مع الوحي؛ إلا أن هذه المكابدة ليست فرديَّة معزولة، وإنما تتقاطَع حتما مع مُكابدات آخرين يُقتَدَى بهم. هذا "التناص الوجداني"، أو "التناص الجوَّاني"؛ هو أحد المعالم الرئيسية اللازمة لهذه المعرفة، بصدورها أولا عن الوحي الإلهي، ثم لزوم ابتداء تحقُّقها نماذجيّا في الواقِع الحي بسلوك حضرة الموحى إليه صلى الله عليه وآله وسلم (ومن ربَّاهُم).
إذا كانت المعارف الجزئيَّة ناتجة عن جدليَّة الإنساني والطبيعي/ المادي، وثمرة لاحتكاكهما المباشر وتفاعلهما في "بناء" تفاصيل الحياة اليوميَّة؛ فإن المعارف الكليَّة هي نتاج إنصات الإنسان للأمر الإلهي. لكنَّ البشري لا يُنصِتُ لهذا الأمر القُدسي بنفسه، وما كان له؛ بل يُنصِت إلى بلاغ نبي معصوم يوحى إليه.

وبعبارةٍ أخرى، فإذا كانت المعارف الجزئيَّة ناتجة عن جدليَّة الإنساني والطبيعي/ المادي، وثمرة لاحتكاكهما المباشر وتفاعلهما في "بناء" تفاصيل الحياة اليوميَّة؛ فإن المعارف الكليَّة هي نتاج إنصات الإنسان للأمر الإلهي. لكنَّ البشري لا يُنصِتُ لهذا الأمر القُدسي بنفسه، وما كان له؛ بل يُنصِت إلى بلاغ نبي معصوم يوحى إليه، ثم يقتدي بنماذج بشرية تلقَّت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وسَعَت لتجسيد ما تلقَّته في حركتها/ حياتها؛ فأصابت وأخطأت. ومن ثم، فإن صدور المعارف الكلية عن الوحي الإلهي يتحقَّق ويتشكَّل من خلال مسار يبدأ بتنزُّل الوحي/ الأمر على نبي يتمثَّله (خلقه القرآن)، فحواريين يستَمِدون منه؛ لينقلوا هذه المعارف لمن بعدهم، وهكذا دواليك. وإن خبرة الحواريين هذه - على وجه التحديد - هي التي تمنحنا الرصيد الأوسع للمكابدة التاريخيَّة الاسترشاديَّة، الذي يرسخ باستمراريته الجوانيَّة نفي الطوبيا وجنوحها النظري بما تقتضيه من انقطاع، سواء الانقطاع المعرفي أو التاريخي، ناهيك عن أن هذه الخبرة كذلك هي التي تنقِل إلينا المعارف الكليَّة - بما يُشبه التواتُر - بوصفها إطارا معرفيّا عمليّا عامّا بسيطا، رغم إحاطته.

ولأن الوحي "مدد" إلهي غير تاريخي، وتمثُّل النبي للوحي وتجسُّده فيه تاريخيّا مؤيَّدٌ بالعصمة الكامِلة في أمور البلاغ وحدها، وإن كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يُكابِد الأوامر والتعاليم الإلهيَّة في نفسه كأفضل ما يُكابِد "البشري" على الإطلاق؛ فإن اجتماع لا تاريخية الوحي الهادي المعصوم مع عصمة النموذج النبوي "المعيَّنة" داخل التاريخ؛ يُفضي إلى النفي التلقائي والكلي لعصمة التاريخ وقداسته، وبدرجة أكبر للطوبيا؛ نظريّا وعمليّا، ليصير النموذج كله تاريخيّا- إنسانيّا، ممكن التكرار، ولا مكان للمثاليَّة النظريَّة فيه، إذ يتعلَّق تحقُّقه التاريخي النسبي ابتداء بحجم الإخلاص الجواني؛ وهو النموذج الذي يُلقبه القرآن بـ"الأسوة الحسنة". فهذا النبي الأسوة يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويُمكن السير على هديه واحتذاء نموذجه ومثاله بشرط الصدق والإخلاص.

إن تاريخيَّة النموذج والصيرورة هي التي تنفي عصمة التاريخ (الطوبيا)، كما تؤكد في الوقت ذاته "نطاق" عصمة التمثُّل النبوي. إذ لو كان التاريخ ممكن العصمة، وأمكن تحقُّق الطوبيا بفردوسيتها الطهوريَّة (داخل نطاقه وفي إطار صيرورته)؛ لانتفت الحاجة إلى حفظ الوحي، ولاشتملَت عِصمَة حضرة سيدي الموحى إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - على كل شأن من شؤون مكابدته المبرأة من العيوب، ولكان هو أول من يسقط عنه التكليف في هذا الفردوس الغنوصي!
هذا التحول التدريجي في انتقال الانتباه، هو الذي يقوِّض كذلك -تدريجيّا- هيمنة المعارِف الكليَّة على الوجود الإنساني ليُحِلَّ محلها اللاهوت التاريخي (أو التنظير للهوى والفهم الشخصي!)؛

وبسبب غفلة أكثر بني آدم عن هذه الحقيقة؛ فإن إنصاتهم للوحي (عن طريق السلسلة التي تصلنا بحضرة الموحى إليه) حين يتجسَّد في حركة جدليَّة تَضِجُّ بالحياة، على مقتضى الأمر الذي تُعبر عنه هذه الكليات؛ فإن ذلك يُفضي بهم تدريجيّا إلى انتقال انتباه الإنصات البشري من الأمر الإلهي (الذي صدرت عنه حركة كل شيء ابتداء) إلى ضجيج الحركة/ التاريخ؛ لينشأ اللاهوت والجدل الدائري (أو علم الكلام)؛ الذي يظنه البعض هو نفسه معرفة كليَّة!

هذا التحول التدريجي في انتقال الانتباه، هو الذي يقوِّض كذلك -تدريجيّا- هيمنة المعارِف الكليَّة على الوجود الإنساني ليُحِلَّ محلها اللاهوت التاريخي (أو التنظير للهوى والفهم الشخصي!)؛ إذ أناط رب العزة بالمكلَّفين الاضطلاع بتحقيق هذه الهيمنة باختيارهم الحر، ليرتكس الإنسان بطول الأمد، ويبتعد عن التنزيل، ويخلد إلى الأرض، ويتبع الهوى. فإن الهوى لا يستطيع مُزاحمة المعارف الكليَّة، ما لم تكن الأخيرة قد توارَت بالفعل في نفوس المكلَّفين، أو تهمَّشت، وانطفأت فعاليتها؛ فانصرف العبيد إلى التفاصيل والإجراءات، وغفلوا عن العظائم وعن الغاية العليا للحياة. 

وسنتناول في مقالنا التالي -إن شاء الله- هيمنة المعارف الكليَّة، وكيفية إدامة هذه الهيمنة بدوام تجلية هذه المعارف وإحيائها، وإعادة محاكمة التفاصيل الإجرائيَّة والتقنية لها؛ فبهذا وحده يُستنقذ الإيمان من الشرك الخفي.
التعليقات (0)