هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مما يُنسب للخليفه العباسي هارون الرشيد قوله لابنه المأمون: "يا بني: الملك عقيم، ولو نازعتني أنت عليه لأخذت الذي فيه عيناك"، أي لضربت عنقك بالتعبير الأوضح.
هي معادلة تاريخية لا
تخصّ ملة دون أخرى، ولا عرقا دون آخر، وحكايات التاريخ أكثر من أن تُحصى على هذا
الصعيد، وهي ذاتها التي أفضت بعد قرون من القتل والدمار والخراب في الغرب إلى صيغة
"التداول على السلطة"، أو ما يُعرف بالديمقراطية.
والحال أن الصراع
المرير الذي شهده الغرب فيما بين دوله، لم ينته إلى صيغة التداول على السلطة، إلا
بعد حسم القضايا الاستراتيجية (في مقدمتها الهوية)، بحيث بات الوضع مستقرا، ولم
يتبقَ سوى القضايا الأقل شأنا التي يمكن التنازع بشأنها، ولذلك نجد أن مؤسسات
الدولة "العميقة"، وعلى رأسها الجيش والأجهزة الأمنية؛ تمارس عملها دون
تغيير يذكر بين حكومة وأخرى. وحين حدث مثلا أن جاء من يهدّد الهوية كما في حالة
الشيوعيين في أمريكا (الخمسينيات)، تم التعامل معهم بعنف منقطع النظير فيما عُرف
تاريخيا بـ"المكارثية"، نسبة إلى وزير الداخلية حينها (جون مكارثي).
وحين جاء ترامب، ولو بتهديد محدود للصيغة التقليدية في إدارة الدولة وتحالفاتها،
لم يكن من الدولة العميقة إلا أن وجدت صيغة للتخلص منه عبر تشريع التصويت
الإلكتروني الذي يزيد من نسبة تصويت الأقليات المنحازة لبايدن، بجانب العمل على
حرقه شعبيا عبر سلسلة من الكتب والتسريبات.
ليست هذه السطور قراءة
في التجربة الديمقراطية وحاجتنا إليها، بقدر ما هي قراءة في النزيف الراهن الذي
نعيشه منذ انطلاقة الربيع العربي عام 2011، والذي أرهق شعوب هذه المنطقة على نحو
رهيب، ولا زال يستنزفها دون أفق لحل قريب.
وقعت المنطقة منذ ذلك
الحين بين أحلام التمدد المذهبي الإيراني، والتي لا تنتمي إلى مطالب الشعب
الإيراني الحقيقية، وبين جنون "الثورة المضادة" العربية التي لم يكن لها
غير بوصلة واحدة هي "تأديب" الشعوب كي لا تفكر مطلقا بالإصلاح أو
التغيير. ومن يعتقد أن الحملة من قبل البعض تخصّ ما يعرف بـ"الإسلام
السياسي"، فهو واهم، لأن الحرب هي على فكرة الإصلاح والتغيير. ولو حدث أن
تصدرت المشهد الشعبي في الربيع العربي أي قوىً أيديولوجية أخرى، لما كان الموقف
منها مختلفا أبدا، بل ربما كان أكثر عنفا في بعض الحالات.
المتوالية الشيطانية من الفشل الخارجي والداخلي، مع الصدام مع الشعوب ينبغي أن تتوقف
والمصيبة الأكبر التي
نتابعها راهنا هي أن سياسة الرعب الداخلي التي تتبناها بعض الأنظمة لا تنتمي إلى
معادلة "منازعة الحكم أهله" بالمفهوم التقليدي، وإنما بأوهام المنازعة
في كثير من الأحيان، إذ يجري تضخيم أي معارضة داخلية على نحو يجعل مواجهتها تتقدم
في الأولويات على أي شيء آخر.
وكان لافتا أن الأنظمة
التي تولت كبر الحرب على أشواق الشعوب في الحرية والتحرر؛ لم تكن مهددة في واقع
الحال. وإذا صحّ ذلك نسبيا في ذروة الربيع العربي، فإن ما جرى في مصر قد جعل
المشهد مختلفا بالكامل، وصار بوسع تلك الأنظمة أن تتصالح مع شعوبها بقدر مقبول من
الانفتاح والتعددية التي لا تمسّ المنظومة الحاكمة على نحو مهم، لا سيما حين برزت
تحديات أخرى خارجية تواجهها، وفي مقدمتها التحدي الإيراني، والتي تحتاج معها إلى
مصالحات داخلية.
المصيبة أن تلك الأنظمة
قد ذهبت تدفع للخارج، بحثا عن الشرعية والدعم، فيما تواجه الداخل بالرعب والقمع،
وصارت في حالة توتر وفشل دائم، فيما كان بوسعها أن تتصالح مع الداخل، وتخوض تحديات
الخارج باقتدار.
إن هذه المتوالية
الشيطانية من الفشل الخارجي والداخلي، مع الصدام مع الشعوب ينبغي أن تتوقف، ولن
تتوقف من دون تقدير صحيح للموقف، وتبعا لذلك للأولويات. إذ حتى لو افترضنا أن
مطالب الداخل "الديمقراطية" تعد "خطيرة" بمنطق "الملك
العقيم"، فإنها ليست أولوية في الوقت الراهن، ويمكن للشعوب أن تتصالح مع
أنظمة تواجه تحديات خارجية، وتتعاون معها في المواجهة، مقابل قدر مقبول من
الانفتاح السياسي.
ما يجري راهنا هو خلل
في ترتيب الأولويات يفضي إلى رعب وفشل في الداخل، وفشل آخر في مواجهة تحديات
الخارج، الأمر الذي قد يبشّر بانفجارات قادمة، فيما يمكن ترتيب الأوضاع على نحو
مختلف، كما أشير آنفا.
هذا الأمر يحتاج إلى
بعض المنطق والحكمة، مع ترتيب صائب للأولويات. أما المراهقة السياسية والبطش (وفي
زمن مواقع التواصل)، فلن يأتيا بخير، وسيكون الملك عقيما بالفعل، ولكن بمفهوم
التوتر الدائم، ومعه المخاوف التي ستغدو حقيقية مع تواصل الفشل.