هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قبل أن يكون عالِماً في الفيزياء النووية بوقت طويل، كان محسن فخري زاده عضواً في فيلق «حرس الثورة الإسلامية» العماد الأساسي للنظام الإيراني. فقد انخرط في صفوف الحرس فور تشكيله إثر قيام «الجمهورية الإسلامية» في عام 1979، وكان فخري زاده لا يزال آنذاك في مطلع عقده الثالث. ولم يتخصّص في الفيزياء النووية سوى لاحقاً، حاصلاً على دكتوراه من جامعة أصفهان في بداية التسعينيات. ومن الواضح أن اختياره لذلك التخصّص كان وثيق الارتباط بالتزامه السياسي-العسكري، إذ إنها الفترة التي شهدت تأسيس «الحرس الثوري» لمشروع «آماد» الذي شكّل أولى محطات البرنامج النووي الإيراني. وفي عام 2011، أسّس فخري زاده نفسه «منظمة الابتكار والأبحاث الدفاعية» التي خلفت «آماد» في دور الإشراف على برنامج التسليح النووي الإيراني، واسمها لا يدع مجالاً للشك في أن غايتها عسكرية.
وهذا يعني أن اغتيال فخري زاده لا يقل خطورة عن اغتيال قاسم سليماني، قائد جهاز العمليات الخاصة والخارجية في «الحرس الثوري» أي «قوات القُدس» في مطلع هذا العام المشرِف على نهايته. لا بل قد تكون خسارة الحكم الإيراني لفخري زاده أخطر بعد من خسارة سليماني، بالرغم من أن الثاني كان نجماً شعبياً بينما التزم الأول الخفاء نظراً لطبيعة المهام المنوطة به. ومهما يكن، فإن «الحرس الثوري» قد تلقّى هذا العام ضربتين مؤلمتين للغاية. وحيث جاء تصفية الولايات المتحدة لسليماني بتاريخ 3/ 1 ردّاً ظاهرياً على القصف الإيراني المتستّر بالحوثيين اليمنيين للمنشآت النفطية السعودية في بِقَيْق وخُرَيْص في 14/ 9 من العام السابق، فإنه لا يقل وضوحاً أن اختيار الموساد الإسرائيلي لقتل فخري زاده في 27 الشهر الماضي، بعد أن تأكدت هزيمة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كان استباقاً لانتهاء ولاية الإدارة الأمريكية الأكثر تأييداً لليمين الصهيوني في التاريخ، والتي قد لا يعود مثلها إلى الحكم أبداً.
فليست مقنعة حجة القائلين إن عملية الاغتيال لا علاقة لها بالروزنامة الأمريكية إذ تحتاج لأشهر من التدبير. فحتى لو سلّمنا بتلك الحجة، يبقى أن قرار التنفيذ هو ابن الساعة، وليس قراراً يتم اتّخاذه قبل أشهر بلا إمكان الرجعة عنه. أما سبب قرار بنيامين نتنياهو المضي في تنفيذ الاغتيال في هذا الوقت الحسّاس بالذات، فيرتبط بحسابين: أولهما أن مثل هذا الاغتيال قد يصبح أعسر بكثير، إن لم يغدُ مستعصياً، بعد استلام إدارة جو بايدن لمقاليد السلطة. والإدارة الجديدة معروفة بتصميمها على إعادة التزام الولايات المتحدة بالاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة باراك أوباما مع طهران قبل خمس سنوات والذي انسحب ترامب منه قبل سنتين ونصف.
أما حساب نتنياهو الثاني فإنه دفع طهران إلى القيام بردّ فعل من شأنه أن يتيح لإسرائيل غرضين: في حدّ أدنى تعسير مشروع إدارة بايدن في العودة إلى الالتزام بالاتفاق النووي من خلال توتير العلاقات مع إيران؛ وفي حدّ أقصى، وهو الاحتمال الأخطر، توفير ذريعة لإدارة ترامب كي توجّه ضربة عسكرية حاسمة للمنشآت النووية الإيرانية، منفردة أو بالتعاون مع سلاح الجوّ الإسرائيلي.
وثمة سابقة لمثل هذا الحساب عندما بات سلف ترامب الجمهوري والحليف الوثيق لإسرائيل، جورج دبليو بوش، على وشك الخروج من البيت الأبيض كي يحلّ محلّه باراك أوباما. وقد كشفت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية في خريف 2008 وبعدها صحيفة «نيو يورك تايمز» في مطلع عام 2009 أن الحكومة الصهيونية، وكانت آنذاك برئاسة إيهود أولمرت، كانت قد طلبت من إدارة بوش إذناً بعبور الطائرات الإسرائيلية لأجواء العراق الذي كان لا يزال تحت الاحتلال الأمريكي، في طريقها إلى قصف المنشآت النووية الإيرانية بصواريخ مخترِقة للتحصينات، وذلك انتهازاً لوجود بوش في الرئاسة قبل أن يحلّ محلّه أوباما الذي كان فوزه متوقعاً. وقد رفضت إدارة بوش الطلب الإسرائيلي بعد أن أبدى البنتاغون اعتراضه عليه نظراً للعواقب الوخيمة التي قد تجلبها الغارة الإسرائيلية على وضع قوات الاحتلال في العراق.
ومن المعروف أن قادة القوات المسلحة الأمريكية غير متحمّسين للمغامرات التي لا يمكنهم ضمان نتائجها والتحكّم بنطاقها، والحقيقة أن تهديد طهران الدائم من خلال جناح الحكم الإيراني المتشدّد باستعدادها على إشعال المنطقة بأسرها إنما هو عامل أساسي في فعاليتها الرادعة، مثلما هي «لا عقلانية» ترامب في مقابلها. والحال أن استبدال ترامب لمارك إسبر على رأس البنتاغون، بعد الانتخابات الرئاسية بأقل من أسبوع، برجل طيّع لرغباته هو، وليس لرغبات الجنرالات مثلما كان سلفه، ذاك الاستبدال وحتى لو كان تحسّباً لاستخدام الجيش في الوضع الداخلي الذي لا شك في أن ترامب فكّر به، إنما يتيح أيضاً للرئيس الأمريكي ممارسة صلاحياته كقائد أعلى للقوات المسلحة بحرية أكبر. وفي هذا السياق قد يكون الغرض الرئيسي من الجولة الخليجية التي يقوم بها جاريد كوشنر، صهر ترامب الصهيوني بامتياز، التمهيد للعملية. كائناً ما يكن، فإن الخمسين يوماً التي تفصلنا عن حلول بايدن محلّ ترامب في البيت الأبيض محفوفة بمخاطر كبرى، وفي منطقة الشرق الأوسط على الأخص.