مؤرخ أذري: دعم فرنسا لأرمينيا تعود جذوره لعهد الدولة العثمانية

أثار موقف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الداعم لأرمينيا، انتقادات واسعة من الجانب الأذري، الذي يخوض حربا لتحرير أراضي إقليم قره باغ وما حوله، التي فقدت باكو السيطرة عليها قبل نحو ثلاثة عقود؛ إثر استيلاء انفصاليين أرمن عليها، بدعم مباشر من يريفان.

وتفاقمت هذه الانتقادات بعد ورود عدة تقارير تفيد بتوجه مواطنين فرنسيين إلى قره باغ للقتال إلى جانب الأرمن ضد أذربيجان، رغم عضوية باريس بمجموعة "مينسك" الدولية، المكلفة بالتوسط لإنهاء الصراع سلميا.

وفي مقابلة أجرتها معه "عربي21"، قال المؤرخ الأذري، الوصال بن نور الله محمدوف، إن العلاقات الفرنسية الأرمنية يرجع تاريخها إلى نهايات عهد الدولة العثمانية.

وأوضح محمدوف: "كانت لفرنسا دائما مصالح لإنشاء دولة أرمنية في أراضي الخلافة العثمانية ابتداء من القرن التاسع عشر، وفي منطقة قوقاز ابتداء من مطلع القرن الماضي، خاصة في غضون أيام الحرب العالمية الأولى".

ولفت الباحث في معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الأذرية إلى شواهد تاريخية، تكشف، بحسبه، عمق العلاقة بين باريس، والفصائل الأرمنية المتهمة بارتكاب جرائم ضد المسلمين في تلك الفترة.

اقرأ أيضا: صحيفة: ماكرون حرّض أرمينيا.. هكذا رد الرئيس الأذري عليه

وقال "محمدوف" إن الجنرال الأرمني "أندرانيك أوزانيان" (1865- 1927)، المتهم بارتكاب جرائم بشعة، منح وسام "جوقة الشرف"، من قبل الرئيس الفرنسي آنذاك، ريمون بوانكارية.

وعزت باريس قرارها آنذاك إلى أن الجنرال الأرمني "قدم خدمات لا مثيل لها للحلفاء ضد العثمانيين".

وتابع محمدوف بأن "أوزانيان" متهم بتدمير نحو 115 قرية أذرية، وقتل آلاف المدنيين في إقليمي قره باغ و"زانجازور"، الذي كان آنذاك جزءا من الأراضي الأذرية.

نفوذ في الداخل الفرنسي

ولفت "محمدوف" إلى دور مهم للجالية الأرمنية في أوروبا عموما وفرنسا تحديدا، الذي ظهر تأثيره على موقف باريس منذ حرب قره باغ الأولى مطلع التسعينيات.

وأوضح أن أكبر جالية أرمنية في أوروبا، ويبلغ عدد أبنائها نحو 600 ألف، قد توغلت في المجتمع الفرنسي، ولها أثر لا ينكر في الشؤون الفرنسية، سواء كانت داخلية أم خارجية.

وتابع: "هذا العدد الضخم يجعل السلطات الفرنسية تعتد بالكيان الأرمني عند اتخاذ القرارات وممارسة السياسات داخل البلد وخارجه، خاصة أخذ الحكومات والسلطات المحلية الفرنسية بعين الاعتبار ضرورة كسب أصوات هذه الجالية في الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية".

وقال: "ليس من الصدفة أن أول وثيقة رسمية تنص على ما يسمى المجزرة الأرمنية كانت قد صدرت في فرنسا".

ولا تنكر تركيا حدوث أعمال قتل إبان الحرب العالمية الأولى، لكنها تقول إن الأمر يتعلق بطرفين متحاربين وليس بمدنيين، لا سيما أن الأرمن حملوا السلاح ضد الدولة العثمانية آنذاك. وفي المقابل تؤكد أرمينيا ودول غربية أن أعمال "تطهير عرقي" جرت، وهو ما تستنكره أنقرة في كل الأحوال، وممارسة ضغوط عليها بشأنه، طالما أن الأمر يتعلق بحدث سابق لظهور الدولة التركية.

اقرأ أيضا: ممثل أذربيجان بمنظمة التعاون الإسلامي: الحرب ستشتعل أكثر

حسابات ماكرون

وإلى جانب تلك الحسابات، فإن السياسات الأخيرة للحكومة الفرنسية التي تم اتخاذها تجاه قضايا مرتبطة بالمسلمين عامة، ومنها نزاع قره باغ، بحسب "محمدوف"، ترتبط أيضا بتوجهات شخص الرئيس إيمانويل ماكرون، التي "تتسم بحقد ظاهر ضد الإسلام والمسلمين وقضاياهم، سواء كانت في داخل فرنسا أم خارجها"، وفق تعبيره.

وشدد الباحث الأذري على وجود علاقة شخصية تجمع ماكرون ورئيس الوزراء الأرمني، نيكول باشينيان.

وأضاف أن الرجلين تجمعهما أيضا علاقات وثيقة بالملياردير اليهودي الشهير، جورج سوروش، الذي ينسب له العمل على إخراج يريفان من معسكر روسيا إلى التكتل الغربي.

ويحاول ماكرون، بحسب محمدوف، استغلال الفراغ الذي نشأ نتيجة عدم نيل أرمينيا دعما من روسيا والولايات المتحدة، ومن ثم تعزيز ظهوره على الساحة، وكذلك نفوذ باريس المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة.

ولفت في هذا السياق إلى أن ماكرون أعرب عن قلقه إزاء ما قال إنه تشجيع تركيا لأذربيجان لاستعادة أراضيها، مؤكدا: "لن نقبل بهذا"، وذلك في تصريح خلال زيارة إلى لاتفيا في 30 أيلول/ سبتمبر الماضي.

واتهم ماكرون أنقرة آنذاك بإرسال "مرتزقة سوريين" للقتال إلى جانب أذربيجان، دون الإشارة إلى أدلة بهذا الخصوص، فيما لم يعلق على إعلان مواطنين فرنسيين التوجه إلى قره باغ عبر حساباتهم المعلنة على وسائل التواصل الاجتماعي.

وعلّق محمدوف بالقول: "هذه التصريحات الصادرة عن الرئيس الفرنسي تدل على أنه يقف إلى جانب أرمينيا، ويؤيد موقفها الذي يتسم بعدم الرغبة في سحب قواتها المسلحة من الأراضي المحتلة".

وأضاف: "كما أن تصريحات ماكرون لا تتجاوب مع كون فرنسا أحد الرؤساء المشاركين لمجموعة مينسك التي تم تأسيسها عام 1992 لإنتاج حلول سلمية للنزاع.. وهو يتجاهل بذلك القانون الدولي الذي يعترف بأن قره باغ هي أراضي أذربيجانية".

وتابع: "يبدو أن ماكرون لا يهمه القانون الدولي، بل يهمه أن ينتخب مرة أخرى، ويكون رئيسا لفرنسا مرة ثانية. لذا؛ عن طريق مثل هذه التصريحات، يحاول أن ينال أصوات الجالية الأرمنية في الانتخابات الرئاسية القادمة في فرنسا عام 2022".

مقاتلون في قره باغ

وأكد محمدوف وجود تدفق لمواطنين فرنسيين إلى قره باغ للقتال إلى جانب الأرمن ضد أذربيجان.

ولفت في هذا السياق إلى إعلان العقيد "جيلبير ميناسيان" الملقب بـ"ليفون"، الذي شارك في حرب قره باغ الأولى، التوجه مجددا إلى ساحة القتال إلى جانب الأرمن في 9 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، على رأس مجموعة تتألف من 15 مقاتلا.

وتابع بأن الأمر ليس سرا، وقد بثت قناة "فرانس24" مقابلات مع أشخاص انتقلوا إلى أرمينيا من أجل القتال.

اقرأ أيضا: فرنسيون في حرب قره باغ.. "صراع عالمي ضد المسلمين" (صورة)

واستهجن محمدوف صمت السلطات الفرنسية أمام انضمام المواطنين الفرنسيين إلى "كيان إرهابي غير معترف به دوليا"، كما وصفه، مقارنا ذلك بإجراءات باريس المشددة ضد من ينضمون إلى مجموعات متطرفة محسوبة على المسلمين.

ومؤخرا، أفادت صحف فرنسية بأن "مارك دي كاكويراي فالمينيه"، زعيم مجموعة "Zouaves Paris" اليمينية المتطرفة بالبلاد، أعلن التوجه إلى إقليم "قره باغ" للقتال إلى جانب الأرمن ضد أذربيجان، في إطار ما يقول التنظيم إنه "صراع عالمي ضد المسلمين".

وأوضحت صحيفة "Liberation" أن الزعيم المتطرف نشر صورة على حساب خاص عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر فيها مرتديا لباسا عسكريا ويحمل رشاشا.

ويعرف "دي كاكويراي فالمينيه" نفسه بأنه "فاشي"، بحسب الصحيفة، ويؤكد انتهاج منظمته أيديولوجية "النازية الجديدة".

وأعلنت المجموعة مرارا دعمها للانفصاليين والقوات الأرمنية في الإقليم المحتلّ منذ عقود، في إطار "صراع عالمي ضد المسلمين"، معتبرة أن "مستقبل قارتنا وحضارتنا على المحك في قره باغ"، بحسب "Liberation".

ولم يتضح عدد الفرنسيين المتواجدين في قره باغ للقتال إلى جانب الأرمن ضد أذربيجان.

وأرفق الزعيم المتطرف العلم الأرمني بالمنشور، مع شعار "الجمجمة" الذي تستخدمه بعض وحدات قوات الأمن الخاصة، مع عبارات من قبيل: "الاتجاه: الجبهة".

وأعرب "دي كاكويراي فالمينيه" عن رغبته بإنشاء "لواء من المتطوعين الأجانب" بالتعاون مع الأرمن، بحسب الصحيفة.

شواهد على "الانحياز"

واستنكر محمدوف بشدة وجود فرنسا في مجموعة دولية يفترض بها الحياد، على أقل تقدير، فضلا عن تطبيق قرارات الأمم المتحدة القاضية بانسحاب الأرمن من قره باغ، والحفاظ على وحدة الأراضي الأذرية وسيادة باكو عليها.

وتأسست المجموعة، التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، عام 1992، لإيجاد حل سلمي للأزمة،
ومنذ 1994، تشارك الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا في رئاستها.

وأشار محمدوف إلى عدة شواهد على الانحياز الفرنسي، بل والدعم المباشر وغير المباشر لـ"الاحتلال الأرمني"، فضلا عن موقف ماكرون.

ولفت في هذا السياق إلى تقديم بلديات فرنسية دعما بعشرات آلاف اليوروهات للإدارة الأرمنية الانفصالية في قره باغ، فضلا رفع علم الانفصاليين داخل مقار تلك البلديات، وهو ما جرى بشكل معلن.

وقال رئيس الإقليم، لوران فوكه، تعليقا على الدعم الفرنسي، منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي: "إنهم لن يتركوا جمهورية أرمينيا وأرتساخ (الاسم الانفصالي لقره باغ) في الضيق والخذلان".

وفي 12 تشرين الأول/ أكتوبر، توجه أطباء فرنسيون إلى أرمينيا؛ للمشاركة في علاج جرحى الانفصاليين، فيما أجرى برلمانيون زيارة في وقت لاحق من الشهر ذاته، شملت الأراضي المحتلة. 

وأشار محمدوف أيضا إلى نشاط مكثف للفرع الفرنسي من صندوق "هاياستان" الأرمني، الذي يعمل في 19 دولة حول العالم، في حملة جمع تبرعات تحت شعار "نحن حدودنا: كل شيء من أجل أرتساخ".

وما يثبت وجود علاقة وطيدة بين الجانبين "الإغاثي" والعسكري، بحسب محمدوف، توجه الفرنسيين من أصول أرمنية، الشقيقان "هامليت" و"داود" أوفسيبيان، لحمل السلاح في قره باغ، بعد عملهما بحملة تبرعات في فرنسا أطلقتها منظمة "Hayordi Association".

وختم محمدوف باستنكار انجرار الغرب، لا سيما فرنسا، إلى فخ ترويج الأرمن للصراع على أنه "مسيحي إسلامي"، وفق تقديره، متهما يريفان بدغدغة المشاعر الدينية للأوروبيين، والترويج لسردية أن الأرمن يواجهون مظلومية لكونهم "أول شعب اعتنق دين المسيح".