كتاب عربي 21

لصوص الساعات

أحمد عمر
1300x600
1300x600
السباق لا يتوقف، منذ أول الخليقة، منذ قابيل وهابيل.. السباق صراع على نهب الزمن واحتكاره. كل صراع البشر هو للاستحواذ على الزمن، الطاغية هو أكبر المغيرين على الزمن في مملكته، هو يملك المكان الذي اسمه الوطن، ثم يجتهد في امتلاك الزمان، لكن الزمان لا يمسك.

شأن الطاغية هو العبث بتوقيت ساعة الشعب، هو لص كبير، هو بطل النظرية النسبية المضادة، هو أكبر اللصوص، هو سيدهم. الطاغية يسرق المال ويسرق الزمن.. الأعمار زمن في هيئة بشر، المال زمن مجمد على شكل عملة أو ذهب، ليس أثمن من الزمن، هو أثمن من اللؤلؤ والمرجان.

عندما كان السيسي وزير دفاع، وعد بعدم تدخل الجيش في السياسية وإلا تأخرت مصر أربعين سنة للوراء.

قال ذلك في تسريب شهير، ثم صارت ستين سنة، لأن مصر فقيرة قوي، ثم أعاد عهد الفراعنة البائدين، بل إنه سبق الفراعنة في التأله، فالفراعنة القدماء كانوا يستعبدون الغرباء مثل بني إسرائيل ليكونوا خدماً وعبيداً للمصريين، والسيسي يستعبد المصريين لبني إسرائيل، وتلك قسمة ضيزى، وما رأيناها في آبائنا الأولين، وما اقترفها طاغوت قط!

حافظ الأسد كان يلعب اللعبة نفسها، لعبة تعطيل ساعة الشعب. نحن نظنُّ أنه جاسوس على شعبه مثل السيسي، بل نعتقد بذلك اعتقاداً. هو جاسوس يتقن لغة مواطنيه ونشأ بينهم، أخّر سوريا نصف قرن، وربما أكثر، ثم جاء ابنه، وقامت الثورة التي حاولت استعادة ساعة الشعب المسروقة، واضطر إلى كشف اللعبة، والتي لا يزال يلعبها على بعض الغافلين أو المستغفلين، مع أنه باع سوريا بيعاً مكشوفاً مثل السيسي، فالطاغية لص زمن، يسرق زمن الشعب ليحافظ على عمره وعمر أولاده مصاناً، في سدة الحكم والسلطان. هو سادن الساعة، حتى إنه ليُسمّى صاحب الزمان.

الاعتقال هو تعطيل لزمن المعتقَل، هو قطع لعمره، هو قتل جزئي، والقتل إعدام تام لزمن المقتول. الميت يصير خارج الزمن المقاس، يصبح في زمن الله الثاني، وكل الأزمان لله. قانون الطوارئ قانون لحبس الشعب في مساحة كبيرة هي الوطن ، منعاً له من النظر في الساعة، إذ يصعب حبس شعب في زنزانة، لكن يمكن تحويل الوطن إلى زنزانة بالطوارئ والقيود، وهي أذكى طريقة للاعتقال حتى الآن، بل إنَّ سجون أمريكا اللاتينية أكرم من أوطان بعض العرب، مثل سجن سان بيدرو في بوليفيا، فللسجين حرمة أفضل من حرمة المواطن في بعض الدول العربية، فليس فيها تهمة مثل تهمة توهين روح الأمة أو العبث بالأمن القومي بتغريدة.

الحداثيون ينظرون بالتوقيت الميلادي الغربي، والقداميون ينظرون بالتوقيت الهجري، الطاغية يخشى الاثنين. يريد توقيت ساعته.

سنعود إلى قابيل، الذي قتل هابيل حسداً، فقد سبقه أخوه هابيل إلى الله، السباق يعني تقدماً في الزمن، ويعني تقرباً إلى الله، ويعني الفوز في الدنيا أيضاً. فالطاغية يغار من الأتقياء لأسباب كثيرة؛ فإما أنهم يذكّرونه باليوم الآخر، وهي ساعة الحساب، وإما لأنهم قد يخلبون ألباب المواطنين بتذكيرهم بزمن كريم، فيكون مصيرهم السجن أو القتل.

وقد كشف الرئيس الفرنسي ماكرون عن حسده الديني وهو يدّعي العلمانية، فذكر الإسلام بسوء، ووصفه بأنّه "دين في أزمة". وصف الرجل الإسلام، وليس المسلمين! وقد حبست فرنسا الممالك والدول التي احتلتها عن الزمن الواقعي، وعطلت زمنها قروناً، وبعضها لا يزال في القرن الماضي مثل هايتي التي احتلتها فرنسا، وسرقت أعمار أهلها إلى بلادها، وبالمقارنة بينها وبين جمهورية الدومنيكيان، التي احتلها الإسبان سنجد الفارق كبيراً.

توقيت الدكتاتور غير توقيت الشعب، ساعته مختلقة، يوصف بأنه "منفصل عن الواقع"، وهو تعبير مترجم، إنه يعمل بتوقيت آخر، زمنه غير زمن شعبه، لا يمشي إلا على السجاد، وقاية له من الصدمات ، كأنه مصاب بالناعور، فإن سقط وجُرح، مات على الفور. لو يتواضع قليلاً ويمشي على سجاد بني اللون!

أحيانا ينزل الرئيس إلى الأرض من مركبته الفضائية أو من كوكبه، من أجل صورة تذكارية مع أحد مواطنيه من أهل الأرض. كل شيء عند الدكتاتور سريع وفوري، على نقيض المواطن الذي ينتظر دهراً ليبني غرفة تقيه البرد، وينتظر ساعات ليحصل على الرغيف. إحدى دعاوى البعثيين كانت هدم تكافؤ الفرص، وعندما تولوا خسر الشعب الفرص.. الفرصة زمن.

خشية الدكتاتور الكبرى أن يستقر مواطنه في بيت كريم، ويمتلك بعض وقته، فيجب تعطيل ساعته، يجب ألا يرفع رأسه، هو ممنوع من النظر إلى السماء، ليرى الشمي والقمر، يجب أن ينشغل بالحاجة، أو الألم، أو بالشكوى، وسيكون تدمير الغرفة التي عمّرها، ليسكن فيها بذريعة أنها مخالفة للقانون الجديد، مكسباً من عدة جهات: الأولى أنه يعطّل المواطن عن اللحاق بقطار الزمن، الثاني أنه يمكن بيع أرض هذا المواطن، وشراء وقود لمركبة الطاغية.

الزمن هو شكل من أشكال الروح، الأسد يطلب مئة دولار من كل عائد سوري، مع أنه مخالف للدستور الذي صنعه على عينه، مئة دولار تعني شهراً من العمل، الرئيس يريد شهراً من عمر كل مواطن عائد، يضيفها إلى عمره المهدّد بالقصف، أما أعمار المقيمين في أرضه فهي مسروقة.

الأسد يأمل أن يجد فرجة في الإدارة الأمريكية ينفذ منها، فقد قام بوظيفته على أتمِّ وجه، وكان مخلصاً، لكن الإخلاص ليس كافياً لنيل رضى الغرب. خوف الغرب هو من تحكم الشرق بوقته، والانتباه من الغفلة، يجب أن نتذكر أن ماكرون عانق مطربة ولم يعانق عالما أو مفكرا.

السيسي يريد تحويل أعمار المصريين إلى مال منقول، الفقير قصير العمر، وإن طال مكثه على الأرض. الأرض أرضه حسب قانون الطوارئ، وهو يجتهد في سرقة أعمار المصريين ليعيش بها. بناء المدينة الإدارية يعني الهروب من زمن الشعب. ومن لطف الله أنّ المجني على وقتهم يستطيعون الاحتيال على حارس الزمن الأرضي بالأحلام أو بالنكات، هي حل فردي لكنها لا تصنع حضارة.

قديماً، لم يعرف العربُ الطغاةَ إلا نادراً! كما في أخبار قبيلة طسم وزعيمها عمليق، أو كليب وائل، لكن لم يسبق لهم أن عرفوا طاغية مثل الطاغية المعاصر، الذي بلغ به حقده وجشعه أن يحطم ساعة شعبه، وأن يحوّل حاضرهم إلى حساب في البنك، أو في صندوق مثل صندوق تحيا مصر، حتى إنَّ التاريخ القديم الوثني الفرعوني، أو التدمري القديم يباع للغرب كفرجة، فالتاريخ زمن مصمّد، ويعرض في متاحف الغرب أو في متاحف الدول الشقيقة الغنّية، ويحوَّل إلى زمن سائل ومنقول اسمه المال.

سرقة الأعضاء من أجسام المواطنين ليست شيئا بالمقارنة مع سرقة الزمن الصافي من أعمارهم. قد تطول ساعات الطاغية، لكن لم يثبت أن طاغية استطاع أن يسرق "الوقت" و"القوت" معاً، سرقة الاثنين نذير بساعة جديدة.

twitter.com/OmarImaromar
0
التعليقات (0)