هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يعجبني تكرار القول من قبل عدد من الناطقين الرسميين الفلسطينيين، بأن القيادة فوجئت بما فعلته دولة الإمارات، ذلك أن هذا القول ولّد انطباعا لدى كثيرين، بأن قيادة واحدة من أهم القضايا الكونية محدودة الخبرة في قراءة المقدمات واستنتاج الخلاصات، خصوصا أننا نعيش في زمن لا أسرار فيه.
وفيما يتصل بدولة الإمارات، فإن المسار العلني
لسياستها الذي تجسد بمحطات محدودة في أمر العلاقة مع إسرائيل، كان واضحا بما يكفي
لاستنتاج مبكر بأن هذا المسار لا بد أن يفضي إلى ما حدث أخيرا.
وهذا الأمر على أهميته في صنع السياسات، إلا أنه
ليس بيت القصيد وبالإمكان تجاوزه، ليتركز الاهتمام على تحليل الخطوة وما سينجم عنها
حاضرا ومستقبلا، وكيفية التعامل معها ومع ما سيتلوها من تطورات.
الخطوة الإماراتية جسدت أول ما جسدت انقلابا
على مفهوم الموقف العربي من العلاقة مع إسرائيل، الذي بني على قاعدة الالتزام
الجمعي بنص وروح المبادرة العربية للسلام، تلك المبادرة التي جسدت جدارا استناديا إن لم يوفر حلا للقضية فبالتأكيد وفر تعظيم رصيد الفلسطينيين في محاولات الحل،
آخذين في الاعتبار أن المبادرة العربية للسلام على سوء خدمتها هي النص الوحيد
المجمع عليه عربيا وإسلاميا والمحترم دوليا؛ كون المبادرة أضيفت إلى مرجعيات السلام
المنشود.
لقد تعرض هذا المفهوم إلى اختراق فادح، وحال
التحاق عدد آخر من الدول العربية بما فعلته الإمارات، فسوف يتحول الاختراق إلى تحدٍ
يهدد الجدار الاستنادي، وليستبدله ببوابة تطبيع مسبق مع إسرائيل، ما يؤدي تلقائيا إلى نقل الحقوق الفلسطينية من موقع الأولوية الاشتراطية إلى موقع مختلف، هو
ارتهانها بما يفيض عن حاجات إسرائيل والمطبعين معها.
انقلاب المفاهيم يقود منطقيا إلى انقلاب في
المعادلات، فمن سيتحدث بتسوية تفاوضية بعد أن وضعت عربتها أمام حصانها، ومن سيتحدث
بحل الدولتين الذي وصل ازدهاره ذات يوم إلى أن يُمنّيَ الفلسطينيين بما يزيد عن 90
بالمائة من أرضهم، واسألوا إيهود باراك وبل كلينتون وحتى أبو مازن وأولمرت عن
معادلة التبادل التي محيت الآن لتحل محلها معادلة ضم بلا مقابل. إن أقصى ما يحتفل
به الآن أن الضم أرجئ لبعض الوقت!
وبصرف النظر عن صدقية القبول الإسرائيلي السابق
في كل ما جرى من مفاوضات ووعود، إلا أن ما كان فيما مضى لن يعاد طرحه بعد أن سحبت
دولة الإمارات البساط من تحت أقدام الرواية الفلسطينية والعربية في أمر التسوية.
إذن، الانقلاب على المفهوم وما أنتج من مفاهيم
فرعية، ثم تأثير هذا الانقلاب على المعادلات السياسية، وضع أمام الفلسطينيين تحديات
إضافية، ولم يعد بمقدورنا القول إن إمكاناتهم في التغلب عليها تحظى بفرص أفضل من
الفرص السابقة.
لقد أتلف الاتفاق الإماراتي جزءا من الرصيد
الفلسطيني، فما كان بعضه له صار عليه خصوصا إذا ما لحقت دول أخرى .
الفلسطينيون بحاجة لمزيد من التدقيق في أوراقهم
الحقيقية وتجنب الاعتماد على الافتراضية، لم يعد فعالا مناشدة الدول العربية لوقف
الاندفاعة نحو التطبيع المسبق مع إسرائيل ما دامت مصر معه، والسعودية كان الله في
عونها على الضغوط التي لم ولن تتوقف عليها من قبل الأمريكيين المستعجلين على
استقطابها نحو تطبيع؛ إن لم يكن على الطريقة الإماراتية فعلى الطريقة المصرية، كما
لم يعد مجديا الرهان على ذلك المصطلح المفرغ من الفاعلية الذي هو المجتمع الدولي، بعد أن رأينا اتجاهات دوله الوازنة التي رحبت بخطوة الإمارات، وسترحب حتما بمن
سيفعل مثلها.
كما لم يعد منطقيا الطلب من صناع صفقة القرن
وإفرازها التطبيع الإماراتي، أن يتراجعوا عما فعلوا أو أن يخفضوا وتيرة الاندفاع
من واقع التطبيع إلى التحالف ما دام الشبح الإيراني قيد التداول.
المجدي الذي إن لم يوقف هذا الطوفان التطبيعي
الخطر، فباستطاعته الحفاظ على السلاح الأهم الذي يمتلكه الفلسطينيون، وهو صمود
ملايينهم على أرضهم وملايينهم خارج الأرض، وكلهم لا يرون فيما يجري أي مزايا لهم
ولو بالحدود الأدنى من الدنيا.
والصمود على الأرض له مقومات وروافد تغذية ولا
مناص من توفيرها، وأولها تنظيم هذه الملايين في إطار مؤسسات حديثة تكفل إدارة سليمة
لحياتهم، ومرافقهم وحركتهم السياسة الداخلية والخارجية.
وفي أمر الوحدة الوطنية، لا يكفي الاتصال
الهاتفي النمطي الذي يجري بين الأخ هنية مع الرئيس عباس كلما تعرضنا لجائحة سياسية
كبرى، كما لا تُقنع مشاركة مندوب عن حماس والجهاد في اجتماع القيادة؛ لأن المقنع
حقا أن يرى الفلسطيني خروجا عن الأنماط غير المجدية في السلوك الداخلي والخارجي،
الذي صار متكررا ولا يسمن ولا يغني من جوع.
ونقطة البداية التي سيحترمها الفلسطيني والعربي
والعالم هي تحدي إسرائيل على الأرض بالإعلان عن موعد لانتخابات تشريعية ثم رئاسية، تعيد الحياة إلى النظام السياسي الفلسطيني.
إن مقاتلة إسرائيل على صندوق الاقتراع أشرف
وأرقى وأجدى ألف مرة من مقاتلتها على استيراد البقر مثلا، أو دعوتها لتسلم البلاد
والعباد كما لو أننا حيال تركة ثقيلة يجري التفكير في كيفية التخلص منها، مع أننا
حيال تحدٍ مصيري يتطلب حشد كل الطاقات الوطنية لمواجهته وليس الهروب منه.
في مقالة للدكتور حنا ناصر، أورد فيها ما دار
بينه وبين الرئيس محمود عباس مؤخرا من حديث حول الانتخابات، فيها الكثير والمهم مما
يشجع، ما أظهر أن ليس مستحيلا التوجه نحو هذا الخيار اليوم قبل الغد.
إن ما هو أهم من ترميم نظامنا السياسي عبر
الانتخابات، هو توجيه رسالة للعالم كله تقول؛ إن من يجري انتخابات عامة في بلده وعند
شعبه هو صاحب الأرض ومالك المصير، وهذه المرة لا لزوم لانتظار موافقات إسرائيلية
على هذا الخيار.