هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بشكل مفاجئ من حيث التوقيت لا المضمون، أعلن الرئيس الأمريكي عن التوصل إلى اتفاق "سلام" بين أبوظبي وتل أبيب، يقضي بتطبيع العلاقات بين الطرفين، صهر الرئيس جاريد كوشنر خلال تفاخره بهذا الإنجاز التاريخي أكد أن العمل جار لأكثر من عام ونصف العام للوصول إلى هذه اللحظة "التاريخية"، حتى إن الرئيس الأمريكي قال مازحاً إنه كان بوده أن يضع اسمه على هذه الصفقة ولكنه يعلم أن الإعلام لن يتقبل ذلك، وفي غمرة الاحتفالات في العواصم الثلاث بالسلام خرج المسؤولون الإسرائيليون ليكذبوا مزاعم أن الاتفاق جاء بتنازل إسرائيلي عن ضم الضفة، وأمطر الكيان قطاع غزة المحاصر بوابل من الصواريخ، وأعلن عن تنفيذ حكم السجن في الشيخ رائد صلاح تثبيتاً لنفيه أن يكون في الاتفاق أي مصلحة لأصحاب الأرض الفلسطينيين وتأكيداً على صورية الحديث عن مكاسب ولو مؤقتة للقضية الفلسطينية.
التطبيع الإماراتي بحد ذاته ليس مستغرباً، أولاً تجمع أبوظبي بالكيان علاقات دافئة لسنوات منذ التعاون في عملية اغتيال المبحوح مروراً بالوفود وتبادل الزيارات والتوافق حول عدد من الملفات الإقليمية ودعم صفقة القرن وصولاً إلى هذا الاتفاق، وثانياً هذا الاتفاق وإن كان استثنائياً من حيث شموليته إلا أنه ليس حالة التطبيع الخليجية الأولى، فباستثناء الكويت كل الدول الخليجية لديها اتصالات مع الكيان إما بهدف تحقيق مكاسب لدى واشنطن أو في إطار التعامل مع الملف الفلسطيني، ومع تزايد الضغط الأمريكي واستمرار الخلافات العربية العربية وتراجع أولوية ومركزية القضية الفلسطينية لأسباب مختلفة تتسارع وتيرة التطبيع عربياً وخليجياً، ومن المتوقع أن تشهد المرحلة القادمة كما صرح أكثر من مسؤول أمريكي وإسرائيلي إعلانات أخرى لدول مختلفة، أبوظبي أرادت السبق وكان لها ذلك وأرادت زيادة الضغط على بقية الدول للهرولة نحو التطبيع ويبدو أنه سيكون لها ذلك.
على المستوى السياسي قدمت أبوظبي تنازلاً إستراتيجياً لصالح مكاسب متصورة وتكتيكية، يتصور صانع القرار في أبوظبي أن هذا الموقف سيسجل له نقاطاً لدى إدارة ترمب المحبطة من فشل صفقة القرن وفشل أبوظبي والرياض في الضغط على الفلسطينيين وغيرهم لقبولها، وبالتالي سيخفف ضغط إدارة ترمب عليهم في ملفات مختلفة وسيمكن من الحصول على ضوء أخضر أخير من ترمب قبل الانتخابات القادمة لتحقيق خطوات ميدانية في الأجندة الإماراتية، على مستوى آخر ينظر لهذا الاتفاق باعتباره صمام أمان أمام تغير الإدارة الأمريكية، حيث إن أي إدارة قادمة أياً كان انتماؤها السياسي سيصعب عليها تجاوز الاتفاق وسيعطي هذا ميزة تنافسية لأبوظبي، وقد يكون ذلك واقعياً على المدى القريب ولكن هذا التنازل الإستراتيجي يفرغ حقيبة التنازلات في المنطقة، وبالتالي ستسقط الميزة التنافسية سريعاً وسيعود الكيان ومن خلفه واشنطن إلى ممارسة ضغوطه المعتادة في المنطقة دون اعتبار لمن بدأ أولاً، أما التعويل على إدارة ترمب فأثبت سابقاً أنه غير مجد في مختلف المنعطفات، فهذه إدارة غير منضبطة في علاقاتها الخارجية وغير قادرة على تقديم ميزات حقيقية لحلفائها ولا مواجهة خصومها بشكل حقيقي، وعلى أي حال لم تحقق الدول المطبعة سابقاً قفزات حقيقية في دورها الإقليمي، على العكس فإن تلك الأنظمة تراجع دورها بشكل كبير على الرغم من تماديها في خدمة أهداف الكيان الصهيوني ولم تحصل على حماية من واشنطن حينما هبت عليها رياح التغيير.
بالإضافة إلى قرب موسم الانتخابات في واشنطن يبدو أن هناك دافعاً آخر وراء توقيت الصفقة، وهو تراجع دور الرياض الحليف الأكبر لأبوظبي مع تزايد الضربات التي يتلقاها النظام دولياً، وآخرها قضية سعد الجبري وتداعياتها في واشنطن، وتبدو الرياض في حالة شلل سياسي دبلوماسي يجعلها غير قادرة على التعاطي مع الملفات التي تتشارك فيها مع أبوظبي في اليمن وليبيا وفي إدارة العلاقة مع ترمب، وعليه يبدو أن خيار أبوظبي القادم هو أن تكون إسرائيل الحليف الإستراتيجي فوق الطاولة وليس تحتها، ولكن قراءة بسيطة في ردود الأفعال الإسرائيلية تدل بوضوح على أن الحماس لهذه الصفقة ليس عاماً بل هو محصور في نتنياهو وفريقه والذي ينظر الكثير من المحللين الصهاينة على أنه المستفيد الوحيد من هذه الصفقة، بل إن السياق المحلي للحديث حولها يعتبر أن نتنياهو قدم تنازلاً غير ضروري بتأخيره ضم المستوطنات ولذلك خرج هذا الأخير مؤكداً على أن هذا الاتفاق يأتي في إطار عقيدة السلام مقابل القوة وأن خيار الضم قائم والتأخير هو بسبب عدم وجود دعم أمريكي حالياً وليس في إطار الاتفاق مع الإمارات.
هذا الاتفاق سجل الآن في التاريخ مع تلك الاتفاقات التي لم يكن نتاجها سوى مزيد من الاحتلال وتمدد في الغطرسة الإسرائيلية، وإن كان له من فائدة عربياً فهي تكمن في توحيد الخطاب الفلسطيني وإعادة الملف على الطاولة شعبياً في إطار معارضة الاتفاق والتنديد به، أما القادم من الأحداث فلا شك أنه سيكون مخيباً للآمال وهو ليس نتيجة لهذا الاتفاق وحسب ولكنه نتاج لحالة التشرذم العربية بشكل عام، لم تكن إسرائيل يوماً أقوى ولا أكبر، ولكنها صعدت على سلم الخلافات العربية وسيستمر صعودها ما استمرت هذه الخلافات وما وجدت هذه الأنظمة الوظيفية في المنطقة.
(الشرق القطرية)